السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
ارتباط منظومة الحداثة بقيم التسامح (1) - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 15:58 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


بداية لنعمل جميعا نحو مجتمع متسامح خال من الحساسيات والكراهية والتعصب والتطرف..
لن يختلف اثنان على أهمية تعزيز قيم السلم الاجتماعي والتسامح في حياتنا المعاصرة التي تجتاحها المتغيرات الكبيرة التي تهدد وجودنا وسلمنا.. وتستدعي بقوة ملحة أهمية تمثل قيم التسامح وتعزيز خطابه في كل المستويات، السياسية والإعلامية والثقافية، والدينية وغيرها من المستويات المتصلة بحياة إنسان هذا الزمان الملتبسة بالتعقيدات.

 

سأحاول في هذا الجزء من الورقة أن أقدم رؤية موجزة تنطلق من فرضية أن منظومة الحداثة بصورها المتعددة، في المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية.. هي السبيل الأكثر حيادية ونجاعة في تعزيز قيم السلم والتسامح. ولتكن البداية من المستوى الاجتماعي.
 

 

المستوى الاجتماعي:
 

أعتقد أننا في بلدنا هذا، في مكاننا هذا (جنوب اليمن والجزيرة العربية) ننعم ببناء اجتماعي متماسك صلب، ما سهل علينا منذ القدم مواجهة الأزمات الكبرى والتحديات، والتي يمكن لها في مجتمعات أخرى لا تتصف بهذا التماسك أن تؤدي آثارًا تدميرية خطيرة، فنحن نعيش في مجتمع بسيط خال من تعقيدات تعدد الهويات أو القوميات والعرقيات أو الطوائف الدينية والاجتماعية التي نرى آثارها الخطيرة في المجتمعات المتعددة الطوائف والقوميات، حتى في ظل التعدد العرقي والثقافي الذي صنعه الاحتلال البريطاني في عدن، والذي لا يمكن أن نتنكر لمفاعيله الإيجابية في تأسيس بنية مدينة في عدن، وتحويلها إلى فضاء كوزمبوليتالي في النصف الأول من القرن الماضي، لم يعرض هذا التحول النسيج الاجتماعي المحلي لأية صدمات أو خلخلة لأنه كان يأخذ ـ أي ذلك التحول ـ بنظم بناء حداثي تتجانس فيه الفئات، على الرغم من أن الغاية آنذاك كانت خدمة الوجود البريطاني.. ولم يكن النسيج الاجتماعي في دولة الجنوب يعيش أية تناقضات على الرغم من دعوات الصراع الطبقي الذي نادى به النظام الماركسي في الجنوب خلال نحو عقدين من الزمن، لأن مجتمعنا المحلي، وببساطة شديدة، يعيش في حالة من التجانس في المستوى الاقتصادي، فلا أثر فيه لفكرة الطبقات أو التناقضات الاقتصادية الحادة، بمعنى أن الوضع الاقتصادي (والذي لا يحسد عليه بالتأكيد) أسهم على نحو خاص في تعزيز السلم الاجتماعي، (لا أريد هنا الإشارة إلى نعمة الفقر!!. لكنها نعمة من حيث لا ندري).
 

بالإضافة إلى ذلك تغيب قضية الطائفية والعرقية المحفزة للصراعات والتعصب، تغيب عن مجتمعنا المحلي الذي يتسم بالبساطة غيابًا تاما، في ظل ببناء اجتماعي قبلي بسيط خال من العصبيات وتعقيداتها، سريع الاستجابة لفكرة الدولة والقانون، ولأية معطيات حديثة، (وهذه نعمة كبرى).
 

إن مكمن خطورة، ويجب عدم الانجرار إلى خطاباته الآخذة في التشكل إعلاميًا، وهو الصراع العماني/ الإسلامي، من خلال صيغ خطابات التطرف والتطرف المضاد، وهذا لا يمكن مواجهته إلا بالدعوة إلى تمثل قيم التسامح، ومواجهة فخ الصراع المستحدث على واقعنا المحلي.
 

إذن في الجانب الاجتماعي ما يجعلنا نخلص جازمين أنه تكمن مجموعة من عوامل المناعة الذاتية القارة في بنية مجتمعنا المحلي، والتي تسهم في إيجابية كبيرة على امتصاص الأزمات والتحولات السياسية الكبيرة التي تحدث على المستوى المحلي والإقليمي.
 

