الثلاثاء 16 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
آمال موسى
الكراهية الآيديولوجية والمصلحة السياسية
الساعة 16:56
آمال موسى

في الوقت الذي أصبح فيه الحديث عن الآيديولوجيا في الغرب شبه منعدم، حيث تم إعلان موتها منذ سنوات عدّة، نلحظ أن النّخب العربيّة أو لنقل جزءاً منها ما زال يغط في سبات عميق ويتعاطى مع الآيديولوجيات وكأنّها في عصرها الذهبي.

فالغرب لم يمض في ثقافة الأنسنة والكونية إلا بعد أن دفن الآيديولوجيا، وتخلص من سجنها وتداعياتها، في حين أننا لم نتجاوز بعد ما يمكن أن نسميه موضة الآيديولوجيا.

المشكلة أن الآيديولوجيا تنتج نوعاً من التعصب لتصور معين للعالم والحياة والعلاقات الاجتماعية وللفرد وللقيم. والشخص المؤدلج لا يؤمن إلا بآيديولوجيته وما عداها لا معنى له، لذلك اتفق على اعتبار الآيديولوجيا مولدة للعنف والتشدد. وهو ما يفسر لنّا التناحر الفكري والسياسي بين أصحاب الآيديولوجيات المختلفة.

ومنذ السبعينات من القرن الماضي عرفت المجتمعات العربيّة نوعاً من الطفرة في تبني الآيديولوجيات، ومثلت الجامعات فضاءات ممتازة للأدلجة، وتمكنت النّخب الصاعدة من التعرف على الأفكار الكبرى المهيمنة على العالم واختيار ما وافق ميولاتها الفكريّة.

طبعاً الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي سابقاً والولايات المتحدة غذّت ثقافة الآيديولوجيا، وجعلت منها سوقاً فكريّة نشطة، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ الفتور وطلق الكثيرون الآيديولوجيا.

ولكن عندما بدأت الثورات العربيّة، وعاد الإسلام السياسي للظهور وللمشاركة السياسيّة، واستشعرت النّخب الحداثية التوجه الخطر من هذه العودة الصادمة لتوقعاتهم، لاحظنا عودة الصراع المطبوع بالحقد الآيديولوجي، أي أننا رجعنا إلى الخلف في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى قطع خطوات إلى الأمام.
إذن ما يمكن أن نستنتجه أن عودة الإسلام السياسي للنشاط السياسي ولدت حالة من الاستنفار الآيديولوجي المضاد مع استدعاء تاريخ الأحقاد والكراهية وذاكرة كاملة من التواصل المعطوب بين الإسلاميين والماركسيين والقوميين.

المشكلة اليوم أن النزاع الآيديولوجي لا فضاء يُؤطره كما كان الأمر في السبعينات والثمانينات، وظل يتمظهر في مواقف تقوم على التشكيك والتفتيش عن النيات والاتهامات المتبادلة دون بذل أي مجهود من أجل مراجعة آليات التواصل والحوار. هناك استدعاء للصراع القديم نفسه مع تعالٍ خطير على التغييرات التي عرفتها تلك الآيديولوجيات نفسها والسياقات الفكرية لمجتمعاتنا.

وإذا كان الصراع الآيديولوجي القديم متنفساً كي تحقق النخب العربية ذاتها فكرياً، فإن صراع اليوم تهيمن عليه الأفكار المسبقة والروح الثأرية بالأساس، بل إنّ هناك سوء إدارة للصراع ومحاولة لتبني النهج القديم نفسه: الإقصاء.

يبدو لنا أن الإقصاء ليس الحل، والإقصاء الحقيقي هو بالدعوة إلى النّقاش والحوار ومقارعة الحجة بالحجة وكشف الأوراق، وجعل كل طرف يدافع عن رؤيته للتغيير الاجتماعي والتقدم والتنمية.
لقد جربت تونس إقصاء الإسلامويين، وعاشت أكثر من ربع قرن دون إسلام سياسي، ثم حدثت الثورة في 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وعادت قيادات «النّهضة» وشاركت في انتخابات المجلس التأسيسي وكانت الأولى في الفوز بالأغلبية النسبية.

إنّه درس تاريخي يحاول الكثيرون تجاهله وإعادة سيناريو الإقصاء المباشر.
كما نعتقد أنه بعد أن قامت «النهضة» بتقديم تنازلات عند مشاركتها في دستور تونس الجديد لا معنى لإضاعة الوقت في تكرار خطاب لا فائدة تُرجى منه، خصوصاً أن الحداثيين نجحوا في استثمار أصوات حركة النهضة في قوانين ثورية مثل المساواة بين الجنسين وحرية المعتقد وحرية الضمير. بمعنى آخر فإن توريط الخصم السياسي في اللعبة السياسية وفي إصدار قوانين تقدمية هو الذكاء الحقيقي، وهو الأكثر منفعة لمسار التحديث؛ حيث الإقصاء يعني كما علمنا التاريخ ذلك تأجيل للمعارك إلى حين.

هناك اليوم في تونس إثقال لكاهل الفعل السياسي بالحقد الآيديولوجي، وصعوبة بالغة في العمل السياسي المشترك. لم يتم أخذ قرار التوافق السياسي إلى حدّ الآن، لأن كل طرف منغلق على آيديولوجيته بدل أن يكون الالتفاف حول الوطن.

كل طرف يريد الإخفاق للآخر والفضائح السياسية للآخر دون أي اعتبار لتداعيات ذلك على المصلحة السياسية العامّة، وأنّهما كنخبة تمارس الحكم أمامهما توقعات في انتظار الإشباع.

يجب أن تقطع نخبنا روابطها مع الآيديولوجيا وتتعاطى معها كأفكار شخصية خاصة لا يتم إقحامها في المجال العام، فالذي يهم شعوبنا اليوم هو معالجة المشكلات الاقتصاديّة، وخلق آفاق رحبة للشباب والذهاب بعيداً في قيم الحرية والعقلانيّة والمواطنة وإعلاء شأن الفرد ومداواته من جراحه الثّقافية التاريخية.

إنّ الحقد ومهما كان نوعه لم يكن يوماً علامة صحية ولا مصدراً للطاقة الإيجابية. ولا شيء يكشف الحقائق والنيات والمسكوت عنه غير التواصل والطاولات المستديرة... ساعتها يشتغل الضوء الكاشف وترى الشعوب بالعين المجردة من يهمه أمرها ومن يمتطيها جواداً لغاية في نفس يعقوب.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24