الأحد 05 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
سكينة شجاع الدين وحكاية نصوص مترعة بالضوء - إبراهيم طلحة
الساعة 13:15 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


من الشعراء والشاعرات ظواهر صوتية، ومنهم من يشكل ظاهرة ضوئية، وهذا الصنف الأخير قليل، ومن هذا القليل الشاعرة سكينة شجاع الدين.
نصوصها الشعرية تماهت بين الشكل العمودي والشكل النثري والهايكو وتنوعت بحسب هذه التشكيلة التي تتقنها شاعرتنا بكل تفريعاتها.
إنها تكتب مع استحضار لكل مرجعياتها اللغوية والتاريخية والثقافية، وفي نصوصها إحالات ذكية إلى مصادر الضوء الذي تشع منه كلماتها.
هي إذن تتقن الشكل القديم للشعر العربي، بالإضافة إلى الأشكال الحديثة ومنها المتأثر بثقافات وحضارات من حولنا.
في كتابتها النثرية على الرغم من الإيقاع الداخلي للنص الذي يستشعره القارئ إلا أنها لا تعمد إلى الإيقاع عن قصد، ولذا تجيء نصوصها كثيفة ومركزة وتوصل الفكرة بأقل جهد كلامي، وبوسائل وأدوات بلاغية أكثر منها موسيقية.
نستمع إليها مثلاً في هوس الأمنيات وهي تقول:
القصيدة التي لا تزهر بنبض الحرف 
ليست على ما يرام
الأرض التي أعلنت التمرد على السماء
لم تعد الغيوم تأبه لتوسلاتها الدائمة بالإغاثة 
حركة النجوم اختلف حوارها...
في هذه الأسطر النثرية وزعت الشاعرة محاور النص على أجزاء الكون، من زهر وتربة، من أرض وسماء، من نجوم وكواكب.. كأنها في كل ذلك تصنع حوارية بين الإنسان والكون من حوله، وتوقد على نيران قصيدتها الهادئة موضوعات الإنسان الأكثر إلحاحًا.
وفي تراتيل، توجد علاقة دياليكتيكية (جدلية) افتراضية بين العاقل وغير العاقل وتؤنسِن بعض المخلوقات الأقرب إلى ذهن الإنسان وقلبه.. تقول:
خيوط الشمس التي تغازل الفجر
وتمد ذراعيها 
طابعةً قُبلاتها الأولى على مشارف الجبال...
فيتسرب إليها الدفء قبل الأشجار
لتظل تتمايل 
أغصانها الغضة...
إنها تكوّن لغة حوارية بطريقة ضمنية هنا، وكأنها لغة الإنسان مع نفسه من خلال الموجودات الكونية التي قلما يمكن أن تشبهه ما لم يتصنع هو أساليب ويبتكر طرائق للحصول على شبيه يعيش إلى جانبه.
ولا تفتأ شاعرتنا تداعب النسائم وتقابل بين الزمكانات الممكنة القياس لغويًا، ففي نسائم تقول:
لا تستقر تخاتل الوقت 
علها تحظى بوقت إضافي 
تخرج شجرة الأمنيات التي تحتجب 
كلما داهمها الغروب 
لغة مكثفة في هذه النصوص النثرية بالذات لدرجة أن يمكنك استخراج تفسيرات واستنباط تأويلات من السطر الواحد أحيانا.
تقول مثلاً في جدائل الذكريات:
تلف زوايا الروح 
تجثو على قدمي المُنى
ولك أن تتخيل في هذه الصورة البليغة مدى الأسى المستفتح به النص ومشهد أنسنته وتحوله إلى عاقل يجثو على ركبتيه، حيث المُنى متصلبة متخشبة في مقامها.
مسافات قطعتها شاعرتنا حينما "تعثرت الطرقات وقت الرحيل" ولم تكُ لتستمع لعبثية الوقت من حولها فالبعض "تسليه حنجرة الوقت عبثًا بمنبه".