بناء على ذلك أين تكمن منطقة الخطورة على سلمنا الأهلي أو الاجتماعي؟! أين المنطقة التي يجب أن تتحلى بقيم التسامح الحقيقي، أو التي تسهم في تعزيزة؟!، هنا انتقل إلى المستوى السياسي.
 

 

المستوى السياسي:
برأيي أن المشكلة تكمن في بنية النظام السياسي الذي تولد منذ الاستقلال السياسي، والذي لم يستطع خلال أكثر من نصف قرن التحول من مرحلة تأسيس الدولة إلى مرحلة بناء الدولة، وكان على مدى تاريخنا المعاصر ثمرة صراعات وأزمات وحروب وتسويات، وليس ثمرة اختيار إرادة اجتماعية شعبية، بمعنى أنه مغاير على نحو واضح لمنظومة الحداثة السياسية نفسها، فكان تأثيره سلبيًا على المجتمع، ولم تقلل آثاره السلبية الخطيرة غير حصانة المجتمع وتماسك نسيجه الاجتماعي، والوعي الاجتماعي الذي يسبق الوعي السياسي بمسافات كبيرة، مما أشرت إليه في النقطة السابقة، ما يتطلب إنجاز الحداثة السياسية التي تحفظ للسلم الأهلي المنجز تاريخيًا تماسكه، وتسهم في إنجاز التنمية التي تنهض بالتعليم والاقتصاد والثقافة وكل ما من شأنه بناء المجتمع وتحديثه، وذلك وحده كفيل بنبذ التطرف والكراهية والحساسيات والتعصب، وغير ذلك مما يهدد السلم الاجتماعي، غير أن إحداث ذلك يرتبط ببناء منظومة الدولة العصرية، التي تقوم على الفصل بين السلطات، وتعمل على ترسيخ القيم المشاركة السياسية، وبناء دولة سيادة القانون، والحريات وحماية حقوق الإنسان.. وفي مقدمتها حقوق المواطنة، التي تجسد معاني الانتماء السياسي والحقوقي إلى الوطن أرضا ومؤسسات دستورية وقانونية، وتجسد كذلك الروابط الأعمق بين المواطن والوطن، وبين المواطن والدولة، "فالمواطنة إحساس بالانتماء وشعور بالولاء للدولة والوطن، والمواطنة ليست مجرد اكتساب لجنسية في وطن، إنها كيان من المشاعر والحقوق والواجبات والروابط الأخلاقية والإنسانية والقانونية بين الإنسان وتراب الوطن، وبين الوطن بكيانه السياسي ومختلف مواطنيه" واكتفي هنا بنموذج قيم المواطنة ودلالته من بين منظومة الحداثة السياسية الأخرى، وأثره البالغ في إرساء السلم الأهلي والتسامح، ذلك أن قيم المواطنة تسهم على نحو بالغ في شعور أبناء الوطن بالتساوي والانتماء، ويصبح مبدأ التسامح بوصفه قيمة أخلاقية يستند على أسس قانونية، (العفو عند المقدرة) لا فكرة هائمة مجردة من معانيها الحقيقية، وبهذا المعنى تفارق فكرة التسامح معاني الخضوع والاستسلام الذي يهدر الحقوق وكرامة الإنسان، قال الشاعر المتنبي:
 

كل حلمٍ أتى بغير اقتدر
حجةٌ لاجىٌ إليها اللئامُ
وهنا يجب ترسيخ معنى سلطة الدولة.. والدولة وحدها من يحق لها حمل السلاح من أجل حماية حقوق مواطنيها وممتلكاتهم.. متى أنجز ذلك المبدأ البسيط الذي يتصل بالشعور بالمواطنة والتساوي أمام القانون نكون قد اقتربنا من الحد الأدنى للحداثة السياسية، أي حداثة النظام السياسي، الذي سيفضي بنا إلى مبدأ التسامح الحقيقي، ولن نذهب هنا إلى قضايا أخرى لا تقل أهمية، ولكنها في واقع الحال قد تبدو من الترف والرفاهية الرومانسية السياسية، مثل حقوق المرأة، والحريات الفردية، والبيئة.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24