الخميس 28 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
في دائرة الضوء الشاعر فاروق شوشة فارس العربية وحادي الإبداع - د. هيثم يحيى الخواجة
الساعة 16:16 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


أيها المدى! إلى أين بعد أن غدا عطش العمر سراباً؟
أيها الإبداع! كن شاهداً على لحظة عمر ناغرةٍ رفت في زمن ما من أجل الإنسانية.
مر الربيع من هنا.. وسكن القلوب والعيون.. كان التحدي قاسياً، لكن الفتوة كانت أقوى.
أيتها الحياة! المبدع والإبداع قمران صاغا نسيج المشتهى، والكروم زغردت في نبضة العشق والإخلاص.
يا لغتي الحبيبة أنت عنوان خلودي، ويكفي أن البحر ارتمى في أحضانك قديساً عاشقاً.
فاروق شوشة أيها الراحل.. كنا على أهبة لحن آخر وموال جديد، لكنك ترجلت مسرعاً مودعاً أوتار نيساننا المنتظر.
أيتها القصيدة العربية فارسك العربي الأصيل سيظل في محرابك يسقي عروقك وينبت مع حنينك.
فاروق شوشة أسمع صوتك يجلجل في مصر، وفي نخيل الإمارات وأصقاع البلدان العربية.. ومن أعماق أرض الحب والعطاء حتى أحسب الأرض تشتهي حروفك النيرة وأشعارك البارقة.. 
في شعرك سر، بل رحيق، بل ربيع أورق ينسج الوهج الأحمر، والأقاحي.
لا تخافي من الرعد
وانطلقي بالغناء
الغناء الذي يتخلل هذا السديم
لا تخافي من الرعد، لا 
إنه زمن عابر
والقصيدة فاتحة
وزمان مقيم.
آمن فاروق شوشة بالشعر الجيد، ورفض الانحياز على الرغم من أنه تتلمذ على يد شعراء الكلاسيكية الكبار ومما قال في هذا المجال: " أنا أكتب كل ألوان الشعر، ولا تفضيل لدي للون معين على آخر، لأن العبرة بكيمياء القصيدة وكهربائها، وشدة نفاذها إلى المتلقي لا أتوقف عند الأشكال والقوالب والتسميات". ولا ريب أن هذا الموقف يدل على وعي عميق، وينطلق من رؤية ثاقبة، لأنه من البدهي أن نشرع النوافذ أمام الجدة والتجديد وألا نمنع رافداً من روافد الإبداع.
يقول في قصيدة بعنوان: (رسالة إلى أبي):
يفاجئني الذي اكتشفت:
أنت في نفسي حللت!
في صوتي المرتج بعض صوتك القديم
في سحنتي بقية من حزنك
المنسل من ملامحك
وفي خفوت نبرتي إذا انطفأت
ألمح انكساراتك
هذا ابنك القديم
وابنك الجديد
يبحث فيك عن زمانه
وحلمه البعيد
فافتح له خزائنك. 
لقب فاروق شوشة بشاعر الحب والوطنية، لأنه أحب الإنسان والجمال الذي زرع في دنياه البهجة والفرح.. وظل عمره كله يحرص على نبض الحب الذي يخترق شغاف القلب ويمده بمذاق آخر:
يومنا القادم أحلى
لم يزل طوع هوانا
كلما شارفت الحلم خطانا
واطمأنت شفتانا
واستراحت مقلتانا
وظننا أن خيطاً من ضياء الفجر
يهتز بعينينا سلاماً وأماناً
كلما قلنا بدأنا وانتهينا
صرخت فينا وفي أعماقنا
لحظة جوع ليس يهدا
فرجعنا مثلما كنا
يومنا القادم أحلى
يومنا القادم أحلى. 
لقد استطاع الشاعر فاروق شوشة أن يوقظ بالحب معاني الأمل والوعد وأن يبدع لحناً باهياً ليكون صلة وصل بينه وبين الحياة بقضها وقضيضها.
