السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قصة قصيرة
الشغالة مارينا - مروان الشريفي
الساعة 15:06 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



في المساء .. بينما كنت اقرأ أحد الكتب في مكتبتي الصغيرة، سمعت صوت هاتف المنزل المزعج، في البداية لم أهتم لذلك فقد تكون أم زوجتي التي ما أن أرفع السماعة حتى تبدأ بحديث طويل تشكو فيه مشاكلها مع زوجها المسرف في الشراب.
فهو في الغالب يعود في وقت متأخر، وعندما يجد الجميع يغطون في نومٍ عميق يخال له بأنهم تركوه بسبب عادته السيئة ، فيبدأ بعدها في البكاء، لا يتوقف حتى يصحو من سكرته. 
عدت للقراءة مرة أخرى، فإذا بصوت الهاتف من جديد، على كل حال لا يمكنني التركيز، وعليّ الرد، فقد تصحو زوجتي التي تشكو من صعوبة الحركة بسب حالتها التي وصلت إليها وقرب الوضع، وضعت الكتاب على الطاولة، قبل وصولي للهاتف، كنت أبحث عن عذر يمكني التخلص من الحديث مع عمتي، سأقول لها إنني أعاني من التهاب شديد بالحلق وذلك يتطلب تغيير نبرت صوتي الحادة، وإن عليهم تحمل بكائه المشؤوم وأن يعتادوا عليه، فالأمر لا يتطلب حديث طويل.
رفعت السماعة، لم أسمع صوت عمتي ككل مرة تبدأ الكلام قبل وصول السماعة إلى أذني، لكن الصمت طال وهذا ما زاد الأمر غرابةً، تكلمت أخيرًا:
_ مرحبًا سيدي.. اسمي ( مارينا).. 
أجبت مبتهجًا:
_ على الرحب والسعة..
قالت:
_ سيدي! لقد وجدت إعلان حضرتكم في إحدى المحطات، وأظن أن العمل يناسبني كثيرًا..
حين سمعت كلامها، تذكرت الإعلان الذي وضعته قبل أسبوعين، فقد كانت آثار الوضع قد ظهرت كثيرًا لزوجتي، ووجود شغالة تقوم بعمل البيت وصناعة الطعام أمر ضروري.
قلت مستفسرًا: 
_ هل عملتِ من قبل في مكانٍ ما؟
أجابت بسرعة:
_ نعم يا سيدي، لقد عملت لفترة لا تتجاوز أشهر مذ أتيت إلى هذه المدينة، وتنقلت إلى وقت قراءة الإعلان بين أربعة منازل. سأكون عند حسن ظنكم يا سيدي.
أنهيت المكالمة، بعد أن أكدت لها عنوان المنزل، وإن عليها أن تبدأ من الصباح إن كان ذلك مناسبًا لها، عدت إلى المكتبة، أخذت الكتاب؛ لأكمل القراءة، ومن خلال صوت (مارينا) رحت أصف شكلها، تبدو حنطية البشرة، شعرها أجعد نوعًا ما، عينيها عسليتين، قوامها ممشوق، مبتسمة طوال الوقت. 
عند الصباح كان صوت الجرس ينبه بقدوم زائر، فككت يد زوجتي بعد أن اعتذرت بأن عليّ النزول لمعرفة من يكون الآتي في هذا الوقت المبكر، هبطت درجات السلم، حين فتحت الباب كانت (مارينا) تقف بيدها حقيبة متوسطة الحجم، وجدتها كما وصفتها بالأمس، غير أن أنفها الجميل، وشفتها السفلية الملتوية نوعًا ما قد ضافتا إلى جمالها سحر لا يضاهى، دلفت إلى الداخل، بدأت اشرح لها: ذاك المطبخ، تلك حجرة الطعام، وفي الممر على اليسار توجد غرفتك بجانب مكتبتي الصغيرة، أما الطابق الثاني فيحوي على غرفة النوم التي توجد فيها سيدتك، ومجلس كبير خصصناه للمناسبات العائلية، حركت رأسها بدلال وابتسامة ساحرة، وحين عم الصمت، خاطبتها قائلًا:
_ بإمكانك الذهاب للتعرف على سيدتك، هي في الغالب بحاجة للحديث معك في ما يخص أمور لا أعرفها جيدًا.
