الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
صلّ الفلاة: الجواهري مستعاداً في صيف الذاكرة - حاتم الصكر
الساعة 08:00 (الرأي برس - أدب وثقافة)


كان صيف العراقيين هذا صيفَ أحزانٍ نموذجياً، توازي حرارته اللاهبة ألم التذكرات التي توالت عليهم: فقدان أبرز شعرائهم في مثل هذه الأشهر: الجواهري، البياتي، بلند الحيدري، ولتزاد مرارة التذكرات جاء استذكار الروائي غائب طعمة فرمان. كلهم اختارهم الموت في الغربة وأهيل عليهم تراب، وَدّوا لو كان تراب العراق. لكن رياح السياسة لم تجر بما تشتهي سفن الآمال..

الشام مسقط موته!

تميَّز تذكّر الجواهري بطعم تلك المرارة: أن يموت ويدفن خارج مدينته التي تضم - يا للمفارقة - أكبر مقبرة في التاريخ والجغرافية: وادي السلام. اسم مقبرة تحمل حلماً عصيًّاً؛ فلا سلامَ لأرواحِ مَن ضمته حتى بعد عقود؛ فقد نالتهم (مكرمة) الدكتاتور، فاكتسحت الجرافات عظامهم؛ لتزيحها في أكوام، وتنشق بدلها طرق، يتبين منها من يختفي بين القبور. العظام الباقية سوف تلتم مختلطة ببؤس بعضها على ضفاف بحيرة يشي موقعها في البادية بغرابة كل شيء.

لم يتح لجسد الجواهري إذاً أن يعود لمسقط رأسه فصارت الشام مسقط موته!

لم يجاور مدينته ميتاً كما هجرها حياً. كالمتنبي معلِّمه ومواطنه، واكتفى بترديد صيحته الشهيرة في رثائه: أنا آبن كوفتك الحمراء! نعم فهي واهبة الدم على المدى بعيده وقريبه. وهي الطاردة لهما في تكرار تمثيلي رمزي فذ. حملا جسديهما وأحلامهما وأوهامهما وتعثّرا حلا وترحالا  بعيداً عنها حتى ابتلعهما الغياب.

ولد محمد مهدي الجواهري في النجف عام 1900 ومات في دمشق عام 1997. وأوصى بدفنه حيث هو. لم يحظ برثاء رسمي، ومنِع نعيه وقتها. مكافأة مجحفة لشاعر (يا دجلة الخير يا أم البساتين) و(سلام على هضبات العراق) التي ما زال العراقيون يرددونها في شتى المناسبات والمواقع.هو بدوره اكتفى بالبقاء (بعيداً) حياً وميتا؛ فقال: حيّيتُ سفحَك عن بُعدٍ فحيّيني. أمنية عزيزة أخرى وصلته متأخرة. تحية سيضمرها ويُظهرها العراقيون بحسب الحاكمية والحاكمين.

قرن وليس عاماً!

ولادته مطلع القرن تستدعي في الذاكرة ما رواه لي الراحل العزيز الدكتور علي جواد الطاهر من أنه قال في ندوة تلفزيونية عن الجواهري (إنه مولود على وجه الدقة في عام 1899)، فيعاتبه الجواهري هاتفياً في الليلة نفسها؛ لأنه يصر على إثبات عام 1900 تاريخاً لميلاده، فيقول له الطاهر معتذراً: إنها مسألة عام واحد ولا تستحق (الزعل). فيرد الجواهري غاضباً: (لا، هذا قرن، وليس عاماً). لذا يقول في ذكرياته (ولدت مع مولد هذا القرن المضطرب الصعب..) إن تلك الواقعة ذات دلالة مزدوجة: حب الجواهري للحياة وتشبثه بزمنه المتاح، ورغبته في الانتماء لعصره رغم تمسكه بالكتابة الشعرية ذات الإيقاع التقليدي، أعني الممتثلة للتقاليد الشعرية المتوارثة.