سيشرق الصباح حبيبتي
سيشرق الصباح
فليسكت الأسى
الذي أظلنا، ولتسكت الجراح
اليوم لا مكان للدموع في عيوننا ولا نواح
إنا معاً على المدى يظلنا معاً جناح
ما دمت ملء خافقي
فألف أهلاً يا رياح.
الحب أيقظ أغنيته في الحياة، وعلى شرفات الإبداع عاش صباحات الأمل، وقطف زنابق العبير لكي تخصب نضارة الإبداع في ظلال العربية الأخضر ويشمخ الضياء.
سأذكر بارقة من حنين 
أضاءت بقلبي فراغ السنين
وأذكر موجة حب دفين
تداعب أحلامنا كل حين
وتطفو على صفحات العيون
سأذكر ما عشت هل تذكرين؟
أحب فارس العربية الأمين الوطن، وهاله ما يحدث للأمة العربية، فتماهت الوطنية مع القومية وبرز ذلك جلياً في ديوانه الشعري (الجميلة تنزل إلى النهر) الذي تضمن عشر قصائد طويلة عبّر من خلالها الشاعر عن مكابداته تجاه العواصف التي لا ترين تهد كيان الأمة. وصور فيها أزمته النفسية إزاء ما يحدث في فلسطين المحتلة والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغير ذلك من الشقيقات العربيات.
لقد أعلن موقفه تجاه الأحداث دون أن يأبه لزمهرير الشقاء ودخان الحرب، فالرهق أخذ من أبناء العروبة كل مأخذ بسبب الباغين والأقزام.
بغداد، يا بغداد، يا بغداد
يا روعة الحلم الذي.. هل يستعاد
ترى يصيح الديك فيك من جديد 
ويصدح الناقوس والأذان
وتشرق الشمس على دروبك السجينة 
وهل ترى ينداح فيك من جديد 
صوت أبي تمام
مبدداً كآبة الأحزان.
هذا هو الشاعر يرفض الحزن وينتظر نهضة جديدة للأمة ويأمل أن تتسم مكانة لائقة في هذا العصر، وإذا كان الاستفهام يقلل من التفاؤل في استناده على النداء وانحيازه للثقة بعروبته وأصالته يدفع المآل إلى نوافذ الشروق، وهذا الموقف جعله في شعره مكافحاً ضد المستبد ومنافحاً عن لغته وهويته.
يقول في قصيدة (أيها الصيف الذي ولى سريعاً):
قف تمهل
إن في القدس شتاء قادماً
أثقلَ من كلَّ شتاءْ
وعيوناً رُغمَ عصفِ اليأسِ
فيها ومضةُ من كبرياءْ
ترقبُ اللعبةَ في الأيدي
بلا أيَّ انتهاءْ
وترى الباغينَ أقزاماً
وما يَبنونه تلاً على الرملِ
هواءً في هواءْ.
ولا عجبَ إذا كتبَ الشاعر قصيدة الشهداءَ التي أهداها إلى شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير فتداولها المبدعون والناس، وملأت لجودتها الآفاق.
وإذا كان الشاعرُ الحديث والشعر الحديثُ والمعاصرُ يمثل موقفاً ورؤية وسلوكاً، فإنّ الشاعر فاروق شوشة شاعر ملهم في منظومه ونتاجاته الإبداعية، وهو ابن عصره في الوعي والإبداع، فقد اكتنز نزعةً إنسانيةً طافحةً بالنبل وآمن بحبِّ الوطنِ والدفاع عن الأمة، ولهذا اقتربَ شعرهُ من مصَاهر الكشفِ واحترقت تجربتهُ بوهَج التجربة وبنار المكابدةِ والمعاناةِ. 
هذا التوجه، وهذا الاعتقادُ بلورَ تجربتهُ الشعريةَ فتقزّحتْ كما خيوطُ الشمسِ وتَسامقتْ قصيدتهُ كنخيل الوطنِ.
