الخميس 28 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
رضوان نصار: عودة كاتب الظل البرازيلي - أحمد عبد اللطيف
الساعة 13:23 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


في عام 2016 ظهر لأول مرة اسم رضوان نصار من بين المرشحين لجائزة "مان بوكر" البريطانية، منافسًا التركي الشهير أورهان باموق، لكن نصار بلا صور تقريبًا، باستثناء عدد قليل جدًا، وبلا حوارات صحفية إلا نادرة جدًا، وبلا أي مشاركات عامة، بل إنه، رغم عمره المتقدم، لم يكتب إلا روايتين ومجموعة قصصية، ولولا ضغط من ناشره ما نشر أيًا من كتبه، إذ نشر نصار عام 1975 روايته الأولى "عمل قديم" ثم 1978 روايته الثانية، الأكثر شهرة وتأثيرًا، "كأس الغضب"، وفي الثمانينيات" نشر مجموعته الأخيرة "فتاة في الطريق" ثم توقف تمامًا عن الكتابة وواصل اختفاءه، وقرر أن يعيش كفلاح ليؤكد عداءه المستمر للأضواء.

 

 ولد رضوان نصار لمهاجرَين لبنانيين في ساوباولو بالبرازيل عام 1935، ودرس بكلية الحقوق والفلسفة وحقق مع روايته الأولى نجاحًا كبيرًا، ووضعه النقد بجانب جورجي أمادو واعتبره واحدًا من أهم كُتّاب الأدب البرازيلي الحديث. ورغم شهرته داخل البرازيل، لم يُترجم له إلا كتاب واحد للفرنسية في السبعينيات، وكتاب آخر للإنكليزية عام 2015، وبدأت ترجمة أعماله للإسبانية منذ عام 2010، وفاز بإجماع لجنة التحكيم بجائزة كاموس المرموقة عام 2016، وهي نوبل الآداب البرتغالية وتعادل جائزة ثيربانتس في الآداب الإسبانية. وقالت لجنة التحكيم في تقريرها "من خلال التخييل، يكشف المؤلف في عالمه السردي عن تعقيدات العلاقات الإنسانية، وهو كشف صادم ومؤرق في أحيان كثيرة".

 

 في مقال لها بعنوان "حول رضوان نصار"، تقول الناقدة الإسبانية روسا بيريدا إن الأدب يتمتع بطريقة خاصة في تنوير العالم، هذه الطريقة تكمن في حريته الهائلة، بعيدًا عن أي دروس أخلاقية، بل إن الأفضل أن يتخلى عن هذه الدروس. لكن بوسعه أن يثير قلقنا إلى حد الاختناق، وأن يشير لأكثر النقاط قتامة وتشويشًا في نفوسنا، وأن يصل إلى أقصى الأطراف الممكنة، وهي دائمًا غامضة، "وهذا ما يفعله رضوان نصار". وتشير الناقدة إلى رواية "كأس الغضب"، الإيروتكية، وتصفها بأنها "ذات لغة حية، متوترة وإيقاعية، وذات منظور صارم وصائب للحياة، وشديدة الدقة في النظر للأشياء ولتغيرات الضوء الصغيرة، ولحركات الروح المتذبذبة ذهابًا وإيابًا في مونولوج داخلي يتوازى مع الحركة، مع الذاكرة، مع استشراف ما سيأتي بعد ذلك". ولعل أهم ما يميز هذه الرواية، بالإضافة للغتها السيّالة، هو لعبة الزمن، ما تشير إليه بيريدا بأنه "تعايش الثلاثة أزمنة في الحاضر". تلتفت الناقدة أيضًا للعلاقة بين صوت الرجل المهيمن على السرد وصوت السلطة، وتربط ما بين العنف الجنسي والتسلط، ما يضع الرواية بجانب الروايات المناهضة للسلطة السياسية، وتتفق مع رؤية فوكو في العلاقة بين الجنس والسلطة والتركيبة الاجتماعية.

 

فيما يقول الناقد والمترجم بابلو بيّالوبوس إن "كأس الغضب" "رواية تسمي هذه المشاعر التي لا نعرف لها اسمًا، لكنها تخرج من أعماقنا. تسمي الصرخة المكبوتة، الرجفة، العضلات المتقلصة، الصدر المكشوف، محيط الفم..."

 لقد أعادت "مان بوكر" أعمال نصار إلى مركز الضوء، فيما يظل هو، في سنواته الثمانين، يقبع في الظل الذي اختاره، الظل الذي يليق به ككاتب من طراز خوان رولفو وباتريك زوسكند. أغلب الظن، بعد أن توقف عن الكتابة (أو النشر) لأكثر من ثلاثين عامًا، أنه لن يعود بكتاب جديد. ورغم أن أحدًا لا يستطيع أن يؤكد أو ينفي إن كانت الكتابة جزءًا من نشاط السنوات الأخيرة، إلا أن المؤكد أن نصار ترك بصمته القوية والواضحة في فن السرد، في شكله وفي مضمونه، في الالتفات لتفاصيل صغيرة دالة بإدراكها يمكن إدراك جزء من تعقيدات العالم، وأنه تسلل لمنطقة تخصه وباتت ملكه، كما تسلل من قبله كافكا وبيكيت وبورخس. وهو ما يضمن له بصمة خاصة حتى لو بقي في الظل، وربما بسببه، إذ الظل المكان الطبيعي للكُتّاب.

