الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
عندما تغني اليمنية على إيقاع “دواعش” السنة والشيعة
الساعة 20:27 (الرأي برس - المشاهد)

بينما كانت نورهان (19 سنة) وهالة (21 سنة) تقدمان أغاني عربية وغربية في حفلة نظمتها مؤسسة بيسمنت الثقافية في صنعاء، كانت شوارع المدينة الواقعة تحت سيطرة ميليشيات الحوثيين (حركة أنصار الله) الشيعية، تزدان بشعارات تتحدث عن مؤامرة غربية على المرأة المسلمة. تغني نورهان وهالة في بيئة متقلبة ما فتئت تحاصر الأنثى وصوتها بقيود شتى.


ولئن تباينت الجماعات الإسلامية وتصارعت، إلا أنها تتفق على وأد حضور الأنثى في المجال العام، خصوصاً إذا كانت مطربة أو راقصة، وفق ما يؤكد لرصيف22 الباحث الشاب حسين الوادعي.
مع انهيار مؤسسات الدولة على خلفية انقلاب مسلح نفذته ميليشيات الحوثيين والقوات العسكرية الموالية للنظام السابق منذ 21 سبتمبر 2014، صارت الجماعات الإسلامية والجهوية الحاكم الآمر في مناطق الانقلابيين والحكومة الشرعية على السواء حتى كاد الستار يسدل نهائياً على الحريات والفنون.


إيقاع الخوف
“متأكد أن السؤال هاد ما راح يعتقلوني بسببه”، تقول هالة التي بدت أثناء حديثها مع رصيف22، جريئة وواثقة في نفسها، لكنها ما لبثت أن أظهرت تحفظاً، مطالبة بعدم الكشف عن هوية أسرتها بما أن الموضوع يتعلق بالغناء وسلطة الجماعات الدينية.


ولدت هالة في اليمن لأسرة تتحدر من مدينة غزة الفلسطينية، إلّا أنها تظل محكومة بتقاليد المكان.
مشكلة هالة وفق ما تذكر، تكمن في وقوع أهلها تحت سطوة النظرة الطبقية السائدة في المجتمع اليمني، والتي تحقر مهنة الفن. “في مقدوري، تقديم فن راقٍ لأتجنب تصنيفي ضمن هذه الطبقة”، تقول هالة، مشيرة إلى أن موقف عائلتها سيكون إيجابياً لو كانت في لبنان أو مصر.


خلافاً لرفيقتها الفلسطينية، تؤكد نورهان ذات الأصول اليمنية الخالصة، أن لا مشكلة لديها مع أسرتها، فعلاقتها بالغناء صارت وجودية إلى درجة أنها تصاب بالاكتئاب إذا لم تغنِّ، حسب ما ذكرت لرصيف22، معتبرة احترافها مسألة مصيرية. أما مشكلتها الراهنة فتكمن في كيفية الحصول على منحة لدراسة الموسيقى وفق ما تقول.


يمنيات كثيرات، غير نورهان وهالة، خضن تجربة الغناء لكن قليلات منهن استطعن الصمود. فما يسمى مجتمعاً محافظاً هو في العمق انغلاق فكري يغلف بالمحافظة، تقول هالة، مستشهدة بفنانين يمنيين من الجنسين نجحوا بعد مغادرتهم الوطن.


يتذكر عبدالرحمن الغابري الذي كان أحد مؤسسي فرقة الموسيقى في شمال اليمن في ثمانينيات القرن العشرين، كيف عملت الجماعات الإسلامية المتأثرة بالأيديولوجية الوهابية على تفكيك فرق الرقص والغناء.


يعدد الغابري، لرصيف22، طرائق الترهيب والترغيب التي اتبعتها جماعات الإسلام السياسي، ما أدى إلى تفكك الفرقة الوطنية التي تشكلت من اندماج الفرق الجنوبية والشمالية وتحول بعض العاملات في الفرقة واعظات دينيات.


فلئن شكلت الوحدة اليمنية في 1990، لحظة فارقة بالنسبة إلى اليمنيين، خصوصاً أنها اقترنت بإقرار النظام الديموقراطي، إلّا أن ذلك المنجز تبخر فجأة مع اندلاع حرب صيف 1994 الأهلية التي انتهت بانتصار القوات الشمالية المدعومة من القبائل والإسلاميين.


لم يكتفِ نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي حكم اليمن 33 سنة، معتمداً على تحالفات متنوعة، بإفراغ الديموقراطية من جوهرها، بل سمح في 2008، بتأسيس “هيئة الفضيلة” وهي نسخة يمنية من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية.


في المقابل، اتجه خصوم الإسلام السياسي السني إلى دعم جماعة الحوثيين المتأثرة بالأيديولجية الخمينية حتى صارت خلال عقد القوة الشيعية الأولى يمنياً، والتي لا تقل ضراوة عن نظيراتها السنية.
إبان الحرب الباردة، وصف باحثون الجماعات الشيعية بالعقلانية والثورية، إلّا أن تجربة وصول هذه الجماعات إلى السلطة بينت أن لا اختلاف بين الجماعات الشيعية والسنية، فهي جميعاً تنهض على جذر واحد يعادي الحريات ويرى في صوت المرأة عورة وفق ما يرى الوادعي.


