الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
زيارة ليو هيرش لوادي حضرموت في نهاية القرن التاسع عشر- أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 12:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



في الربع الأخير من القرن التاسع عشر شهدت حضرموت عددا من المتغيرات المهمة؛ وفي اعتقادي يُعد بروز نتائج الهجرة الحضرمية إلى الهند وجزر الأرخبيل الهندي من أهم تلك المتغيرات. ففي تلك الفترة أصبح كثيرٌ من المهاجرين الحضارم في تلك المناطق رعايا بريطانيين أو هولنديين، ونجحت بريطانيا في إيصال أحد رعاياها –الجمعدار عوض بن عمر القعيطي، الذي كان يعمل ضابطا في الكتيبة العربية لأمير حيدر أباد الخاضع للحكم البريطاني- إلى دفة الحكم في ساحل حضرموت ومعظم مدن الداخل، ومن ثم إخضاعه لمعاهدتين جعلتاه تابعا لبريطانيا. وهو ما سهّل وصول الغربيين بأمان إلى حضرموت الساحل وكذلك الداخل الذي بات في معظمه يخضع للسلطنة القعيطية بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن المعلوم أنه حتى السلطان غالب بن محسن الكثيري لم يستطع أن يؤسس السلطنة الكثيرية الثانية إلا بفضل الثروة التي كونها في الهند، ولم تكن لديه أية رغبة في معاداة البريطانيين أو عدم إرضائهم.
 

أما بالنسبة لفئة السادة، التي تحدّث فان دن بيرخ عن تحفظها وعدم انفتاحها على الغرب، فقد توزعت في منذ نهاية القرن التاسع عشر على فريقين: فريق ظلّ محافظا ويرفض كل ما يأتي من الغرب، لأنه كان يدرك أن الانفتاح على الغرب المسيحي سيؤدي حتما إلى تقليص نفوذه الروحي بين السكان، ولن يفيده تضمين بريطانيا الاعتراف بهذا النفوذ في اتفاقياتها أو معاهداتها. وفريق آخر، وهو الذي كوّن ثروة ضخمة في المهجر الشرقي الخاضع لبريطانيا أو هولندا، أصبح ينادي بضرورة تحديث حضرموت من خلال التعاون مع الغربيين. وعلى رأس هؤلاء شيخ بن عبد الرحمن الكاف ونجلاه عبد الرحمن وأبو بكر الذي يعد بحق مهندس انفتاح حضرموت على الغرب. ويؤكد فان دن ميولن في كتابه (حضرموت، إزاحة النقاب عن بغض غموضها، ص73)، إن "السادة، الذين أصبحوا مواطنين هولنديين، وسماح هولندا لهم بتحويل أموالهم إلى حضرموت قد جعلهم أكثر تقبلا للغربيين المسيحيين في وطنهم الأم حضرموت". وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين لاحظت الرحالة البريطانية فريا ستارك، هي أيضا، انقسام فئة السادة، وأكدت أنه قد تم استقبالها بحفاوة من قبل التيار الحداثي من سادة تريم، بينما حرص أفراد التيار المحافظ على الابتعاد منها في الشوارع وكأنها نجاسة. (انظر كتابنا حضرموت في كتابات فريا ستارك)
 

ولا شك أن تلك المتغيرات هي التي سهّلت وصول المستعرب الألماني ليو هيرش إلى الداخل (وادي دوعن ووادي حضرموت) عام 1893. وقد سمحت السلطات البريطانية في عدن لهيرش بالتوغل في حضرموت لأنه اشتهر بوصفه باحثا متعمقا في العربية والشريعة الاسلامية وسبق أن قام بأبحاث جادة حول اللغة العربية والإسلام. 
 

في نوفمبر من عام 1892 غادر ليو هيرش عدن باتجاه الشحر، وفي المكلا قال إنه يريد اقتفاء نموذج أدولف فون فريده والسفر الى الداخل للتحقق مما كتبه حول حضرموت. لكنه اضطر إلى العودة إلى عدن بعد تردد سلطان المكلا القعيطي في السماح له بالتوجه إلى الداخل، وأحضر له تعليمات قوية وواضحة من حاكم عدن. وهذا يبين مدى قوة النفوذ البريطاني على السلاطين القعطة منذ نهاية القرن التاسع عشر.
 

وبعكس فون فريده لم يتنكر ليو هيرش، فرغم أنه لبس الزي الحضرمي ومارس التطبيب فهو لم يخف أنه عالم مسيحي يريد يدرس عادات المسلمين. وقد امتدت رحلته في حضرموت، ساحلها ووديانها، نصف عام. وقام زار خلاله مدن الشحر والمكلا ومدن وادي دوعن ووادي حضرموت؛ شبام وسيئون وتريم، كما أنه زار بعض مدن المهرة. ويعد هيرش أول أوروبي شقَّ طريقه عبر وادي حضرموت. وقد كتب تقارير متفرقة عن كل محطة في رحلته تلك. وفي عام 1897 قام بنشر سرد كامل لرحلته في كتاب بعنوان (رحلة إلى جنوب الجزيرة العربية: أرض المهرة وحضرموت). والكتاب لم يترجم بعد إلى اللغة العربية. 
 