نترجم هنا، لأول مرة بالعربية، فصلين من روايته الأشهر "كأس الغضب":    

 

"ما من أحد يهدي من أضله الرب"

 

 الوصول

 

 وعندما وصلت للبيت مساءً، في عام 27 البعيد، كانت تنتظرني بالفعل وتتجول بالحديقة، فاقتربتْ وفتحت البوابة لأدخل بالسيارة، وما إن خرجتُ من الكراج صعدنا السلم معًا حتى الشرفة، وقعدنا على كرسيين من الخوص نتأمل الجانب المواجه، والسماء حيث الشمس كانت في غروبها، وكنا في حالة صمت حين سألتني: "ماذا بك؟" لكنني، وكنت شاردًا جدًا، واصلت في بعدي وهدوئي، وفي فكرتي المهجورة حول احمرار ذاك الغروب، ولإلحاحها فقط جاوبت على سؤالها بسؤال: "هل تعشيتِ؟"، فأجابت: "ليس الآن"، وحينئذ نهضتُ وتوجهتُ على مهل للمطبخ (جاءت خلفي)، وأخرجتُ ثمرة طماطم من الثلاجة وغسلتها في الحوض، ثم أخذت المملحة من النمليّة وجلست إلى المائدة في التو (وهي من الجانب الآخر كانت تصطحبني في كل حركة رغم أني كنت أتظاهر بلا مبالاة بأني لا أراها)، وظللت في مرمى نظرها حين بدأت في أكل حبّة الطماطم، ومن آن لآخر أضع قليلًا من الملح كلما أكلت قطعة، مدعيًا بذل مجهود مفرط في المضغ لأظهر قوة أسناني بقوة أسنان حصان، وأنا أعرف أن عينيها لا تفارقان فمي، أنها، تحت صمتها، تتلوى من الصبر، وأن رغبتها فيّ تتزايد كلما تجاهلتها، ما أعرفه أني بمجرد انتهائي من أكل حبّة الطماطم تركتها في المطبخ ورحت أبحث عن الراديو الذي كان على رفّ في الصالة، ودون أن أعود للمطبخ التقينا مجددًا في الممر، ومن دون لفظ كلمة واحدة دخلنا معًا ظلام الغرفة. 


