الاربعاء 03 يوليو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
منيف الهلالي
فاجعة رحيلها
الساعة 21:55
منيف الهلالي

أي فاجعةٍ تلك التي تنتزع منك إنساناً نصفه أنت، ونصفه الآخر نبض زيتونةٍ؛ حبلها السري أمدك بالحياة حين تفتقت قطرة تكوينك..؟

أي فاجعةٍ..؟ ويرتد الحزن مضرجاً بحسرات ما عادت تجدي غريقاً قشته جزء من أناه..!

أيها القدر: لن اتجرأ عليك كما يفعل الآخرون، بل جئتك راضياً ومعاتباً في آن.. راضياً بما نزعته مني، ورفعته حياً إليك، ومعاتباً؛ كونك لم تدع لي شيئاً من الوقت، كي أرمم خراباً سيورثني الحزن، وأي حزن..؟ ليتهم يعلمون..!

لقد أشعرتني بالضعف أمام وداعها، في لحظةٍ كنت قبلها أراني الشديد القوي أمام الأعاصير التي تجتاح، بصلفها، تفاصيل حياتي المثقلة بالجراح والآهات.. ومع هذا، مازلت غير مصدق لما حدث، رغم أن اليقين رحيلها.. أكاد أجن.. ابنتها "الثريا" تؤكد لي أنها مازالت على قيد الحياة، وستعود الأسبوع القادم، "أمي ذهبت لزيارة الله وترجع"، هكذا حدثتني، ووالدتها مرسومة بدموع مشعة على خدها الكسيف.. "نصر" هو الآخر كنت مازحته قبل رحيلها بيومٍ واحدٍ، حين سألني: أين أمي..؟ فقلت له: ماتت.. جاء اليوم ليقطع ما تبقى من شراييني بقوله: "أمي ماتت من صدق يا خالو"..

 اااااه يا ولدي: هل ستغفر لخالك مزحة نحتت في جدار أيامك نافذة لليتم..؟ كل شيء هنا يذكرني بأمك، ليسحق تحت رحى قسوته ما أبقى لي الحزن من بصيص حياة.. سجادة الصلاة مازالت ممدودة تنتظرها -بغباء - في زاوية الغرفة، كما ينتظرها الجميع، مصحفها الصغير، خمارها المعلق خلف الباب، دفترها، العصا التي كانت تأدب بها صغارها، شريط الشيخ الألباني.. الكل هنا، ومنهم أنا، يتطلعون من النافذة: متى تأتي وأنتَ في يدِها ككل خميس.. هاتفها يشدو تسابيحاً، وآيات خلود، وصيتها تجتاح هواتف الأهل وهي تطلب منهم السماح والصفح، كإحساس صادق بالرحيل؛ حتى أنا من كانت تخشى مراسلتي، أبت إلا أن تودعني بطريقتها، لتزرع فيني أسىً ستحصده روحي المتهالكة في قادم الأيام.. كان آخر كلامها: "إتصلوا لمنيف"، وكان أول انهياري غياباً عن الوعي كثملٍ أسرف ارتشاف مشروبه الروحي المعتق بنية التوبة.. 

ها أنا أكتب يا صغيري فتخنقني الكلمات، وتكتم أنفاسي حشرجات الصدمة، أعود فادعو، ولكني حائر بأي دعاء أمد يدي؛ حتى السماء لم تعد تطيقيني، والشوارع، والأرصفة، وأبواب المساجد، أشعر أن كل شيء تخلى عني، فيستمر صراخي مثل المجانين، خصوصاً حين تعيد ذاكرتي مراسم خروج جثتها؛ المشعة بآخر تسبيحة ألقت القبض على أنفاسها.. الناس يسيرون خلف جثمانها ويمدون أياديهم لتعزيتي؛ أخي الأصغر يحمل كيساً مملوءاً بالحناء، توسلته أمي وكاد الدمع يبيض عينيها أن يفرشه في لحدها كي لا تؤلمها الحجارة الصغيرة؛ ساعة أن يسلموها إلى مضجعها الأخير.. جارنا السلفي يرفض "الحناء" بحجة أنها بدعة، ويضع الحجارة على لحدها مغلقاً آخر المنافذ الصغيرة إليها.. الجميع يهلّون التراب على قبرها، وزوجها - دون جدوى- يمد يده ليمنعه أن يصل إليها.. مازلت أرقب الأيادي وهي تستجمع قواها لتخفي تحت هذا الكم الهائل من التراب والحجارة أحد المبشرين بالفردوس الأعلى لفؤادي.. 

"نصر" يسترق النظر من بعيد ويقلب كفيه ببراءة، مستغرباً ما يحدث لأمه أمام ناظريه.. رفعتُ رأسي إلى أعلى وجدت النجوم تتلألأ في عز النهار على غير عادتها والسماء مستبشرة بقدومها، فتركت الحشود التي تجمعت لمواساتي في ظل نحيب، وبكاء، ودموع صامتة، وإعلانٍ للرثاء الكئيب، وذهبت بعيداً.. 

أخذت "نصر" في يدي، أبيت إلا أن أضمه إلى صدري وأصرخ أنيناً، عَلَّ صراخي يطفئ اشتعال الفؤاد الملتهب بوداعها، كل الأماكن لغيابها تَئِنُ وما عادت مضيئة، انطفأ بريق شقتها الصغيرة، لم يعد للعطر رائحة تفوح، وقطرات المطر صارت مثقلة بحزني.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24