الأحد 05 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
ديوان «كي لا تتسع ضحكة الجحيم»… عندما يقفُ الشِعرُ في وجهِ الحرب - أحمد الأغبري
الساعة 19:29 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

بعد انقطاع عن الإصدار لـ11 سنة يأتي الديوان السادس للشاعرة اليمنيّة هدى أبلان، الصادر مؤخراً، بعنوان «كي لا تتسع ضحكة الجحيم» عن دار عناوين بوكس في القاهرة، محمولاً على تطور فارق في التجربة، وبالذات على صعيد الرؤية الموضوعية تجاه الألم الإنساني، التي جاءت، في هذا الديوان، قريبة كثيراً من أوجاع الإنسان.
وهو أمر طبيعي باعتبار الديوان كُتب تحت نير حرب يعيشها اليمن، منذ أكثر من ست سنوات، وبالتأكيد تأثرت خلالها الشاعرة بالأنين ومشاهد الخراب والقتل اليومي؛ وهو ما انعكس على رؤيتها الموضوعية وقاموسها اللغوي أيضا.
كذلك على صعيد الرؤية الفنية؛ فقصيدة النثر التي تُعد أبلان من أبرز أصواتها النسوية يمنياً وعربياً، جاءت متجاوزة ما كانت عليه في دواوينها السابقة، بما فيها ديوانها الخامس «اشتغالات الفائض»ّ؛ فعلى صعيد الصورة الشعرية، اتسع مسرحها، ومعها تمدد نصها حتى أصبح ممشهداً في سلسلة من الصور ضمن نص طويل يخاطب جروح الإنسان ونزيف المكان، وفق رؤية فلسفية عميقة تًعيد، من خلالها، قراءة واقعها ومحاكمة القائمين عليه، لكنها اعتمدت في ذلك على حذاقتها الفنية والرؤيوية في الاشتغال على الصورة والعبارة؛ فتأتي بالتعبير تصويراً يُخاطب الآفاق، وتدليلاً يخاطب الأبعاد، وبالتالي استطاعت أن تقدّم في هذا الديوان مستوىً متقدماً في تجربتها مع قصيدة النثر؛ إذ طوّرت من قدراتها في الاشتغال على الصور التعبيرية والمشهدية السردية، مع المحافظة على روح شعرية ارتفعت بمزاج النثر الشعري بالتوازي مع طرح رؤيوي عميق كعلاقة متميزة لقصيدتها بالفلسفة؛ وهي علاقة تحتاجها قصيدة النثر، كونها تراهن على الرؤية بموازاة الصورة، ومعهما التوظيف الذكي للغة، وهو ما ينتج، بالتأكيد، عن التجريب والتجديد المستمر، الذي يفترض أن يبقى ديدن الشاعر.
كانت القصائد الطويلة اختباراً لها كشاعرة نثر؛ إذ أنها على امتداد الإطالة في بعض القصائد، لم تدع فرصة لتلاشي الوهج الشعري في سياق النثر؛ فبقيت محافظة على روح الشعر متدفقة على بساط النثر؛ لدرجة لا يشعر القارئ بالإطالة، بل يستمتع بكل تلك الصور المتوالية، مع براعة في رسمها والتعبير عنها في سياقات ثقيلة في معناها، وعميقة في دلالتها وإحالاتها… ليتجلى البُعد الإنساني الذي يطغى على شعريتها حاضراً بوضوح، وبمستوى أوسع وأعمق وأجرأ مما كان عليه في دواوينها السابقة.
الديوان صدر في 148 صفحة من القطع المتوسط، وتضمن 19 نصاً من الشعر الجديد.
ابتداءً من عتبة عنوان الديوان «كي لا تتسع ضحكة الجحيم» يتضح لنا مدى تميّز تجربة أبلان في علاقتها باللغة والصورة والدلالة… علاوة على الهم الإنساني الذي يرتبط ارتباطاً واضحاً بحديث الشاعرة؛ وهو العنوان الذي يمثل مدخلاً لائقاً لموضوعات الديوان، التي ارتبطت كثيراً براهن اليمن، بل كأن العنوان، الذي لم يكن عنوانا لقصيدة ضمن الديوان، يُمثل رسالة تختزل ما أراد أن يقوله الديوان وهو يخاطب الموت، ويحاكم الخراب في بلادها، كأنها تحذر أمراء الحرب وتطالبهم بالتوقف «كي لا تتسع ضحكة الجحيم» فالعنوان هنا هو جملة جوابية لجملة إنشائية محذوفة تقديرها (توقفوا).

