الخميس 28 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
طرافة البنية الحوارية في شعر البردوني قصيدة " امرأة الفقيد"أنموذجاً - أحمد صالح الفراصي
الساعة 15:05 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

إن القارئ في شعر البردوني سيلاحظ بروز الطابع الأسلوبي الذي يعتمد على صياغة الأحداث سرداً بوساطة الحوار، سواء كان خارجياً يُمارسُ من قبل الفواعِل الممثَّلة في نسيج النص ؛ أو داخلياً بصورة مناجاة أو منولوج درامي فيكتسي النص حينها درامية تمتد في شكلها البنائي إلى الجذور المسرحية  .

 

   وهنا تكمن الرؤية الجمالية المتجددة للبردوني التي تتمثل في العثور على تقنيات شعرية طريفة، وتكوينات أسلوبية تصبح بحد ذاتها إيقاعاً فنياً يؤكد على ميكانيزم العمل الشعري البردوني، ويدل على خصوبته وخصوصيته في آن.
 

 ومع أن السرد يمكن أن يوجد في أية عملية كتابية فإنه حين تكون هذه العملية الكتابية شعرًا، فإن دخوله في صلبها سيصنع نوعًا من الامتزاج المتآلف لا المتنافر بين السردي والشعري. ولا شك في أن هذا الامتزاج سيتقدم ليقوم بتنقية أجواء العبارات الشعرية من استطراداتها التصويرية، وتطهيرها من فلول البلاغة المعهودة. كما يقوم أيضاً عبر السرد بتقريب المسافة ما بين الشاعر وكلماته، إذ تصبح الكتابة أكثر بوحا، وتغدو الجمل أكثر بساطة وشفافية. وأكثر قربا - من جهة أخرى - من المتلقي؛ ومن الحدث الشعري ذاته. وهنا تتهاوى - أو تتراجع الى الخلفية النصية على الأقل - مفاهيم مثل الغموض، والأبعاد الاستعارية للنص لتحل محلها مفاهيم مثل جماليات المباشرة، والبعد الكنائي، والاهتمام بالزمن النصي، وباللوحات المشهدية المسرودة التي لا تقف اللغة أمامها حائلا، ويصبح الابداع والتخييل هما المعيار الأول في قراءة القصيدة والوصول إلىٍ مدلولاتها المتعددة. 
 

خذ مثلاً نص "امرأة الفقيد" ستجد أنه محمل بدلالات مغرية متعددة ، يحتاج  معها لقدر كبير من التحليل والتأويل ،بيد أننا تركنا هذه الحاجة قليلا لنتحول الى قراءة موجزة لبعض الرؤى الجمالية فيه ,لاسيما المتصلة منها بالبنية السردية الحوارية، صبوةً الى التحديق في بعض المشاهد البارزة في ملفوظاته ، وطموحاً إلى الانتباه الى شعريات ماتعة تدلنا على هذه الرحابة الجمالية التي يبحث عنها المتلقي دائما. لاسيما أنه يمكن لنا أن نعتبرها هي التي تشكل مهاداً للرؤية الجمالية للنص، حيث تتحرك بوساطتها الرؤية الجمالية غالباً حركة أفقية، تستقصي المشهد الشعري الموصوف على انبساطه وامتداده، وتتوغل معها الصياغات التصويرية الشعرية في توسيع مساحة التوتر الجمالي للنص حيث تتقصى الحواس مدركاتها بأقل قدر ممكن من المفردات التي تحاول في الأغلب أن تفي بإيصال ما يعنّ للبصر، وربما ما تضيئه البصيرة . تأمل معي فاتحة النص التي  انثالت منه مشاهد تصويرية مؤثرة ما كان لها أن توجد لو أتت بغير هذه التقنية :
 

   لم لا تعود ؟ وعاد كل مجاهد     بحلى النقـيب أو انتفـاخ الرائـد
  ورجعت أنت ، توقعا لملمتـه     من نبض طيفك واخضرار مواعدي
  وعلى التصاقك باحتمالي أقلقت   عيناي مضطجع الطريق الهـامـد
  وامتد فصل في انتظارك وابتدا     فصلٌ ، تلفّـح بالدخـان الحاقـد
  وتمطت الربوات تبصق عمرها    دمها وتحفر عـن شتـاء بـارد

 

