الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
بكين بكين.. الحياة بسيطة لدرجة غاية في التعقيد - منير عتيبة
الساعة 19:03 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


(مهما كانت حياتك بسيطة.. فإنها تتعقد بمرور الزمن)
هذه العبارة الموجودة أعلى غلاف رواية (بكين.. بكين) تبدو وكأنها مفتاح التعامل مع الرواية، المفتاح الذى يسلمه الكاتب بسهولة إلى قارئه حتى لا يتعب نفسه فى البحث عنه.
صدرت الطبعة العربية الأولى من رواية (بكين.. بكين) للكاتب الصيني (شيو تسي تشين) عن (العربي للنشر والتوزيع) وقد ترجمها (يحيى مختار).
يعد (شيو تسي تشين) من الأسماء الشابة اللامعة في الأدب الصيني حاليا، فهو من مواليد عام 1978، حاصل على الماجستير في الأدب الصيني، وهو الآن رئيس تحرير مجلة (الأدب الصيني) التى تصدر بعدة لغات، من رواياته: “ماذا لو أغلق الجليد الباب”، “باب منتصف الليل”، “قطار الليل”، “جنة على الأرض”، “القدس”، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان “كيف يطير الأوز إلى السماء”. وقد حصل (شيو تسي تشين) على عدد من الجوائز المهمة، جائزة “لو شون” للقصة القصيرة، وجائزة نشر الأدب الصيني، وجائزة أدب الربيع. كما تحولت بعض أعماله إلى أفلام ومسلسلات تليفزيونية. وقد ترجمت أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والكورية والهولندية واليابانية والمنغولية والعربية.
تبدأ رواية (بكين.. بكين) بصرخة بطلها “دون هوانج” “لقد خرجت، أنا حر!”ص5، وتنتهي بأن “قام الشرطيان برفع يديه للأعلى، ووضعاهما بعد ذلك في الأصفاد” ص230.
وبين خروج مزور الأوراق من السجن إلى الحرية، وعودته إلى السجن كبائع لاسطوانات الأفلام المزورة، حوالي عام، كل ما يحدث فيه أحداث يومية تعرفها المدن الكبرى كبكين ولا تتوقف عندها كثيرا “لا تفكر فيما حدث فكل شيء وارد فى مدينة كبيرة مثل بكين” ص220، لكنها أحداث تجعل حياة الشاب البسيطة تتعقد كعنكبوت لا فكاك من براثن خيوطه الناعمة.
“دون هوانج” شاب ريفي تأخذه أحلام الحرية والانطلاق والثراء إلى بكين خلف صديقه الذي يكبره بخمس سنوات “باو دينج”، يعمل مع صديقه في تزوير الأوراق؛ المستندات والشهادات وجوازات السفر وغيرها. لكن الشرطة تقبض عليهما، ويعترف “باو دينج” على نفسه حتى لا يتورط صديقه في القضية، ويخرج “دون هوانج” من السجن بعد ثلاثة أشهر إلى الحرية.. إلى بكين التي يعشقها، فلا يجد سوى عاصفة رملية، وكأنها نذير بما سيلاقيه خلال الشهر القادمة، إذ يلتقي بشابة تبيع الاسطوانات المزورة “شياو رونج”، التي تدعوه ليتناول الطعام على حسابها، ثم تأخذه إلى حجرتها، ويعيش معها فترة، ثم يبدأ فى بيع الاسطوانات المزورة لحسابها، وفي الوقت نفسه يسعى للبحث عن حبيبة صديقه الذى سجن بدلا منه “تشي باو” رائعة الحسن والتي لم يكن قد رآها سوى مرة واحدة من ظهرها، ولا يتذكر سوى مؤخرتها!
يحكي الكاتب روايته من خلال ما يحدث لبطله “دون هوانج”، فلا يوجد مشهد واحد فى الرواية لا يوجد به “دون هوانج”، ومن خلال مسيرة البطل الصعلوك يتضح لنا شيئا فشيئا الوجه الخفي القاسي لبكين، المدينة الكبيرة التي بلا قلب، تطحن الصغار وتلقي بهم من دون أن ترثي لهم أو تشفق عليهم، وبينما هم يناضلون حتى لا يموتوا جوعا يطاردهم الجوع والبرد والخوف والشرطة، وبينما هم يكافحون لكي يعيشوا حياة بسيطة تعقد لهم بكين حياتهم.
فبائعة الاسطوانات المزورة “شياو رونج” تمارس الجنس مع “دون هونج”، لكنها مرتبطة بحبيبها “كوانج شان” صاحب محل بيع الاسطوانات، وكل حلمها أن تعود إلى قريتها بعد أن تتزوج حبيبها، وتنجب طفلا، وتعيش حياة سعيدة وبسيطة، بينما “كوانج شان” يريد أن يصبح من الأثرياء، لذلك يتاجر فى الاسطوانات المزورة خفية من خلال دكانه الذى يبيع الاسطوانات الأصلية للأفلام، و”دون هونج” يحلم فقط بغرفة مستقلة ومبلغ كبير يدخره ليدفع كفالة خروج صديقه من السجن، وأن يجد حبيبة صديقه ليقدمها له بعد خروجه.