ولا تعز الأمثلة على من يشاء التيقن من هيمنة هاتين الثيمتين على خطابه الشعري: وطنيته وغزله:

 - وطنيته التي غلب عليها الطابع التقدمي، حتى إنه دفع غاليات ثمن اصطفافه مع الحرية، فقد خاض الجواهري مثلاً سجالاً شعرياً مع شاعر سلطوي هو صالح مهدي عماش دفاعاً عن المرأة، وكتب للشباب مطالباً بمجاراة العصر، ورأى في حرية الفكر شرطاً للنهوض والتقدم، ولم يدع مناسبة إلا وكرر إيمانه ذاك. ولعل مرثية المعري أوضح دليل على ما نقول، فهو يمجد الثورة والفكر الحر عبر استعادة منهج المعري:


حُرَّيةَ الفكرِ والحرمانَ والغضبا

لدى سواكَ فما أغنيْننا أربا

ويخلص إلى اشتقاق حكمة، سيرددها قراؤه، وهم يعزون أنفسهم بمن فقدوا من المفكرين الأحرار:

لثورة الفكر تاريخٌ يحدثنا         بأن ألف مسيحٍ دونها صُلبا

ولم يستنكف عن حاضره أو يعش في قياسات الماضي ووقائعه ورموزه، فقد كتب عن أم عوف الفلاحة التي رافقها حين هجر السياسة زمناً في الحكم الملكي:

يا أم عوف عجيبات ليالينا          يدنين أهواءنا القصوى ويدنينا

واتخذها وسيلة لبث شكواه من الأوضاع القائمة.

ابنة الجيك

شعره في الغزل، لا سيما في فترة أو مرحلة عيشه في براغ، هو من أكثر شعره الغزلي دلالة على طريقته في توصيل مضامين قصائده. واشتهرت (ابنة الجيك) التي تغزل بها ووصف جمالها بعاطفة تتجاوز الغربة وتمثيلاتها الشعرية الممكنة. ولم يتوقف لحظة عن غزل مشبوب العاطفة في كل سانحة، حتى حين يلتقي بائعة سمك حسناء فيخلّد لقاءها في قصيدة!

صارت مقهاه الجيكية محجاً للغواة ومحبي شعره ووطنيته التي نأت به بعيداً حتى استقر في الشام.. مرسلاً حنينه في قصائد مميزة، وعبر مذكراته التي نشرها بنفسه في دار حملت اسمه.

وله في صباه قصائد مكشوفة الوصف في المرأة، لعلها محاولة لمعادلة بنية القمع الذكوري في مجتمع منغلق. لكنه ظل ذلك الشاعر المتعلق بنموذج امرأة لها مقاييس جمال يسبغها عليها من مخيلته غالباً.

 

مساخراته الدامعة: نامي جياع الشعب نامي!

 

يحتفظ الجواهري بقدرة غريبة على صنع السخرية الواخزة أو الدامعة. يقتفي أثر المتنبي في تكبير صورة الخصم وعيوبه وتجسيمها، ويلجأ غالباً لحيل ووسائل لغوية وصورية لتعزيز ذلك.

ومن أشهر ما صنع من قصائد في المساخرات التي أعدها نهجاً مختلفاً عن المفارقات لما فيها من روح الدعابة والنقد الساخر قصيدته (تنويمة الجياع) التي حافظ على موقعه فيها سارداً مفارقاً لما يروي منذ الاستهلال حتى الخاتمة:

 

نامي جياعَ الشعب نامي                        حرستكِ آلهةُ الطعامِ

نامي فإن لم تشبعي                             من يقظة، فمن المنامِ

نامي على زَبَد الوعو....                     دِ يداف في عسل الكلامِ

نامي على الخُطب ِالطوا...                    لِ من الغطارفة العظامِ

نامي تطفْ حورُ الجِنا...                       نِ عليكِ منها بالمُدامِ

نامي فما الدنيا سوى                             جسرٍ على نكدٍ مُقامِ

نامي ولا تتجادلي                                القول ما قالت حذامِ

نامي جياع الشعب نامي                           لا تقطعي رزقَ الأنامِ

نامي تريحي الحاكمي ...                             نَ من اشتباك والتحامِ

نامي، إليك تحيتي                                    وعليكِ نائمةً سلامي

لقد أوجز ببلاغة وفنية عالية ما كان يعاني الشعب من مآسٍ، واحتفظ بتلك السخرية القاسية، مستلاً صوراً ذات دلالة عن البؤس والاضطهاد وفقدان الشروط الإنسانية للحياة.

