الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مشهد اللاحياة في مدينة التسعينيين اليمنيين صنعاء من الأسطوري الباذخ إلى الوحشي المتآكل(3-3) - علوان الجيلاني
الساعة 15:46 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


والملاحظ أن هذه الأفضية التي نقرأها في نصوص شعراء التسعينيات اليمنيين أنها بمقدار ما هي أكثر تعبيراً عن الواقع وتطبعه بطوابعها الخاصة... بمقدار ما يأتي هذا التعبير لغة وشكلاً.. غريباً عن ثقافة الموقع.. ثقافة الموقع وهو هنا صنعاء، اعتادت على الكتابة في لحظة إثارة الذكريات.. وهي لحظة لا تستقي مادتها من الواقع واقع المدينة الحاضر.. بل استناداً إلى مرجعيات إبداعية مكتوبة أو باستدعاء الكاتب لزمن طفولته..
 

وغالباً ما تكون الكتابة جامعة بين المصدرين، وهو ما جعل الكتابات المتراكمة في هذا المنحى... تخلق للمكان روحاً واحدة حتى عند بعض الكتاب الأكثر وعياً بالحداثة، من غير التسعينيين... مثل الشاعرين عبد العزيز المقالح في كتاب (صنعاء) وأحمد ضيف الله العواضي في (مقامات الدهشة) فعندهما ينقاد فعل الكتابة عن المكان لمحاولة استعادة صور للمدينة وبعض أفضيتها تكونت عبر أجيال في ظروف اجتماعية وثقافية تقبلت هيمنتها لأنها نابغة منها، ولكنها ظلت تهيمن فيما بعد.. على وعي الكاتبين عن المكان... وصنعاء في كتاب المقالح تتجلى في أربعة وجوه:
وجه أسطوري: سمح لريشة القصيدة أن ترسمها أم المدن.... فتشبه حواء أم البشرية.

 

(صنعاء قدت من ضلع الجبل غيمان فهو آدمها) 
ووجه ديني: يخلع هالة القداسة على بيوتها ومساجدها ومآذنها:
يرسل الله ملائكته ليغسلوها من الأحزان والصدأ
ووجه تاريخي: يمنحها لغة الاختلاف من عهد إلى عهد، فتبقى في الشفتين نشيداً لأحلام العرب وموجزاً لتاريخهم.
ووجه شخصي: يجعلها ملتبسة بذات الشاعر وسيرته منذ طفولته فهي:

 

تمرح في الظل والماء وتعتصم بطهرها وعفويتها.. رشيقة القوام، خفيفة الجسد مثل طفلة تغرق في أساطيرها وحكاياتها الخرافية.
أما في (صنعاء.. مقامات الدهشة) فإن العواضي يشكو من قصور لغة الشعر وعجزها عن وصف مدينته:

 

من أين لي لغةٌ بلون الماء كي أتجاوز المعنى وأدخل
في تفاصيل المفاجأة الأخيرة. في مساء سكينة الدنيا
أرى غسقاً تدلّى أم ضفائرها الكثيفة. حُمرةَ (الياجور)
أم شفة المدينة.نكهة الليمون في التسبيحة الأولى 
بداية نمنمات الصّبح في الأسواق. أصوات الملائكة،
العصافير، النساء. حفيف أشجار من التوت المخبّأ في 
حواريها. ملامح (خربشات الجصّ) بين فضائها والأرض
أوتار التّهيّؤ للغناء. وقار إيماء الظهيرة. غيم منتصف
السماء. نشيد أزمنة تفرّ إلى معادنها الخبيئة.
إن صنعاء كما تتجلى عند هذين الشاعرين الكبيرين لتختلف تماماً عن صنعاء التسعينيين.. إن كتابتهما عن صنعاء كتابة معيارية إلى حد كبير -وأنا هنا لا أتحدث عن الجودة أو الرداءة حتى لا أفهم فهماً خاطئاً- وإنما أتحدث عن الحساسيات تجاه المكان.. ما كتبه المقالح والعواضي عن صنعاء يتعلق بهوية المدينة وكيف كانت، وكيف يجب أن تبقى.

 

وهو رسم للمكان لا يمكن أن يصدقه شعراء هذا الجيل... وحين تغيب صورة المكان المعياري وتصعب القدرة على الإحساس بها، وتصور مكوناتها وعلاقاتها اليومية التي صارت بالنسبة لهذا الجيل تشبه اليوتوبيا، فإنه يصعب على مبدعي الجيل الجديد أن يقعوا تحت مهيمناتها اللغوية والثقافية.
 

وبالتالي تختلف مرجعيات الطفولة والتكوين وتختلف مرجعيات القراءة والخبرة..ويختلف تالياً الوعي وتختلف تقنيات الكتابة.
الوعي واللغة وتقنيات الكتابة عند شعراء الجيل الجديد تقوم على الشطب.. شطب المرجعيات المعيارية، التراث الإبداعي المكتوب عن صنعاء والثقافة الاجتماعية التي تكرسها السلطة والمؤسسات القائمة بمختلف اهتماماتهاز
في الإبداع المعياري كانت هوية المدينة هي هوية الكاتب.

 

في الإبداع المعياري... كانت هناك سمات مشتركة بين الكتاب... بالأحرى بين معظم الكتاب... في اللغة والتجربة والانتماء.
في الكتابة الجديدة... يفتقر المكان إلى العاطفة والروحانية... ويبدو غير مسؤول عمن يعيشون فيه... ويشعر الفرد بتآكل المكان وبعدم الثقة فيه، وتبدو الرغبة في كتابة نص يتجاهل التفاصيل اليومية، والمشاهد التحتية الرطبة للمكان مثيرة للسخرية.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24