البسطاء في بكين يحلمون، لكن الأحداث اليومية هي التى تسيرهم، لا يقفون طويلا لتحليل مشاعرهم، ولا يستبطنون أفكارهم، لا وقت لذلك، فالجوع بالمرصاد، يتطور “دون هونج” في مهنة بيع الاسطوانات المزورة والإباحية منها بالذات يوما بعد يوم وفقا للأحداث اليومية التي تقابله فتلهمه أفكارا بسيطة تزيد من زبائنه، كأن يكتب رقم تليفونه على الجدران والسيارات، ويذهب للمباني التى يسكن بها طلبة جامعة بكين، أو المباني التي بها موظفون، ويجري حوالي أربعمائة مكالمة عشوائية لأرقام من يعملون بتزوير الأوراق الذين يعلنون عن أنفسهم بطريقته نفسها؛ حتى يعثر على “تشي باو” التى تبدو فتاة لا تهتم بالوقت ولا بالمستقبل، وتحب العيش وحيدة فى حرية بدون قيود، وهي باذخة الجمال، وتقيم علاقة جنسية مع “دون هونج”، ليكتشف “باو دينج” ذلك بعد خروجه من السجن لأنه تعارك مع أحد المجرمين بدلا من شاب أخوه مسؤول كبير أخرجهما معا، والأهم أن “باو دينج” يكتشف أن “تشي باو” تمارس البغاء فى محل مشهور بذلك، ليعرف الجميع كل شئ عن الجميع، ويتقبلون ببساطة حياتهم المعقدة، “كوانج شان” يتزوج رسميا “شياو رونج” برغم معرفته بما كان بينها وبين “دون هونج”، وتصبح حاملا منه، ويبيعان الاسطوانات المقلدة في الشوارع بعد أن أغلقت الشرطة الدكان، و”باو دينج” يبتعد عائدا لمهنته القديمة في تزوير الأوراق، أما “دون هونج” فيرتبط بعلاقة زواج غير رسمى مع “تشي باو” برغم معرفته أنها مارست الجنس مع “باو دينج” و”كوانج شان” إضافة إلى الغرباء الآخرين، وتصبح هي الأخرى حاملا أيضا.
وفي لحظة شهامة يحاول “دون هونج” إنقاذ “كوانج شان” من الشرطة، ينقذه بالفعل، لكنه يقع فى أيديهم بحقيبته المليئة بالاسطوانات الخليعة والمزورة، بينما تضع “شياو رونج” طفلها في الشارع، وتتصل “تشي باو” بـ”دون هونج” تخبره أنها حامل وفي المستشفى لعمل فحوصات في اللحظة نفسها التي تلقى الشرطة خلالها القبض عليه.
يحكي الكاتب قصة أبطاله مستخدما الوصف المشهدي الخارجي للشخصيات والأماكن، حريصا على وصف كل الأماكن والشوارع والكباري والمطاعم والمحلات إلخ التى يمر بها بطله حتى يستطيع القارئ مصاحبته في رحلته عبر دروب بكين، كما يحتل الحوار مساحة كبيرة من الرواية، حيث تعبر الشخصيات مباشرة وبوضح عن أفكارها ومشاعرها بدون تفكير كثير أو تحليل عميق، بل ببساطة تناسب مستواها الثقافي والاجتماعي والمهني، وبراءة تناسب أحلامها البسيطة المغتالة.
والكاتب يحكى بواقعية مستخدما الزمن الكرنولوجي التسلسلي، فقليلة هي مشاهد التذكر، ولا توجد أية مشاهد استباقية، حيث يحمل الكاتب على كتف قلمه كاميرا تتابع بطله لتصف ما يحدث له بدقة وأمانة، ولا يستخدم الكاتب أية ألعاب تقنية في روايته، حتى الحلم الذى يداهم بطله أكثر من مرة ليس سوى حلم يحدث له من خوفه الشديد على حبيبته، والفتاة المرفهة الغامضة التي كان يوصل لها اسطوانات أفلام الرعب إلى منزلها ربما لم تكن سوى “عشيقة لأحد الأثرياء الفاسدين” ص165، واختفت ببساطة كما ظهرت من دون أن يعرف الجيران عنها شيئا، فلن يتوقف أحد فى بكين ليسأل عما جرى لجاره.
لكن خلف هذه البساطة الظاهرة، خلف عفوية الأبطال المطحونين، خلف تقبلهم البسيط غير المأساوي لحياتهم المأساوية، خلف هذه الحكاية الممتعة عنهم.. خلف كل ذلك تكمن المأساة، مأساة المدن الكبرى التى تعقد حياة ناسها، وتدهس أرواحهم ومشاعرهم، ليعيشوا أسيري اللحظة بلا أمل حتى فى تحقيق ولو بعض حلم بسيط.
كنت أرجو أن تكون الطبعة العربية من الرواية خالية من الأخطاء اللغوية، لكنها للأسف بها كثير من أخطاء الإملاء والنحو التى تضايق القارئ، وأتمنى أن تتم مراجعتها بدقة أكبر فى حالة طباعتها طبعة ثانية.
الرواية ومؤلفها شيو تسي تشين وكاتبة صينية أخرى اسمها عيشة، سيكونون ضيوفا على مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية نهاية شهر يناير 2017 الجاري.

منقولة من موقع كلافو..

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24