الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
أريدك للتجنيد..الحرب الأولى في خيال التشكيليين الأميركيين - حاتم الصكر
الساعة 16:35 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

لم تشترك أميركا في الحرب العظمى (العالمية الأولى) إلا قبل عام وسبعة أشهر من توقفها، وبعد ثلاث سنوات وتسعة أشهر من اندلاعها. ولكن ما سجله الفنانون الأميركيون الذين عاصروا الحرب من أعمال تشكيلية وفوتوغرافية وبوسترات ومنحوتات تكفي لبيان وحشية الحرب وقسوتها، كما تبين الذعر الذي أصاب الناس جراء تداعياتها. لمشاهد عراقي مثلي يظل السؤال عند التجول بين قاعات العرض عما أصاب الذاكرة البشرية من عماء وصمم، فتناست الخراب الهائل والملايين التسعة من الموتى ومئات الآلاف من معوقي الحرب ومفقوديها، فعادت إلى لعبتها المحببة: الحرب. وكأنها لم تتعظ بما سماه الشاعر الجاهلي (ما علمتم وذقتم) من الحرب، وليس الحديث المتناقل عنها.

البوستر الشهير لجيمس مونتغمري فلاك الذي يدعو الأميركيين إلى التطوع في الجيش والالتحاق بأقرب مركز تجنيد، وبإشارة من إصبع العم سام هو الشعار الذي اختاره مركز فريست للفنون البصرية في ناشفل عاصمة ولاية تنيسي للإعلان عن معرضها المعنون (الحرب العالمية الأولى والفن الأميركي) المستمر حتى الحادي والعشرين من يناير/ كانون الثاني القادم .. ملصق يثير فضول المشاهد ليتأمل إضافات فلاك على مرجع البوستر الأصلي، حيث كان قد عرف من قبل في الحرب ضد البريطانيين، ولكن دون عبارة (إلى أقرب مركز تجنيد) أسفله.. التعبئة التي تفوح منها رائحة الموت، حاولت ألوان البوستر وأصباغه الفاقعة أن تخفيها. أما خارج المبنى فثمة صورة كبيرة للوحة (المسممون بالغاز) للفنان جون سنجر سرجنت المرسومة حوالي عام 1918: جنود بريطانيون منهكون بعيون معصوبة اتقاءً لآثار غاز الخردل، يمسك كل واحد منهم بكتف الآخر في سلسلة طويلة صوب نقطة الإخلاء، بينما يستلقي في الأسفل زملاؤهم جرحى وموتى.

 أمام أقيانوس الألم والأشلاء والدم يتبادر إلى الذهن سؤال "واشنطن بوست" عام 1916: ماذا يستطيع الفنانون أن يفعلوا في عالم قبيح؟ والإجابة تكمن في القبح المتسلل لعالم اللوحات والأعمال الأخرى. أفعال شائنة تقترفها الحرب، وتعمل بنهم على ابتلاع الحيوات. 

يصور فنان شهير آخر معاصر للحرب هو هنري ف. تايلور في لوحته "سلام الأرض" 1914 أمنية خجولة بتفادي الحرب. لكن صرخة تايلور تضيع في حمى القتال الذي ستجد أميركا نفسها في أتونه بعد أن تخلت عن حيادها. الحداثي تايلور صديق كلود مونيه والمتعلم في باريس شأن كثير من فناني أميركا الشمالية مطلع القرن الماضي وأحد أوائل الانطباعيين الأميركيين لن يجد خلاصاً لا بألوان الانطباعيين المضيئة، ولا بانعكاس الطبيعة المبهجة المسالمة في نفوسهم.

 فنان شاهد عيان هو كلاجيت ولسون يصاب بالغاز في الحرب ويجرح لكنه يرسم كثيراً من أهوال الحرب في المستشفى، وبعد عودته لوطنه من الجبهات الأمامية- الاسم يثير في الذاكرة قاموس الحروب العراقية المدمرة، وخطاب الحرب التي يصفها شاعر تعبوي بأنها مقصودة يمشي إليها المحارب كما يمضي عاشق لحبيبته! - لكن ولسون سيرسم لوحته الشهيرة (رقصة الموت) وهي من سلسلة مائيات لم تخفف المادة عنف مضمونها. رقصة الموت تصور ثلاثة جنود ألمان يفرون من الحرب إلى حتفهم، عابرين الأسلاك الشائكة المميتة المسماة في حينها (حبال الشيطان) وهي تفصل بين قوات المتحاربين عبر ما يسمى بالأرض الحرام. كان عمر ولسون ثلاثين عاماً حين أرسل للجبهات في أوروبا، حيث تسمم بالغاز وعولج صيف عام 1918. مائيته (زهرة الموت) تهرب إلى الرمزية تفادياً للبشاعة، لكن مضمونها العنيف لا تستره ألوان هادئة وشخصيات منكسرة.

أغلب الفنانين عاصروا الحرب لذا كانت عيونهم شواهد على ما جرى.

لكن الرسوم ذات نزعة أكاديمية غالبا، لذا تميزت بالمباشرة وتغليب الموضوع، وهذه إحدى جنايات الحرب على الفن، كتلك التي لمسناها في حروب العراق حين جرى تسليع اللوحة لتغدو كالملصق...