إضافة إلى السرد التفصيلي لمختلف محطات الرحلة، يتضمن الكتاب كثيرا من المعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسة والاثنوجرافية واللغوية حول حضرموت. ويذكر هيرش أن المرشدين قادوه من المكلا إلى الجول عبر رأس حويره، وأوصلوه إلى بلدة صيف في وادي دوعن، التي تم فيها القبض على فون فريده، وتوقف في العجلانية والمشهد والهجرين، قبل أن يزور حورة في مدخل وادي العين، ليتجه بعد ذلك شرقا ويحل ضيفا على السلطان الجمعدار صلاح بن محمد بن عمر بن عوض القعيطي في القطن وشبام. ثم اتجه شرقا واستقبله السلطان منصور بن محسن بن غالب الكثيري والشاعر عبد الله بن صالح باعطوة بالترحاب في سيؤن. ثم اتجه إلى تاربة ومكث فيها بضعة أيام زار خلالها غنيمة والحزير ووادي بن سلمان والغبراء وبلاد بن عبد الله وبلاد آل غريّب، وذلك قبل أن يغامر بالذهاب إلى تريم، أملا أن يعثر فيها على من سيقوده إلى قبر النبي هود وبئر برهوت. لكن حالما وطأت قدماه تريم شكك السادة في أهداف زيارته وأرغموه على مغادرتها بعد ساعات قليلة من وصوله. 
 

وقد ضمن المؤرخ عبد الرحمن بن عبيد اللاه السقاف ملخصا لاختراق هيرش وادي حضرموت في كتابه المخطوط (بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت)، قال فيه: "في حدود سنة 1310، ورد أحد الألمان واسمه هرش إلى حضرموت ليكشفها ويكتب رحلته عنها، وأشيع أنه جاسوس. وهو أول إفرنجي رأته البلاد فيما نعلمه، ونزل بالقطن على ضيافة الأمير صلاح بن محمد القعيطي، وقد جد في عبوره بطن الوادي، غير أن كثيرا من الناس أفهموا الحبيب عبد الله بن حسن ما أشيع عن جاسوسيته، فاشتد في منعه، وتألى بعد صلاة الجمعة في مسجد ذي أصبح ألا يمر إلا على رأسه، فنهض بعض أعيان القبائل وقال له: ما بوجهك بوجهنا. وكان الشيخ عبيد صالح بن سالمين حاضرا والمفاوضة بينه وبين الأمير صلاح بن محمد جارية على أن يخفره إلى سيؤن بما يرضيه من الدراهم، لكنه لم يقدر على شيء بعدما كان من تحمس الحبيب عبد الله بن حسن ما كان. غير أن الألماني استطاع بمساعدة القعيطي أن يمر بطريق الجبل إلى تاربة، حيث نزل على الشيخ أبي بن سعيد الزبيدي. ثم سار ومعه ابن الشيخ سعيد بخفارة خشنة إلى تريم، ونزل بها في دار السيد عبد الله بن عبد الرحمن بن شهاب طائفة من النهار لم يستطع فيها أن يخترق شوارع تريم لأن أهلها أغروا به الصبيان، فاضطر إلى مغادرتها سريعا. وتعالم الناس بأن الشيخ باعطوة قدم له قصيدة يمدحه بها فأسنى جائزته عليها".
 

وبعد عودة هيرش إلى شبام وفر له السلطان صلاح القعيطي عددا من المرشدين الذين قادوه مرة أخرى إلى الجول عبر وادي بن علي ووادي عدم، إلى أن وصل عقبة المعدي، ثم غيل باوزير، ومنها إلى المكلا. 
 

سياسيا، رأى ليو هيرش أن مدينة شبام، التي تحرسها كتيبة عسكرية يافعية مهمة، هي أهم مدن الوادي على الرغم من أن سلطانها صلاح القعيطي يقضي معظم أوقاته في القطن، مقر زوجته الأولى. وفي سيؤن يحكم السلطان منصور بن غالب بن محسن الكثيري، وفي تريم أخوه محسن بن غالب. ويذكر أن السلاطين الكثيريين، بعكس السلطان القعيطي، يعتمدون على العسكر العبيد وليس القبليين.
وكان هيرش محقا حينما رأي منذ ذلك الحين أن الهندسة المعمارية التي تتميز بها مباني شبام تعد الميزة الفريدة في حضرموت، مؤكدا أن سيؤن تفوقها في نظافة الشوارع وسعتها. لكنها لم تكن في ذلك الحين مسورة مثلما كانت تريم. وأبدى إعجابه بقصر السلطان في سيؤن ومسجد الجامع المجاور له (الوحيد الذي تؤدى فيه صلاة الجمعة)، وكذلك بمسجد الحبيب علي بن عبد الله السقاف، وفي المقبرة يزور قبة آل الكثيري. ويذكر كذلك مسجد عبد الملك ومسجد الرياض، لكن قبة الحبشي لم تكن قد شيدت بعد. ويذكر أن المنصب في سيؤن هو (الحبيب عبد الله بن محسن السقاف).

 

وينهي ليو هيرش كتابه بثلاثة ملاحق: الأول عبارة عن خطاب باللغة العربية تلقاه من الجمعدار صلاح بن محمد بن عمر بن عوض القعيطي، لِـ"السؤال عن حالك." أما الملحقان الآخران فهما "أبيات" للشاعر المحلي عمر بن محمد بن سعيد باعطوة "للصاحب ليو هرش حاكم الجرمل" وقائمة بنباتات جمعها هيرش أثناء رحلاته.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24