الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
ملاحقة المعنى.. متعة الشعر - زياد القحم
الساعة 14:42 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


لأن الشعر فن إنساني فهو ملزم بأن يذهب إلى كل الناس ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الذهاب عبر الطرق التي يتوقعونها، ولا هم ملزمين بقبوله.. رغم كونه مكملا مهما لإنسانية من يتعاطاه، ولأن مفهوم الإنسانية يتجه نحو الحياة الأخلاقية والقيمية وإلى الارتقاء عن الحيوانية ببساطتها، فهذا يعني أن التعقيد يصاحب التطور الإنساني.. مما يعمق الفنون الإنسانية التي تنشأ مصاحبة لهذه التطورات..
 

الشعر -وفقا لذلك- خطاب خاص جدا، وكانت لتلقيه متعة خاصة منذ بداياته.. التي رغم بساطة الصورة فيها وسيطرة متعة الإيقاع إلا أن لعبة ملاحقة المعنى كانت حاضرة، فالشعر منذ بداياته كان يقدم معناه الخاص..
 

أضاف التطور الذي صاحب مسيرة الإنسان في معايشه وعلاقاته وتفكيره الكثير من العقد إلى فنونه وثقافته.. وهذه إضافة طبيعية من أجل أن يظل الشعر خاصا ونوعيا. .
زاد الاشتغال على التكثيف العالي مع دخول الإنسانية إلى المراحل المزدحمة وظهور ما يسمى بعصر السرعة، مع انتقال الشعر من الخطابية إلى الكتابية وتعاظم المسؤولية عن مساحة التعبير .
أصبح متلقي الشعر يستدعي الكثير من خبراته ومعارفه وتجاربه ليتمكن من الإمساك بخيط المعنى.. بل أصبح النص محكما مثل البناء المعماري ذي الطوابق الكثيرة ويتمكن المتلقي وفقا لإمكاناته وذوقه (الناشئ عن علاقته بالفنون) من الدخول إلى طابق ما في هذا البناء ليس هو الطابق الذي يصل إليه متلق آخر.

 

في قصيدته (ذاكرة الأشياء) يقدم الشاعر الكبير محمد عبدالسلام منصور إشارة واضحة لمستوى الامتلاء الذي وصلت إليه القصيدة الحديثة.. من مرافقتها للتطور الإنساني ومن معالجتها للإنسان في قضاياه الأكثر حساسية وعمقا:
"الظُّلْمَةُ مُبْصِرَةٌ تَبْسُطُ أجْنِحَةً مِنْ غَبَشٍ شَفّافٍ 
تَحْمِلُنا بهُدُوءٍ مِن بَيْنِ الأنْفاسِ اللاّهِثَةِ الدُّنْيا 
في النَّفَقِ الأعْمَى
الظُّلْمَةُ خاتِمَةُ الأسْفارِ وفاتِحَةُ الصَّمْتِ، سَرِيرُ الأبَدِيَّةْ
يَنْطَفِئُ النّاسُ جَمِيعاً في يَدِها
تمَحُو مِنْ ذاكِرَةِ الجَسَدِ الرَّغْبَة
َ تَمْحُو ذَاكِرَةَ الأشْياءْ."َ

 

لا يقدم الشاعر هنا معناه بسهولة ولكنه يهرب به هروبا جماليا موزونا ويجعله يتفلت ولا يفلت فيستحث المتلقي لاستدعاء الكثير من تمكنه الفني الشعري وخبرته القرائية..
وهنا يجدر التساؤل عن هذا التطور الفني للكتابة (مكان المعنى البعيد) :
ما هي النقطة التي يجب أن يهرب إليها المعنى؟
حتى تصل الإجابة سنستحضر مشهد المطرب أو المغني الجيد وهو يحرك المايك لتقريبه من فمه أو إبعاده، وهذه الحركة تحدث أثرا في الناتج الصوتي لا معيار له بشكل عام إلا أثره الجميل في كل حالة غنائية بما يخصها ويناسب المغني والأغنية والجمهور الذي يتمكن من فهم هذه الحركة وأثرها 

 