 

في عتبة الإهداء منحتْ الشاعرة الديوان إلى «السنوات التي فرت من بين أصابعي فتشابهت أعمار القصائد.. يبدو أن للألم عمراً واحدًا… وإلى مفردات «الدم، الموت، الدموع، النسيان، الحاجة، الفوضى، الألم، النار، الغياب، إلخ التي أفرطتُ في استخدامها، فهي قد تجمعت وشكلت وطنا» وفي هذا الاهداء يتجلى الحزن حاضراً بشكل أكثر مما كان عليه في دواوينها الخمسة السابقة؛ وهو أمر طبيعي كونه يصدر في مرحلة عصيبة يعيشها بلدها. وقبل ذلك فاحتفاء الشاعرة بالألم هو اشتغال متواتر في كتاباتها الشعرية منذ بداية تجربتها؛ وتنطلق في ذلك من اعتبار (الألم) هو وقود الكتابة، ولذلك هي تنتشي بالألم حتى وهي في قمة السعادة انطلاقاً من أن الكائن الكامن داخلها ـ كما سبق وقالت – هو كائن جمعي.
تركت الشاعرة النص الأول دون عنوان، لكنها اشتغلت فيه بتكثيف على الواقع المحيط بها، وما ارتكبته السياسة من أخطاء جسيمة بحق بلدها، لاسيما في استهداف تغيير الحقائق وصدق الكلمات:
أيها المعتوهون/حين تختطفون الحقائق/ وتغرسون أنيابكم في بياض الكلمات/ وتلهثون وراء كل الكراسي التي في رؤوسكم/فلتأخذوها../فأنتم أقزام صغار/ تتعلقون بالأخشاب/ونحن نصلب عليها.
وفي نهاية النص نقف على التعلق والصلب كفعلين يمارسهما الجلاد والضحية؛ وهي صورة فيها من الدلالة والإيحاء الكثير.
لا يمكن تقسيم قصائد الديوان إلى مجموعات محددة؛ إلا أن الحرب والمكان والإنسان شكلوا محاور رئيسية لتناولاتها التعبيرية والتصويرية والدلالية، واستطاعت من خلال الاشتغال المكثف والإيحائي، أن تقدم تجربة متقدمة في علاقتها بقصيدة النثر، التي أعطتها، كما سبق وأوضحتْ في حوار مع «القدس العربي» الفضاء المفتوح والحرية في تشكيل اللغة كما تحب، انطلاقاً من أن قصيدة النثر عالم من الصور والابتكار وتحقيق الخصوصية.
من قصائد هذا الديوان يتجلى خيالها خصباً ولغتها ثرية ومبتكرة، تجاوزت من خلالها التراث الشعري، علاوة على قدرتها على إبراز العاطفة التي تعيشها خلال الكتابة في متن النص… فتأتي اللغة مؤنسنة. بلا شك في أن الاشتغال على قصيدة النثر هو اشتغال صعب، لاسيما إذا أردت أن تنافس من خلاله الأشكال الشعرية الأخرى؛ وهنا تتجلى خصوصية تجربة أبلان.
موضوعياً تميزت أبلان بتجاوز اشتغالاتها، تصنيف المرأة والرجل، متعاملة مع حقائق إنسانية وجودية تؤكد مدى إيمانها الإنساني؛ وهو ما يعكسه بوضوح النص الثاني في الديوان، الذي جاء بعنوان «كتاب الأنقاض» وفيه تخاطب الشاعرة كل معاني الخراب، محاولة إبراز معاناة الناس والوطن لتقول باسم الخراب:
أنا المنتشر في كل الأوجاع/ تتجمع في صدري آهات الموتى/ وتتقد في صوتي مواويل الفقد/ ارتعش بارداً بين أحضان نيران صديقة/دافئا عند عتبات عائلة ستتلاشى/ ومن حرقة في القلب/أشعل خشب التذكر/ لتذوب صور الراحلين على الجدران/ وتهمس في أذن الرماد/ كم كنت غزيرا/ وأنت تؤرخ للانطفاء.