هنا يؤْثر البردوني المشاهد الشعرية الحوارية المتقطعة التي قد لا تفي بمتطلبات اكتمال الدلالة ووضوحها أحياناً، أو متطلبات التلقي المعهودة التي تعتمد الترتيب حيث البدء والموضوع والختام، إذ تأتي الجمل الحوارية على شكل مشاهد قصيرة، ربما لا تواشج بينها ولا اتصال سوى اتصالها موضوعيا بالذات المتكلمة. حيث يستثمر الشاعر فيها بنية الحذف المشهدي لسير الأحداث، لتتقشف العبارات الشعرية إلى أبعد مدى،  فتتكثف معها الجمل الحوارية فارضةً على القارئ أن يكون مشاركاً فاعلاً في استكمال بقية تفاصيل المشهد . وهذا ما بدا أكثر جلاءً في المشهد الحواري التالي على لسان "امرأة الفقيد" حيث يرد :
 

وغداة يوم ، عاد آخر موكبٍٍٍِِِِِ       فشممت خطوك في الزحام الراعد
وجمعت شخصك بنيةً وملامحًا     مـن كلِ وجهٍ في اللقاءِ الحاشـد
حتّى اقتربْت وأمّ كـلٌ بيتُـه       فتّّشت عنـك بـلا احتمالٍ واعـد
من ذا رآك ؟ وأين أنت ؟ولا صدى   أُومـي إليـك ولا إجـابة عائـدِ
وإلى انتظار البيت ، عدتُ كطائرٍ    قلقٍ ينـوءُ عـلى جنـاحٍ واحـدِ

 

هنا يستثمر النص عنصر السرد الشعري في تكوين سياقاته وردم فجواته الحوارية وتقاطعاتها، فيؤدي ذلك الى تنشيط الوعي الجمالي والصياغي فيه، حيث يتخلّق مزيجٌ مدهشٌ ينتج عن التآلف بين ما هو شعري وما هو سردي، فالشعري يحتفي بما هو استعاري بالأساس، والسردي يؤكد على ما هو كنائي. وهذا المزيج يؤدي الى تخليق جديد للعبارة الشعرية يتمثل في مدى حضور الصور البلاغية أو الصور المشهدية، وفي مدى التركيز على حكي التجربة أو الواقعة والايحاء بها. إذ لولا هذين البعدين لما استطعنا مشاركة " امرأة الفقيد" الاحساس بفداحة الغياب ،ولا ملامسة آثاره التي انعكست على ذاتها اللاهثة وراء أي خبرٍ يُرتجى عن ذلك الغائب الذي طال انتظاره . تأمّل معي البراعة الأسلوبية التي رسمتها مخيلة البردوني فأبدعت تشكيل الدقائق النفسية الخبيئة في ذات تلك الزوجة التي لولا تقنية المونولوج الذاتي ما استطاع المتلقي اكتشافها، حيث يرد :
 

لا تنطفي يا شمسُ : غابات الدجى    يأكلن وجهي ، يبتلعن مراقـدي
وسهْدتُ والجدرانُ تُصغي مثلما      أُصغي ، وتْسعُلُ كالجريحِ الساهدِ
والسقفُ يسألُ وجنْتيّ لِمن هُما ؟    ولِمن فميْ؟ وغرور صْدري الناهدِ
ومغازلُ الأمطارِ تعجِـنُ شارعـاً     لزجـًا وتبْعُـد، كالنجيعِ الجامـدِ
وأنا أصيخُ إلى خطاكَ أحسُهـا      تدنْـو، وتبْعُـد ، كالخيالِ الشـاردِ
ويقولُ لي شيءٌ بأنّك لـنْ تعُـدْ     فأعوذُ من همسِ الرجيـمِ المـاردِ

 

هنا ليست الكلمات مجرد أصوات للبوح الجمالي، أو لتكوين صياغات قولية، بل إنها جواهر لأشياء الوجود ومنها - وعبرها – يقتنص الشاعر بداهات رؤاه الجمالية ، حيث استطاعت هذه الجمل الحوارية أن تعكس لنا ملامح "بنيلوب" معاصرة آثرت الانتظار حتى لو أفنت في سبيل ذلك الغائب زهرة أيامها وعنفوان شبابها، ذلك ما أشارت إليه الجمل الحوارية التي استطاعت أن تحوّل ما يحيط بالزوجة من أماكن وأشياء خرساء جامدة إلى كائناتٍ تقاسمها همّها الذاتي وتردد ما يعتملُ في ذاتها من وساوسَ وهمومٍ لم تستطع هي أن تُعبِّر عنها صراحةً،وذلك عبر ما يعرف في مصطلحات النقد بـ"التجريد الفني"، ليشكل الحوار جزءاً من بناء النص فيعمل على تقديم الحدث السردي بوساطة صوت تلك الأشياء وهي تحاور أو تحادث الزوجة، ويكون هذا الحوار إضاءة يقدمها الشاعر للدخول في الزوايا التي لا يستطيع الوصول إليها إلا من خلال منظور تلك الأشياء، فتقدم هموم الزوجة الشخصية ومخاوفها بوساطة تلك الأصوات المتعددة، ويتحول صوت السرد إليها لمواصلة عجلته الحكائية  .
 