رن الهاتف من جانبي، كان صديقي في العمل يأكد لي بأن إجازتي تمت الموافقة عليها؛ نظرًا لظروفي الخاصة، ودعته شاكرًا تعاونه معي، حينها أتاني صوت مارينا من الطابق الثاني:
_ سيدي .. سيدي.. 
أجبت وقد أعتراني الخوف:
_ ما بك يا مارينا.. لِمَ هذا التحول السريع على صورتك؟
هبطت درجات السلم قائلةً:
_ سيدتي تحتاج إلى ممرضة حالًا، فقد ظهرت عليها ألآم المخاض.
قلت:
_ قدومك خير يا مارينا..
عند الغروب كانت مارينا تضم بين ذراعيها طفلنا البكر، بينما زوجتي مستلقية على السرير عليها آثار فتور وعينيها الغائرتين من التعب تتنقلان بيني وبين مارينا، قلت محدثًا نفسي: يا لغيرتكن الساذجة أيها النساء!
قامت مارينا بعملها على أكمل وجه، أعدت لزوجتي وجبة عشاء خاصة، غيرت من هيئتها، فقد أصابها الإنهاك هي الأخرى، أما أنا فقد عدت إلى المكتبة وأخذت في القراءة، قبل أن تأتي مارينا تستأذن بالدخول ممسكة بين يديها فنجان القهوة. 
_ تفضلي يا مارينا.. 
كانت تحدق في الكتب، حدثتني عن شغفها بالقراءة، وحبها لمؤلفات الروسي (تشيخوف) لم أندهش لذلك، فمنظرها قد أوحى لي بذلك، بل أظنها تجيد الكتابة، أخذت رواية، لم أنتبه لمن تكون، فتحت الفصل الأخير وراحت تقرأ، سألتها عن السبب؟ قالت وقد أعتلت وجنتيها حبات العرق خجلًا:
_ يشدني دومًا معرفة النهاية قبل أن أبدأ في تتبع الطريق التي توصل إليها. 
فكرت في زوجتي المسكينة التي تسمع حديثنا على الأرجح، ما الذي يدور في مخيلتها، كيف ستفهم إن ما يدور بيننا ليس سوى حديث عادي، وإنني لم أثبت عيني على مارينا لأكثر من دقيقة، وإن جمالها لا تمتلكة مارينا ولا أي فتاة سواها. أنقضى أسبوع، لم تتحسن حالتها، فقد غدا وجهها أكثر شحوبًا، زارتها الممرضة ثلاث مرات، وفي كل مرة تفيد بأن وضعها الصحي مستقرا، لكن الأمر يزداد سوءا.
دخلت عليها ذات صباح، لم تنظر إلى وجهي، وصارت لا تحكي إلا بقدر يفي بالإجابة، خشيت من حالتها على طفلنا الصغير، فعلاقته بأمه لاتزال حميمة للغاية، زارتني مارينا في المساء ترتدي فستانا أنيقا، كانت تتحدث عن انطباعها في الرواية، تبتسم فيزداد سحرها في جذبي إليها، اقتربت ناحيتها، حتى تلاصقت أجسادنا، كانت تقرأ، بينما عيناي تمشطان عنقها وكتفيها العاريين، توقفت فجأة، وكأن نظراتي ألجمينها، لكن عينيها كانتا نحو الباب في دهشة، كانت زوجتي قد قامت من فراش المرض، كانت تبكي دون أن تتفوه بكلمة قط، أخذتها، ساعدتها في طلوع درجات السلم، في غرفتنا كانت في حضني غارقة في دموعها، وعدتها بأن ترحل مارينا غدًا عند الصباح، وإنني جلبتها فقط مراعاة؛ لظروفها الصحية، عادت ابتسمتها التي غابت لأيام، أخذت ورقة وقلم كتبت رسالة لمارينا بجانبها مبلغ المال مقابل الأيام التي عملت فيها، تسللت عبر درجات السلم حتى لا تستيقظ مارينا، دلفت الورقة ومعها مبلغ المال من تحت باب غرفتها، لكنها لم تكن قد نامت، سمعت خطواتها تقترب لألتقاط الرسالة، بعد ثواني كانت تضحك، دهشت لذلك، من خلف الباب جاءني صوتها قائلةً:
_ كنت على ثقة بمجيء هذا اليوم سيدي، النساء لا يحتملن وجودي.
تركتها خلف الباب، بعد خطوتين، نادتني:
_ سيدي أتعيرني الرواية؟ 
أجبت عليها والحزن يستبد بالمكان:
_ هي لك يا مارينا..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24