أزح عن صدرك الزَّبدا

وجد الجواهري أسباباً أخرى لتشبثه بالحياة التي أحبها ودافع عنها ضد أعدائها، فهو يعترف في مذكراته (رغم مقاربتي التسعين فأنا في حقيقتي.. ذلك الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة.. وكل كياني المتضارب، المتصاعد المتنازل المتخالف المتناقض يقوم على هذه الحقبة الأولى من حياتي).

إنه يلخص ما كان عليه في طفولته (يفور فورة ويستوي، فورة ساخنة قوية، ثم سرعان ما أستوي فأعود إلى طبيعتي). هو كذلك مجبول على غضب وتناقض وسرعة استجابة. وربما تهيأت للجواهري بوادر التعارض منذ ولادته في ذلك البيت الديني الذي يلغي طفولته، ويحمّله ما للكبار من سجايا وطباع، كحفظ القرآن والشعر مبكراً؛ فلا ينال من والده مصروفه اليومي إلا بعد أن يقرأ ما طلب منه حفظه. ويستدعيه لقراءة محفوظاته لزواره في مجلسه، وما فرض عليه من دراسة العلوم الدينية صغيرا، ومجالسة الرجال في دواوينهم.. فضلا عن طبيعة النجف المحافظة التي ولد ونشأ فيها.

يصف الجواهري نفسه بأنه مثل صلّ الفلاة، الصل الذي يقول المعجم إنه حية لا تنفع معها الرّقْية، لذا تتحمل العطش وتزهد بالفيء والراحة. يقول في ذكرياته (ولدت فوق أرض ملحية عطشى، بالرغم من أنها على مقربة ميل أو ميلين من الفرات...فانفتحت نظرتي الأولى على أفق الصحراء الممتدة إلى الأبدية، وتعلمت أول ما تعلمت التحمل والزهد الذي يميز صلّ الفلاة..).

 

 ويعززها بحكمة صينية تختصر الحياة في ثلاثة أفعال:

وُلدوا،

           فتعذبوا، 

                         فماتوا

كذلك يقدّم بيته الشهير الذي وجده ملائماً لموقف الذكريات التي آن له أن يبوح بها:

أزحْ عن صدرك الزَّبَدا          ودعْه يبث ما وجدا

وتلك كانت خطته في شعره ونثره على السواء: أن يجعل نصه تعبيراً يزيح ما يتراكم من زَبَد يحجب الجوهر ويخفيه...

خاتمة:

في قصيدته (المحرقة) التي تعدّ من غرر شعره يقول الجواهري:

أحاول خرقاً في الحياة فما أجرا           وآسف أن أمضي ولم أبقِ لي ذِكرا

ستحيل الدلالة هنا بفنية أتقنها الجواهري إلى المتنبي الذي لم يرض بما أراد له الدهر، ولم يقنع بما وهبته الأيام، وتخلى عن هبات الحكام؛ لأنهم أرغموه على اختيار ما لا يريد. واقترح على قارئه أن يترك وراءه ما يخلده: دوياً تضج به الأسماع:

وتركُك في الدنيا دوياً كأنما                تداولُ سمعَ المرء أنملُه العشرُ

لكن الجواهري وهو يزيح زَبَد الغضب، لا ينسى ما تعرض له من إساءات، ولا أولئك الذين (زرعوا في حياته الحسك والأشواك) – كما يقول – واعداً قرّاءه (بالترفع عن مباذل الخصومات)، فهو منشغل بسرد كفاحي يضعه في مكانه من سلسلة الشعراء الذين أحبهم، بل لقد تخيل المتنبي والمعري يكتبان سيرتيهما: الأول بما (اعتمل في نفسه وهو يجوب الحواضر والبوادي، حاملاً قوافيه من مغامرة إلى أخرى)، والثاني وقد (جاهَر ببواطن ما اختزل في  لزومياته ورسالة غفرانه..).

أما هو فحسبه تلك النفثات التي أطلقها عبر قصائده، وجابت به الآفاق؛ فانتزعت اعتراف خصومه ومحبيه على السواء بشاعريته ووطنيته، وكونه آخر الأصوات التقليدية التي يتفق عليها الفرقاء.

منقولة من ضفة ثالثة...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24