الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
الكتابة التي لا تسير على عكاز ! - صلاح الأصبحي
الساعة 09:59 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


ما أكثر الهراء الذي يكتب هذه الأيام, ومعظمه يكشحكَ في زاوية لا تطيقها وفي غنى عنها, والمتبقي منه يجعلكَ تترهل وتشيخ, وقد يبلغ مفعوله حد بياض رأسكَ وسواد قلبك معاً, ولو كان بإمكانك لعجلت فناءها قبل أن تفعل هي ذلك .
 

ستقودني هذه المقدمة الطللية إلى الاعتراف رغماً عني ـ كحقيقة لا استقوي على إخفائها ـ بكتابات قليلة؛ لكنها تفعل الكثير من المتعة, وتعطي العميق من المعرفة, وتحس بلذتها وهي في قمة حزنها, وبدفئها وهي في سقيعها العارم, استسغت أن أنعنتها ب(الكتابة الشابة الفتية والمتقدة التي لا تسير على عكاز), ولا تتنفس الملل أو السخط ولا تشتهي الموت, لا لأن أصحابها من الجيل الشاب؛ وإنما هي بحد ذاتها : أفكار وتصورات ولغة وفلسفة في مقتبل العمر, مشرقة, باسمة, ومتطلعة, تعيد الكهل إلى صباه, وتنسج نسائم الخيال في الثقب الضيق, أي أنها كتابة جديدة, وجديدها يكمن في انتشائها وإشراقها, وفي ثغرها الباسم المبذور هنا وهناك : في الداخل (الذات) أو في الخارج(الآخر). 
 

يمثل هذا اللون الكتابي الجديد بعناية بالغة وحرص شديد في اليمن بعض الشباب ,سأكتفي بإيراد أسماء ثلاثة مهمة؛ بل في غاية الأهمية: " محمد العليمي ـ بشرى عبدالله ـ سلمان الحميدي".
أدرك جيداً أن لكل واحد منهم أسلوبه وفكره وطريقته ولغته؛ إلا أن جامعاً واحداً تصب فيه شلالات كتاباتهم معناه: أنها تحمل روحاً شابة وفكراً متطلعاً, يمثل ربما جيلاً بأكمله, تختفي من أوداجه نظرات الترهل والازدراء السلبي, والتأدلج المقيت المتصلب, والتلقين الفقهي الذي يقتل حامله أو يحوله إلى آلة تردد دون أن تفكر, وعليه وصمت كتاباتهم أنها لا تسير على عكاز, وما زالت في ريعان شبابها حتى لو كانت تتعلق بقضايا في غاية الرسوخ والاتزان؛ لكنها تعيد لها بريق الشباب وتنقحها من الشطحات الكسيحة, وتقربها إلى الواقع زلفا, وتجعلها ترقص وتغني وتحزن وتبكي, تثني قراءة نفسها مرة أخرى, وتنفض غبار العجز وروماتيزم الشيخوخة .

 

يمكنني أن أشير هنا تلميحاً لكل منهم ببعض التفاصيل عما يكتبه, سعياً في الترابط والاتساق بينهم وتجمعاً في نقطة الالتقاء بينهم ,فحمد العليمي : الفتى الذي صمت كثيراً قبل أن يكتب, وحين عزم عليها, كتب فأدهش وحير, وغرد صوته بالقول: إن كتاباتي تمثلني, تمثل الروح التي أحمل, والنور الذي يشع داخلي, والمسافات التي أقطعها وأنا أتشبع من الفلسفات المختلفة والآداب والفنون كلها, أستخلص منها ما يحفز رؤيتي للحياة والعالم, ولست الصدى لصوتها أو الحارس لأفكارها, قد أكون في قمة شغفي بها, أصدها بقوة وأجاهر بعدائها فأحولها لصالحي وأستنطق منها ما يشد أزري ويفصح لساني حتى لو كانت عدميتها تبتلعني كلياً, إنه متقد الفكر, يشحذ ذاكرته ولا يتركها تتوه في غياهب الوجود .
 

يكتب في مجالات شتى كالسياسة والأدب والحب, وفي تفاصيل الحياة المتفاقمة يلون وطعم شهي, تسري روحه في كل ما يكتب بمنطقية الحيز الذي يحتمل المنطق, وعشوائية المدار الذي لا أثر للعقل أو المنطق فيه كالمشاعر, ورغم زمالتنا إلا أني أختلف معه في قضايا عدة, وأمجده أكثر منها ككاتب مرموق وتماه جسيم, وعليه السعي ليبقى كما هو دوماً لا يتصور أسلوباً لآخر فيتمثله, استحساناً منه له .
 

أما بشرى عبدالله اسم كأنك تعرفه قبل أن تقرأ له بزمن, ولن يخلو الأمر من توجيه الاتهام لنفسكَ بضعف القراءة, إن كنت تجهلها, فتظل تلح في البحث عن منبتها, وجذور كتاباتها في سياقات متفرقة, متسائلاً عن مجيئها بهذه الهيئة المكتملة وبهذا الإصرار الكبير الذي يجبرعلى احترامها .
 

لي الحق أن أندهش بها ؛لأنها خرجت عن نسق ما تكتبه المرأة اليمنية, شكلاً وموضوعاً, وكأنها استلهمت قول فكتور هوجو: كن رجلاً ولا تتبعني, فخطت في طريقها المنفرد وحيدة بثقل فكري متزن وجاد, ممتلئ بالانغماس الرؤيوي الفاتح للأبواب الموصدة, والطاولات المتسمرة تنعثها بحثاً عن المختبئ أسفلها, كاتبة لا تطفو على السطح أبداً؛ بل تغوص عمقاً أينما حلت, وحطت شراعها لا تجيء إلا بجديد, كتاباتها حالمة في بلاد اليأس, ومتطلعة في أرض قصيرة,ومضيئة في غياهب مظلمة, تنير درب قارئها, وتبصره بما غَفل عنه قبل أن يقرأ لها, تسكر منها حتى تثمل .
 

سلمان الحميدي الشاب الذي يتقدم بخطوة دوماً فيما يسند إليه كصحافي خبير, وسارد متجاوز, ووعي خالص كنسيم (جبل صبر) الذي لا يضاهى. كاتب تكتنفه تلك السمة الخاصة, ويظفر في الغالب بمفتاح الجمال والانبهار, إذا حزن أبكى, وإذا فرح أبهج وإذا سخر أمتع, وإذا انتقد أرشد وأوغل, كتاباته شاهقة كصَبِر العظيم بإشراقه الثاقب, ومرونته العذبة, وأشجانه الملتوية وحبه الأبدي, كأن صبر هو من يكتب, تَعشق حروفه كعشق صبر لتعز, وستظل ترافقه للأبد لأسلوبه الفاتن ولغته الصافية كأن كلماته مبذوره لأول مرة, يَجمع شتاتكَ ويكومكَ بحوزته لتنال حظكَ من بريقه, وترتشف كأساً من إبريقه الندي .
 

ليست الرشفات التي حاولت مضغها من كؤوسهم إلا مجرد إغواء وإغراء لكم للبحث عنهم أكثر, والسعي للتأمل فيما يكتبون كما ينبغي ودون مواربة.
لا شك أنهم سيشكلون عقداً لا يمكن فصفصته, ولوحة ستغدو علامة فارقة بين شعاع الضحى وسواد الليل, أعتز بكم كحب متحقق وآسر .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24