إن نبض حرفها و إن "هوت به حفرة البوح في قعر متهاوي الأركان" إلا أنه نبض يدوي حروف عنفوان وغرام ومحبة، فتطل أحيانًا على أمها لتلقي عليها التحيات الطيبات المباركات وتتأمل عينيها فتأتلف الأشعار لأجل بهائهما وتقول شاعرتنا في مطلع قصيدة عمودية من البسيط:
أمي أتيتك والأشعار تأتلفُ
لخط حرفٍ بحبري علّه يصفُ
وبالفعل وصفها حرفها وظلت تهفو بيتًا بيتًا في القصيدة إلى أن وصل بها الزهو قبل ختامها لأن تقول:
أهفو إليها فتلقاني محبتها 
وخوفها لهفة في الكون ترتجفُ
وعلى هذا النسق تؤدي الشاعرة مناسك شِعرها في قصائدها العمودية، على نحو ما نجد في ربة الحرف وبوح الغرام وليل الأشجان وما زلت أحيا...
وإذا ما انتقلنا إلى وشوشة المحار وهي قصائد هايكو للشاعرة سنجد أن من بين هذه القصائد أو النصوص ما يشبه قصيدة النثر مع فارق أن الهايكو نصوص قصيرة جدًا أقرب إلى تسميتها بالومضات، ولكن هذه النصوص على قصرها تظل بعيدة المدى عظيمة الأثر في النفس، وهي لغة العصر، فالعالم اليوم يميل إلى السرعة والاختصار.
تقول شاعرتنا:
تنثر الرياح عطر قلبي
على غيمات الحب 
الخريف ناقوس
يدق في
شرايين الذبول
نبتة ترعاها.
هذه هي لغة الهايكو، لغة تشبه ممارسة اليوغا في اليابان ودول الشرق.. لغة ترتكز على التأمل.
نتأمل مع شاعرتنا مقاطع أخرى، تقول فيها:
تلمس
بريق الوجد
في عين محبتي
...
يأتي الشتاء
يتجمد النبض 
تسبح في الأعماق حروفي. 
إنها إذن دورة الفصول من الذبول إلى البريق، في نسق مرتب له بأنامل الشاعرة وأوتار قلبها على حدٍّ سواء.
نستمر في قراءة مقاطع أخرى لشاعرتنا، منها:
خيوط الذهب 
تلاحق الظلام
كالحب في روحي
إنها ترجو بأن تتغلب على الغلول الشخصي الذي لا يخلو منه قلب إنسان بالحب، وهل غير الحب يعيد توازن الكون؟!
وتقول أيضًا:
لوحتان
فاتنتان
ظهورك والقمر.
لقد شبهت حبيبها بالقمر وجعلت منه لوحة معادلة للوحة الكونية في غضون أربع كلمات، وهذا ما يميز فن الهايكو، إمكانية التعبير عن الكلام الكثير بحروف قليلة، فلقد قالت تقريبًا كل ما قاله الشعراء الأولون في وصف الأحباب وتشبيههم بالأقمار، قالت ذلك ببضع كلمات.
إنها في هذه المجموعة من بداية استهلالها إلى نهاياتها تقريبًا تعمل جاهدة على تجسيد المثل العربي القائل: خير الكلام ما قل ودل، ولم تزل تقول لقارئها المحب أو لحبيبها الذي يقرأ مجموعتها ويقرأ مشاعرها:
مسافرة فيك
صحراء خالية
أعد خطواتي
لتتركنا ونحن نتتبع الأثر البليغ الذي وافتنا به ونتأمل منابع الضوء ومصادره التي تترع بها نصوصها لتتحفنا بمادة نوعية، وندرك أننا أمام شاعرة مبدعة تقدم نصوصها بطريقة مغايرة ستغدو ذات غدٍ مشرقٍ نموذجًا تتشرف بمحاكاته مجاميع من مبدعي ومبدعات بلادنا.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24