السرير

في البداية، بعد أن دخلنا الغرفة، كنا نبدو غريبَين يتأملهما ثالث، هذا الثالث كان دائمًا أنا وهي، ومسؤوليتنا كانت أن نراقب ما أفعله أنا، لا ما تفعله هي، لذلك قعدتُ على حافة السرير وبدأت في خلع حذائي وجوربي على مهل، لامسًا قدميّ بيدي، فشعرت بهما رطبتين بنعومة كأني انتزعتهما من الأرض في تلك اللحظة، وفي الحال شرعت في السير على الأرضية الخشبية، منتبهًا لما أفعله، ومتظاهرًا بأن تجولي بالغرفة يتبع باترونات صغيرة، وكان طرفا البنطلون يلمسان الأرض وفي الوقت نفسه يستران جزءًا من قدميّ بغموض ما، وأنا أعرف أنهما يحتويان بقوة قدميّ الحافيتين والبيضاوين جدًا، وفي الحال استمعت لتنهيداتها العميقة بالقرب من الكرسي، حيث كانت تودّع يأسها ربما، بينما تتجرد من ملابسها بفك حمالة البلوزة بأصابعها وإنزالها على ذراعيها، وأنا، متظاهرًا دومًا، كنت أعرف أن كل ذلك حقيقي، وأعرف كما كنت أعرف دومًا هوسها بالأقدام، خاصة قدميّ، ذات الحواف الحادة والمنحوتتين بمهارة، بعُقلها البارزة من الأصابع وخطوط عروقها وأوتارها المحددة، دون أن يؤثر ذلك في هيئتها الخجولة كقدم رقيقة، وكنت أروح وأجيء بخطوات محسوبة، مؤجلًا اللقاء بذرائع صغيرة، لكن عندما خرجت هي من الغرفة وراحت لوهلة إلى الحمّام تجرّدت سريعًا من بنطلوني وقميصي وتمددت على السرير في انتظارها، جاهزًا وصارمًا، مستمتعًا في صمت بقطن الملاءة التي تغطيني، وفي الحال أغمضت عينيّ وأنا أفكر في الحيل التي سأستخدمها (من بين حيل كثيرة كنت أعرفها) وبهذه الطريقة راجعت، في رأسي، كل الأشياء التي فعلناها معًا، كيف كانت ترتجف من حركات فمي الأولى ومن بريق عينيّ فيزدهر أقصى ما فيّ من فحش وصلابة، رغم أنها، مأخوذة بجانبي الخفي، تصرخ من جديد: "هذا الفاحش الذي أحبه"، واستحضرت هذا الجانب المبتذل في لعبتنا، هذه المقدمات بكل ما فيها من حبكات ننفذها بعد ذلك، حبكات ضرورية لنبدأ مباراة تشبه حركة العسكري الأولى في الشطرنج، مقدمات تبدأ بضغط يدي على يدها، بالتسلل لأصابعها، بالضعط عليها، بسحبها تحت يدي حتى شعر صدري، فتحاكي حركة أصابعي تحت الملاءة ثم تؤدي وحدها نشاطًا سريًا، أو تفعل ذلك في مرحلة تالية، بعد أن نكتشف بيقين شعر كل منا، عظام كل منا، رائحة كل منا، وعندما، على ركبتينا، نحسب الطريق الطويل لقُبلة وحيدة، براحتي يدينا ملتصقتين براحتيّ، بعناقنا مفتوحًا كصلاة مسيحية، وأسنان كل منا تعض فم الآخر كأنها تعض لحم القلب الطري، وبعينين مغمضتين، هاجرًا الخيال المركّز في منحنيات هذه الالتفافات، رأيت نفسي أيضًا متورطًا في بعض الأداءات، مثلما كان يحدث بعد نهوضي من فوق بطنها وسريعًا ما استجبت لواحدة من نزواتي (نزواتها) الأكثر ألفة، إذ وصلت فجأة وبعنف فسال على وجهها وصدرها، ومثل نزوة أخرى أقل اندفاعًا وأبطأ نضجًا، وهي ثمرة نضجت في تصاعد صامت وصبور لتقلصات قوية، وكانت تحدث حين أكون بداخلها ونظل ساكنين دون حركة حتى نصل بصرخات غاضبة تفوق دوي أكثر الأمجاد علوًا، وفكرت مع ذلك في قفزة معاكسة خطيرة حين كانت على بطنها تقدم لي عشبًا آخر وذراعاي ويداي، كماكينة أو تشبهها، تمسكان بها من تحت كتفها وتضغطان وتضبطان، جزءًا جزءًا، كتلة جسدينا المتصاهرين، وكنت أفكر طوال الوقت في يدي ذات الظهر الطويل وأستخدمها كثيرًا خلال هذه العملية الهندسية العاطفية، يد أعددتها جيدًا حتى أنها تقول لي بشكل متكرر وهي في متاهتها الكاملة "رائع، رائع، أنت فريد من نوعك"، بعدها  بدأت أفكر في لحظات التجديد، في السجائر التي ندخنها بعد كل فقاعة صمت مسمومة، أو خلال دردشاتنا ونحن نشرب القهوة (كنا نهرب من السرير عاريين لندنس مائدة المطبخ)، عندما كانت تحاول أن تصف لي تجربتها الملتبسة مع الذروة، متحدثة دائمًا عن ثقتي وجرأتي خلال الطقس، بينما تداري بفشل انبهارها لأني أذكر دائمًا اسم الرب بين أدائي الفاحش، وتحدثني خاصًة عما علّمته ها، وخصوصًا إدراك الممارسة من خلال عينين مفتوحتين تراقبان في أغلب الأحيان، حجرًا حجرًا، حدائق طريق متشنج، وحينئذ كنت أحدثها عن ذكائها الذي مدحته دائمًا كأفضل صفاتها في السرير، ذكاء رشيق ونشيط (حتى ولو كان تحت رغبتي)، مفتوح بشكل استثنائي على كل الغزوات، وأنا كنت أتحدث عابرًا عن نفسي أيضًا، مأخوذًا بالتناقضات المتعمدة (وكانت قليلة) في شخصيتي، مبرهنًا من بين هراءات أخرى أني فاحش لكني نقي وعفيف، وكنت أفكر، بعينين مغمضتين دائمًا، في أشياء أخرى كثيرة بينما لم تأت هي بعد، فالخيال سريع جدًا أو أن الزمن مختلف، إذ يعمل ويخلط الأشياء البعيدة وغير المتصورة بشكل تلقائي، وعندما توقعت خطواتها عائدة بالممر حانت لحظة فتح عينيّ لأراقب الوضع الصحيح لقدميّ وهما تتطلعان خارج الملاءة، منتبهًا كالعادة إلى أن شعري الكستنائي الذي ينمو بين فجوات الأصابع وفي أصابعي الطويلة كان مضحكًا وجذابًا في الوقت نفسه، غير أني في الحال أغمضت عينيّ مجددًا حين شعرت بها تدخل الغرفة، ولمحت طيفها المتأجج يقترب وكنت أعرف كيف ستبدأ الأشياء، بمعنى أنها ستقترب برفق وبرفق جدًا إلى قدميّ اللتين شبّهتهما ذات يوم بزنبقتين بيضاوين.

منقولة من ضفة ثالثة ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24