منذ سيطرتهم على صعدة في 2011، منع الحوثيون بث الأغاني، ودهموا محال بيع التسجيلات الموسيقية وفتشوا الهواتف واعتقلوا مطربًا واحدًا في الأقل. وبعد اجتياحهم صنعاء صيف 2014، كرسوا الإنشاد الديني والفن القبائلي المعروف بالزامل وهو نشيد حربي بامتياز تصفه أجهزة الحوثيين بفن الفنون.


على غرار ما فعل داعش والقاعدة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية، استهدف الحوثيون ما يعتبرونه مخالفاً السلوك الإسلامي.


إثر مهاجمة عبدالملك الحوثي معاهد تعليم اللغة الإنكليزية التي اعتبرها مكاناً للاختلاط، شهدت صنعاء عمليات دهم وإغلاق مقاهٍ مختلطة وتعرض طلاب وطالبات ومحتفلين بعيد الحب لمضايقات وتهديدات.


إيقاع الفصام
“أتمنى ألّا تكتب مقالاً صادماً”، تقول المديرة التنفيذية لمؤسسة بيسمنت الثقافية شيما جمال، معبرة عن حال من الخوف تسود الوسط الثقافي والفني في مناطق سيطرة الحوثيين.


تقدم بيسمنت أنموذجاً لافتاً في الانفتاح على الثقافات ويعول عليها البعض في تشكيل منصة أولى لنشوء ثقافة الحداثة والديموقراطية. من بيسمنت، انطلقت أصوات شابة متمردة مثل مغنية الراب أماني يحيى.


تؤكد جمال لرصيف22 استمرار مؤسستها في احتضان المواهب ودعمها من دون شروط، مشيرة إلى أن 335 شخصاً، بينهم 120 فتاة، دعمتهم بيسمنت خلال العام الماضي في مجالات الفنون المختلفة. إلّا أن بقاء نشاط بيسمنت بمنأى من قبضة الحوثيين، لا يعني انفتاح الميليشيات التي اجتثت وسائل الإعلام والثقافة المخالفة، فربما يرجع ذلك إلى انشغالها بالحرب التي تخوضها ضد التحالف العربي والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وفق ما يرى الوادعي وآخرون.


مقام النكسة
تعود المجادلات الحديثة في شأن تحريم الموسيقى والغناء وإباحتهما إلى مطلع القرن العشرين، عندما أصدر السيد محسن العطاس كتابه “رقية المصاب بالعود والرباب”، فرد عليه الشاعر والفنان أحمد فضل القمندان (1885 ــ 1943 ) بمقالة “فصل الخطاب في إباحة العود والرباب”.


يفترض منطق التطور أن تفضي تلك السجالات إلى نضج ثقافة التعدد والحوار لكن العكس هو ما حدث، حيث عملت الدولة التسلطية بصورتها الدينية القبائلية في الشمال والاشتراكية الشمولية في الجنوب على نسف تراث التعدد والاختلاف، ما أدى إلى انتكاسات مجتمعية وظهور أحزاب تتشدق بالديموقراطية وتمارس نقيضها وفق ما يلاحظ الوادعي.


ارتفاع الخطاب المتشدد عزز الثقافة التقليدية التى ترى في الموسيقى والغناء مهنة الطبقات الدنيا وفسقاً ومجوناً. خلال العقدين الماضيين، انتشرت ظاهرة المطربات المنقبات اسماً ولباساً. فهناك ممثلات وراقصات يظهرن على الشاشة من دون حجاب، في حين يتنقبن أثناء وجودهن في الشوارع والأماكن العامة.


بعد نحو 3 سنوات من ظهورها عازفةَ غيتار ومؤدية أغان بالإنكليزية، توقفت ميثال محمد عن الغناء بطلب أسرتها التي لا ترفض الموسيقى لكنها تخشى على ابنتها من الشارع وفق ما أفادت مصادر مطلعة.


عد هجرة الأسرة إلى كندا، عاودت محمد الغناء في 2015 بقوة ومن دون غطاء الرأس هذه المرة.
تأثير النظرة التقليدية لم يقتصر على الإناث فقط، بل طاول الذكور أيضاً، فقد عرف محمد أبو نصار (1941 – 2002) مطرباً، بيد أن قلة تعرف أن كنيته هذه مجرد قناع لإخفاء هوية الفنان المتحدر من طبقة السادة الهاشميين التي حكمت شمال اليمن لأكثر من 1000 سنة، وتتهم بتحريم الموسيقى.
وفي وقت تتجه السعودية إلى التخفف من أحمال التشدد الديني والانفتاح على العصر، يبدو اليمن يهوي في مزيج من العصبيات المذهبية والمناطقية، معيداً المرأة إلى نقطة الصفر.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24