يعبرُ العامُ ويأتي العامُ
لكن
أنت ِ تبقينَ وجوداً وأملْ
وطريقاً نابضاً باللمسة الأولى
عميقاً كالأزلْ
يعبرُ العامُ، ولكن أنتِ تبقين حياتيِ
وسنيني القادماتِ
في غدِيْ والذكريات.
نعم ترجلّ فاروق شوشة، وعلينا أن نتذكر أنه أَحَدُ جهابذةِ العربية، فقد دافعَ عنها تنظيراً وتطبيقاً، وساعدهُ في ذلك تميزُهُ في فنِّ الإلقاءِ، وتّمكنُهُ من اللغةِ وإبداعهُ الشعريّ والنثري، فهو كما قيل عنه – أحد رافعي اللغة العربية – وهو أحد الفرسان الذين أسهموا في تحبيب الناس بلغةِ الضادِ، وهو من أهمّ شعراءِ جيل الستينيات، ومن أهم الذين دافعوا عن أدب الشبابِ، يحبّ القديم والحديث ويعشقُ الكلمةَ الساحرة.
لقد التقيتهُ منذ عقد ونيف في مؤتمر الطفولة في الإسكندرية وتحدثنا عن أسباب ضعف العربية وأساليب النهوض بها، وقد أكد لي أن الأمة العربية ولادة وأن الزمن سيزيدها ثباتاً وقدرة وانتشاراً بفضل غناها وما تتضمنه من جماليات.
الشاعر فاروق شوشة لا ككثير من الشعراء فهو شاعر موقف وشاعر رسالة.. شاعر رؤيةٍ معمقةٍ يتلهفُ إلى توصيلها عبر الدلالة والإيحاء.
يتطلع إلى المستقبل بتفاؤل جم ويعتمد في الإدهاش والإقناع على الجرس واللغة الدافئة البضة وتوظيف المكان والزمان واختيار الألفاظ الدقيقة، والجمل الشعرية المكثفة، وأسلوب السهل الممتنع.
وهل ينطفىُ شعاعُ القلبِ 
فَتَسقطُ جوهرةُ الإنسانْ
ويركلهُا زحَفُ الأقدامْ؟
دقّ الشيخ النيلُ البابْ
فما اختلجتْ عينُ خلفَ الأبراج
ولا ارتدَّ صدىً في المرسى الآسن
أو طارَ يمام.
ما أحوجنا إلى مَنْ يعشَقُ العربيةُ وينافحْ من أجل اخضرارِها! فالعربية من أكبر مقوِّماتِ الوطنية والقومية، وجديرُ بنا أنْ نُثمنَ دورَ علمائِها الذين أمسكوا بناصيتها.
ماذا نقولُ ونحنُ في حضرةِ التأبين والرثاءِ يا فاروق ؟! 
سيظل طيفك وارفاً – أيها الشاعر العربي الكبير في دوحة اللغة والشعر والإخلاص والحنين، ولم لا وفي جَعْبةِ نتاجك ثلاث عشرةَ مجموعةً شعرية وسبعة مؤلفات في اللغة العربية والنقد، وسيرة عذابات العمر الجميل؟.
كيف ننساكَ وقد لوّنتَ حياتنا بالإبداعِ وأمطرتَ حُلُمنا بالومضِ والإشراق؟!.
كيفَ ننساكَ، وقد غنّيتَ لوتر الألمِ والأملِ وغلّفتَ أسوارَ القلبِ بالجمال والرَّبيع؟!
كيف ننساكَ، وقصّةُ حياتك قصةُ الروح الحالمة بالصَّباحِ؟!
من لا يذكرْ برنامجك الإذاعي (لغتنا الجميلة) منذ عام 1967 وبرنامجُك التلفزيوني (أمسية ثقافية) 1977.
في مرقدِكَ.. في قرية الشعراء.. في دمياط نم قرير العين، ورحمك الله يا صاحب الكلمةِ الساحرةِ وأمينَ اللغة الجميلة.

منقولة من مجلة الإمارات الثقافية..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24