هاسام رسام (شارع الحلفاء) كما عرف في نيويورك سنوات الحرب لكثرة ما رفع فيه من أعلام الدول الحليفة المحاربة للمحور. الرايات كثيفة الحضور تسد السطح التصويري كله، كأنما تخفي خوفاً من الهزيمة المنفردة. الاستقواء بالحلفاء يتكرر في كثير من الأعمال. الحداثة أفردت لها جدران في قاعات خلفية. فالرمزية لا تناسب خطاب الحرب وقرع طبولها. لكن رسامي الطباعة رغم بدائيتها أثثوا المشهد بالأسود ليناسب فجيعة الحرب. الفنان بيلوز يصنع أعمالاً بالليثوغراف فيرقى الحبر الصيني بسواده الكثيف إلى مقاصد الحرب وحصادها.

ليست الأعمال الفنية وحدها هي معروضات الحرب والفن، فهناك أغلفة المجلات وقصاصات من صحف وملصقات. النساء حاضرات بهيئتين: موضوعاً لبشاعة الحرب حين يمتْن أو يحملن صغاراً مذعورين أو جرحى وقتلى. وتارة بأعمالهن في الجبهات كممرضات أو راعيات للمحتاجين. وقليل منهن برزن كرسامات حرب مثل جين باترسون (1875-1965). لكأن المهنة - مهنة الموت - أشد من أن تحتملها أيديهن، تصويتاً ضد اختراع الحرب الأسوأ في تاريخ البشر.

الأجيال الجديدة لها حضور في مشهد الحرب الكونية الأولى. فنانة حديثة هي ميري كيلي (38 عاماً) أعدت للمشاهدين فيديو يصور بالصوت والصورة بشاعة الحرب عبر أشعار منتقاة من هومير حتى شكسبير الذي هو أحد شخصيات الفيديو التمثيلي حيث تقوم ميري ذاتها بقراءة الأشعار وتمثيل أدوار ثلاث نساء في لهيب الحرب. الفيديو ينقل المشاهد إلى معالجة بصرية تنسيه لعشر دقائق لون الحرب الكالح الذي تشي به حتى إطارات اللوحات من الخشب المتهالك والقديم.

الأميركيون الأفارقة أسهموا في الحرب أيضاً. العبودية لم تكن لتحول دون الزج بهم في الجبهات. لكأنما مثلهم مثل عنترة الذي يعيَّر بلونه في السلم، ثم يدعى للحرب بلقب يا بن الأكابر! رسام معاصر هو د. بريستلي استوحى وجوه الجنود الموتى من ذوي البشرة السوداء ومنهم بعض أفراد عائلته، ليصنع لهم بورتريهات مصغرة متتالية في سطور أو خطوط أفقية؛ ليصطفوا في لوح أفقي طويل وكأنهم ينتظرون القيامة. 212 جندياً ببزاتهم العسكرية ووجوههم الطافحة بالحياة يشهدون على بعث مؤمل بعد مائة عام..

قرب أحد الأعمال كلمات تقول: (المسألة ليست في ما تنظر إليه، ولكن في ما تراه.) نعم. الحرب بحاجة لرؤية ما وراء أحداثها وصورها، لا مجرد نظر عابر.

ثمة استراحات تحاول إشراك المشاهد في مشهد الحرب وسياقها. ألعاب على الشاشات تسأل المشاهد أن يميز العمل الأصلي من سواه. أو يعين المناسبة بين عدة اختيارات. لوحات زجاجية تعرض دفتر مذكرات لأحد الفنانين يسجل بالتخطيطات السريعة (الإسكتشات) وبالوصف التفصيلي يوميات عاشها ومات، مخلفاً كلماتها عبرة لمن لا يعتبرون في ما يبدو!

يود المرء لو كانت المعارض بهذه الجدية تعرّف المشاهد بشروح ضافية بالفنان ومناسبة العمل ودلالاته. لكنها الحرب تظل كما هي في عمرها العنقائي المتجدد، تلتهم أبناءها وتطلب المزيد. ولعلها صيحة في برية الحياة توقظ ضمائر من يلحون في طلب الحرب وسيلة للفوز.

يناشد أحد الفنانين أعداءه فاضحاً شهية الموت فيهم بالقول: تعال إلى أميركا. ثمة دم جيد! ولكن كيف نوصل صوت الفنان اليوم لنقول إن العالم فيه دم كثير مسفوح ومباح؟

سؤال لن تجيب عنه وقائع الفن لأن ثمة أحداثاً ووقائع أشد أثراً وأقوى.. في الخارج حيث نلامس الفضاء لننفض وعثاء الحرب عن أعيننا وضمائرنا، تطاردنا لوحة المسممين بالغاز مطبوعة مكبرة على جدار المركز البصري.. سلسلة الجنود معصوبي الأعين ونثار أجساد رفاقهم في الأسفل تجعل الجدار ساحة حرب.. فيما يلعب في الفناء صغار جميلون، انشغل عنهم الأهل والمرافقون، لا يدرون أنهم وسواهم من أطفال في أماكن قصية بلا لعب ربما ينتظرهم ما تحدث عنه السياب في مطولته "الأسلحة والأطفال":

حديد..

ليندك هذا الجدار

بما خط في جانبيه الصغار

وما استودعوا من أمانٍ كبار:

سلام.

منقولة من ضفة ثالثة...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24