تتميز تجربة أبلان الشعرية بمهارة في توظيف تنوع أدواتها، ويكفي أن نقف أمام نص بعنوان «عيون الانتظار» الذي أهدته للشاعر الراحل سعدي يوسف قائلة:
سأبدأ الحياة/ أنا في مقام الغد/ مليئة بالرؤوس الصغيرة/ غافية على صفحة القلب/تحلم بالبياض/ أشد عليهم لحاف العالم/ كي يعبروا ظلمة الحقيقة/ وأقول للبرد: نم دافئا بجوارهم/ وليضئ ثلجك المكان.
في هذا المقطع تصور حلمها بالغد كمبتدأ للحياة، وفيه تكون ممتلئة بالحيوات الصغيرة غافية على صفحة القلب كرمز للنقاء، ولهذا تحلم بالبياض وتشد على حيواتها الصغيرة لحاف العالم، رافضة ما يمثله هذا العالم من قيم تعيق العبور ممثلاً في ظلمة الحقيقة، وهنا نقف على رمزية عالية في تصوير الظلمة التي تمر بها الحقيقة، ولهذا تكتفي ببقاء حيواتها دون لحاف، طالبة من البرد أن ينام بجوارهم لعل البرد والألم والتعب يضيء المكان والطريق إلى ما نريد… وهنا تتجلى قدرتها في توظيف المفارقات في سياق خطاب ممسك بزمام شعريته ورؤيته في آن.
ينداح من نصوصها فيوض من الدلالات التي تنطلق من قناعاتها الإنسانية في مخاطبة قضايا الواقع المحيط بها…كما في نصها «أشياء لا أقبلها» و»نص «مدائن» ونص «سيفان في غمد الكارثة» منتقدة المآذن كرمز لمذابح الموت تحت بيرق الدين:
الموت هنا كائن مختلف…/لا يخرج إلينا من كتب الأساطير/ لكن من صراع المآذن/ ولا تجيء فيه حتى الملائكة/ عزرائيل عاطل عن العمل/ موجوع من حقد الإنسان.
مرتْ تجربة أبلان الشعرية بعدّة مراحل، لكنها أمسكت بصولجان النضج مبكراً، منطلقة نحو الكتابة الشعرية برؤية تتحدث عن قضايا تتجاوز الذات والنوع .. كما نجدها في هذا الديوان تتحمل أعباء الألم الجمعي من صراعات وحروب.
بدأتْ كتابة الشعر في ثمانينيات القرن الماضي، وظهرت في ديوان «ورود شقية الملامح» عام 1989، وبعد ثماني سنوات وتحديدا في عام 1997 أصدرت ديوان «نصف انحناءة» وفي عام 1998 صدر لها ديوان «محاولة لتذكر ما حدث» وهو الديوان الفائز بجائزة إبداعات المرأة في الأدب في الشارقة في العام نفسه، وفي عام 2000 أصدرت ديوان «اشتماسات» في ما صدر لها عام 2010 ديوان «اشتغالات الفائض».. وتأخر صدور دواوينها، بما فيها الديوان الأخير، يعكس مدى خوف الشاعرة من أن تكرر نفسها؛ فتحرص على أن تحضر من خلال تراكم شعري مختلف عما قبله، انطلاقاً من إيمانها بالتجديد والتجاوز، وهذا يقودنا للإشارة إلى رؤيتها وتجربتها المختلفة مع التجديد والتجريب الشعري.
لن نرى العصا الآن
إنها في آخر الممر
سنكتفي بنادل يتأكد من اكتمال أخطائنا
ومن استواء أصابعنا على طلبات العفران
علينا ان ندخل في تمرينات الوحشة
دون أحد.

 

منقول من صحيفة القدس العربي...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24