أما المشهد الأخير من هذه المأساة الاجتماعية التي طرحها النص فيمثل مقصلة البوح الأخيرة التي فجّرت براكين ما يعتمل في دخيلاء تلك الزوجة الثكلى وما تعانيه من فجائع متتالية جرّاء حوادث الفقد التي تلازمها باستمرار ، حيث يرد :
 

أتعود لي ؟ من لي ؟ أتدري أنني       أدعوك إنك مقلتـاي وساعـدي
إني هنا أحـكي لطيفُـك قصـتي          فيعـي ، ويلهث كالذبال النافـد
خّلفتني وحدي ، وخّلفني أبـي             وشقيـقتي ، للمـأتـم المتزايـد
وفقدت أهـلي، آه يا أمِّ افتحي           عينيك، والتفتـي إلـيَّ وشاهـدي !
وقبرت أهلي ، فالمقابر وحدها       أهلي ، ووالدتي الحنـون ووالـدي
وذهلت أنت أو ارتميت ضحية            وبقيت وحدي، للفـراغ البـارد
أتعـود لـي ؟ فيعبُّ ليلي ظّله           ويصيح في الآفاق . أين فراقـدي؟

 

الكلمات تزهو وتزدهي في سياقاتها الجديدة داخل النص الشعري، لكي تبثّ يقينها الجمالي في مشاهدها الصورية المختلفة، ألم تلاحظ كيف تحولت إلى خيط رفيع يصل بين الماضي والمستقبل ويعيد تشكيل فاجعة الفقد المتكرر في مرايا الوجود لتقدم مآدب بوحها بوساطة استمرار الحوار بهذا النمط الذي يعزز توتر النص الدرامي. ذلك ما فضحته ملفوظات الحوار نفسها، حيث إن هذه اللقطة الاسترجاعية التي قدمها ملفوظ الحوار: "أحكي.."  تمثل على مستوى الوقائع النقطة (صفر) لعملية السرد الاسترجاعي ، إذ بدأت درامية النص من اللحظة الحالية ،إنها لحظة الممارسة الفعلية لبرنامج السرد الذي أقيم على أنقاض تلك الجملة الحوارية " أتعود لي؟". وهنا يمكن القول أنه يتشكل الحوار لا على بروز صوت مقابل صوت في مستوى الملفوظ، بل على صورة مقاطع حدثية متوازية، ليصبح النص عبارة عن مقاطع يسيطر عليها صوت لحدث معّين ـ وهو حدث مناجاة الزوج الغائب ـ يحاور فيه مقطعاً أو حدثاً آخرـ وهو مقطع سرد حكاية من فقدتهم الزوجة من أقاربها ـ لتكتمل معه شروط التوتر الفني بين السردي والشعري.
 

 إن البردوني في هذا النص يوقفنا على رؤيته الجمالية التي صاغ فيها المشهد الشعري صياغة باطنية عبر المونولوج الذي لم يتوقف عند حدود العلاقات الأولى للأشياء؛ٍ بل نبذ المعهود التصويري كلية وسعى لحضور الايحاء الغائب عبر السرد الذي يأمل أن يشاركه المتلقي في ردم فجواته، بمعنى أن المشهد يتواتر عبر ما هو محذوف، وعبر ما هو مغيب، وليس عبر ما هو حاضر من كلمات بالضرورة وهنا تصبح لملامسات الوعي الداخلي للكلمات قيمة قصوى في نقل مشاهد المونولوج التي هي مشاهد الذات المتكلمة ومرئياتها، وبالتالي استطاع الشاعر بوساطتها صنع صور شعرية، صور تحتفي بسرد الكلام الشعري وتفارق البلاغة المعهودة وأساليبها المستهلكة التي مل القارئ النظر إليها وإعارتها أي اهتمام.
 

[email protected]

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24