***
يقول الشاعر أيضا :
"تَتَلأْلأُ في قُبَّتِها الأقْمارُ 
تَفِيضُ عَلَيْنا عَدَماً رَقْراقاً 
تَرْمِينا في الغَيْبِ المُمْتَدِّ 
بلا وَعْيٍ
خَدَرٌ جَذّابٌ لَيْسَ لَهُ شُطْآنٌ
لا نَسْمَعُ فِيهِ أنِيناً مِنْ جُوعٍ،
أَو لاغِيَةً مِنْ كَرْبٍ 
كَسَلٌ فَيّاضٌ يَمْتَصُّ النَّفْسَ،
يُطَهِّرُها مِنْ دَنَسِ الشَّهَواتِ وإذْلالِ السُّلْطانِ
خُمُولٌ لا نَعْرِفُ فِيهِ الخَوْفْ. .
لا يُشْعِرُنا بأمان
ٍ يَتَمادَى مَصْلُوبَ الوَقْتِ بلا جِهَةٍ 
لا نَتَذَوَّقُ فِيهِ مَدامِعَنا، 
لا تتَذَوَّقُنا الأوْهامُ 
فَراغٌ مَسْفُوحٌ في النِّسْيانِ الدّامِسِ يَنْسانا فِيهِ الحِرْمانُ ونَنْسَى : الشّارِعَ مُكْتَظّاً بالسَّيّاراتِ 
وأيْدي الشَّحّاتِينَ 
الأحْياءَ المَزْكُومَةَ، 
رائِحَةَ المَكْرِ الفاقِعِ خَلْفَ عُيُوْنِ النّاسِ 
المُدُنَ المَعْمُوْرَةَ بالصَّمْتِ، المَسْعُوْرَةَ مِنْ آهاتِ الفُقَراءِ الأمْراضَ، 
الأعْداءَ، 
الحُسّادَ، 
البَغْضاء" 

 

ما الذي يحتاجه المتلقي هنا ليستوعب معنى النسيان المتكرر لفظه؟
هل ستساعده ذاكرته وما فيها من نصوص استخدمت النسيان بدلالات متمايزة وتم البناء عليها هنا ؟
ذلك بديهي لكن المهم هو التركيز الذهني العالي على هذا النص. .
فمثلا: "ينسانا فيه الحرمان"
المتحدث قد لا يكون محروما لأن الحرمان قد نسيه.. وتركه؛؛ لكن بمجرد ربط هذه العبارة بالعبارة السابقة التي تحدد المكان المنسي فيه ؛ تنعكس الدلالة بشكل تام .. يصبح المعنى هو أن الحرمان قد أخذك إلى مكان أشد من الحرمان ونسيك هناك، 
وهذا المكان كما في النص هو:
"فراغ مسفوح في النسيان الدامس"
تذهب الدلالة إلى حالة من الحرمان معقدة جدا .. كل كلمة دخلت في السياق أضافت دلالة أعمق لحالة الحرمان المقصودة:

 

1- "فراع" .. حيز بلا هوية، فكرة الخروج تتعقد في المتاهة، لأن المنفذ مموه، لكن في حالة الفراغ تتعقد فكرة الخروج لأن الفراغ بلا منفذ.
2- "مسفوح" السفح يدل على مادة أهرقت في مكان ما .. أما كون المكان فراغا ثم أهرق بذاته فهي إضافة خطيرة لتوصيف الحالة .
3- "في النسيان" مع عقدة الفراغ ثم السفح للفراغ .. يقع هذا الفراغ في النسيان
4- "الدامس" رغم أن الظلمة في هذا النص مبصرة، إلا أن النسيان هنا دامس في زمن الظلمة المبصرة ..

 

قدمت هذه العبارة إنتاجا دلاليا مذهلا.. أما أن يكون هذا الإنتاج هو الشعر أو أن الشعر هو حالة الملاحقة للمعنى ومحاولة القبض عليه مع أثر هذه الملاحقة في الذهن والوجدان.. 
في محاولة الدخول إلى طابق أو أكثر من طوابق هذا البناء الشامخ

* * *
 

"الطّابُورُ جَرَى
الجُنْدِيُّ تَصَبَّبَ جُوعاً 
صاح: اللهُ، الوطنُ، الثورةُ.
تَنْسَلُّ فَتاةٌ في زِيْنَتِها
تَتَهَجَّى، تَحْتَ الشَّرْشَفِ إفْطاراً وحَلِيباً
تَرْجُو لأبِيها المَوْتَ 
وتَمْضي أدْراجَ الرِّيحِ
وكَلْبٌ يَنْبَحُ
يَغْسِلُ فَرْوَتَهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ.
بَهِيُّ الطَّلْعَةِ صَيّادُ مَدِيْنَتِنا
يَمْرُقُ بالسَّيّارَةِ والسَّيّارِ 
البَيْجَرُ يَرْعَشُ خاصِرَتَيْهِ
وَنَحْنُ هُنا.. أشْياءٌ، ذاكِرَةٌ تَنْسَى
نَذْكُرُ، نَنْسَى ثُمَّ نُصَلّي."

منقولة من صحيفة أقلام عربية...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24