الاربعاء 24 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
موسى حوامدة يكتب: من أمي تعلمت اللعب بالكلمات
الساعة 12:12 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 بين قوة أبي وصرامته، وحرص عمتي وجديتها، وقصصها الشعبية المعروفة والمتداولة، والتي تقصُّها علينا كلَّ ليلة قبل النوم، كانت أمي هي ملاذي المختلف في الحكايات، حيث كانت تروي لي قصصاً حقيقية، ولديها أسلوب مختلف في السرد، كأنها تعرف ما الذي أريده، وما الذي يشدّني، كانت تسيّس الحكايات، تدسُّ في ثناياها شارةً موحية؛ بَقْرُ بطن امرأةٍ حامل في دير ياسين، هدم مسجد في بئر السبع، أو صفد، خطف ولد صغير تائهٍ في الرملة، حرق بيارة برتقال في يافا، إعدام شاب خليلي في سجن عكا، حكاية من أيام الأتراك، حدوتة من سنوات الثورة، قصة من أيام الاستعمار الانجليزي، والانتداب على فلسطين.

 «... الله يرحم سيدك سلامة، ذات ليلة، جاء الثوار عندنا، ذبح لهم رحمة سيدك، نعجتين كبيرتين، وطبخنا لهم بسرعة، ثم أطعمناهم، ووضعنا لهم المزيد من الطعام ليحملوه معهم، وطلب سيدك أن ندفن بقايا الذبائح والطعام في باطن الأرض، وعلى عجل، كي لا يبقى ما يدل على آثار الوليمة، ولما جاء جيش الانجليز، بعد يومين يبحثون عنهم، حيث وضعوا مكافأة لمن يقبض على أي واحد من الثوار، أنكر سيدك زيارتهم، ولم يعترف أنه رآهم أو سمع شيئاً عنهم، لكن خالك (علي) الله يسامحه، والذي أخفينا عنه زيارتهم، كما طلب سيدك، أصرَّ أن يحصل على المكافأة، فأخذ يبحث عنهم، ويقصُّ آثارهم حتى وصل إلى المنطقة التي يتجمعون فيها، كان ثوبه الأبيض يرفرف بين سيقانه، يشف عن خصيتيه الكبيرتين وهما تركضان أمامه، يتوعد أن يمسك بساكت العبد، وعيسى البطاط، (وهما من رجالات الثورة؛ الأول من "السموع"، والثاني من قرية "الظاهرية" المجاورة لبلدتنا)، ولما كاد يلحق بهم، قال له البطّاط: ارجع يا علي، ارجع يا زلمة، والله لولا أبوك، لأطخك بالطبنجة».

سألتها حانقاً على خالي: وهل أمسكهم يا أمي؟

فضحكت وهي تقول: إذا كل جيش الانجليز يمه ما قدروا عليهم، بدك خالك (علي) الله يسامحه يمسكهم، كانوا مسلحين وهو لم يكن يحمل غير دشداشته بين يديه، وقال له ساكت العبد: (إرجع يا علي إرجع، والله لولا لحم أبيك في بطني لأقتلك)، وعرف خالك أننا ذبحنا لهم وأطعمناهم، فعاد يهدد ويتوعد، فقال له رحمة سيدك: اسكت، يا مهبول، هل تريد أن تجلب لنا الداهية، استح على دمك، أكيد أن ساكت العبد، كان يقصد أيام زمان، قبل الثورة.

كان مسؤول المنطقة الانجليزي، ضابطاً لعيناً اسمه "مِهن"، وكان ظالماً جباراً، حتى أنه دفع بأحد رجال الثورة من على سطح علية "العنيد" الشاهقة العلو، وجروا سيدك سلامة إلى العلية ليعترف، وأوقفوه عارياً طيلة الليل في عز البرد.

-وهل اعترف لهم؟

*سيدك يعترف! أعوذ بالله، كان الموت عليه أسهل.

احكي لي يا أمي احكي، احكي لي عن الانجليز والثورة والثوار، أحب حكاياتهم، أحبُّ حكاياتِك؛ زهقتُ حديدون، ودلَّى (عضو...)ه في الطابون، كرهتُ قصصَ الشاطر حسن والتُبَّع حسان والصفيرة عزيزة، ولم تعد تعجبني خراريف الكلاب والجمال والذئاب والضباع.

أطلب وتلبي الطلب، وتروي لي المزيد من حكايات الثوار، وأطلب الاستزادة، فتعبر عن إعجابها بهم، وكأنهم أبطال ملاحم، أقوياء يحملون بنادق ضخمة، يتخفون عن الأعين، ملثمين يطاردون جيش الانجليزي ويرعبونه، وتجترح حكايات متواصلة عنهم. وكنت كلما أطلب منها المزيد، تعاود سرد نفس القصص، ولكن بطرق ثانية، وبلغة مختلفة، وصوت مختلف، وتبدع في رويها مجدداً، وتحاول في كل مرة أن تضيف لها بعض الكلمات أو الفقرات الجديدة، أو أبياتاً من الشعر الشعبي، وتنظم أحياناً بعض الأبيات الفولكلورية، أو الحكم والأمثال الملائمة، وتستبدل مرات بعض المواويل والأغاني الشعبية، تضع كلمة مكان أخرى، في نهاية الموال، أو بيت العتابا، أو حتى الحكمة، والمثل الشعبي، ومن هنا انتبهت أن كلام عمتي وحكاياتها، لا يتبدل، تقولها بنفس الطريقة، وبنفس النبرة، ونفس الوقفات، وحتى الأخطاء، وأماكن التوقف والتثاؤب، في كل مرة، لكن حكايات أمي، وكلماتها تتجدد، ويمكن استبدالها، وتغييرها، وإضافة المزيد لها، أو اختصارها بلغة مكثفة، إن كانت مشغولة، أو متعبة، والإسهاب في سردها إن كانت مرتاحة. ومنها عرفت، وأدركت، أن الكلام غير مقدس، وأن اللعب بالكلمات ممكن.

منقولة من بتانة نيوز..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24