الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
علي السباعي . سرديات الجنوبي وتدوين المقموع.. - علي حسن الفواز
الساعة 12:54 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)
 
 
الكتابة مراقبة، ولعبة في التلصص على العالم، واللغة بوصفها القوة المُتاحة للتفكير  لاتملك إلّا أنْ تكون أداة تلك المراقبة، وواسطتها في التلصص، ولعل أخطر وظيفة للغة هو دفعها لأنْ تكون مادة لحفظ ولتداول سرديات تلك الكتابة القاتلة، بما فيها سرديات التفاصيل الصغيرة، حيث الاستبداد، وفقه الكراهية العزل، وحيث الحروب التي انتهكت روح الجنوب، وحيث الجنوبي وهو يستعيد سرديات الفقد والمحو والغياب.
 
علي السباعي القاص والسارد والباحث عبر كتابة(نص المراقبة) عن وجوده الغائر في مدونات الطين الجنوبي، إذ هو المهووس بأركولوجيا سردياتها الغائرة، تلك التي تتحول الى قوة(تدميرية) كما يسميها ياسين النصير، حيث تواجه لعبة الفقد والغياب والمحو، مثل(بنات الخائبات) اللائي صدّقنّ حكاية كلكامش الجنوبي في بحثه عن عشبة الخلود فأرسلنّ اولادهنّ الى حروبه الطائشة...
في قصصه(صرخة قبل البكم، ومريم البلقاء، مملكة الغضب، ومدونات ارملة جندي مجهول وغيرها) تبدو السخرية المُرّة وكأنها إشهارٌ بالاحتجاج، وتصريحٌ بالمرارة، حيث تتقصى سردياتها سيرة الانسان الجنوبي المُحاصر بالفجائع والانكسارات، حيث الحرب تتسع مثل المقابر، وحيث لا يملك السارد الرائي سوى أنْ يحمل جنوبه المُتخيَّل، لينخرط في لعبة الحكواتي، صانع(المقامات) الساخر والمراقب، والمتلصص،  وليبدو مشهد القصّ أكثر تمثّلا ودينامية وهو يضعنا أمام(تشكيل فضاء الحكي) وهو ينطوي على تناصات السيرة والأسفار الغائرة في لاوعي سرديات ذلك الجنوب، حيث التاريخ المحشو بالاساطير والحكايات والمراثي، وحيث التفاصيل التي تبدأ من حكاية(الجد الثالث) وحكاية الفرات الذي يشبه البحر، ولا تنتهي عند حكاية البطل/ الطفل الذي يكره أنْ يكون فريسة للحروب والذكريات والأوهام.
 
محاولة في تدوين المقموع..
 يستعين القاص بما يشبه المونولوج ليواجه محنة العالم الخارجي، وليخفف من غرابة الوهم الذي يحاصره، فهو يمارس الكتابة القصصية وكأنها مونولوجه الشخصي، أو لعبته الغاوية في سحب القارىء الى منطقته، وكأنّه يستعيره من سياقه الوصفي، ليجعله أكثر مشاركة معه في كتابة سردية المفارقة، تلك التي يوظّفها القاص لإضاءة احوال السرد وموضوعاته ومفارقاته، وبما يُعزز لدى القارىء احساسه بلذة الكشف، وهو يستقبل الشفرة/ العشبة التي يحملها الجنوبي في سيرته وغربته وفي اسفار صراعاته ومنافيه..
 
(جاهد جدي ضد الانكليز. كان يقتل الجندي البريطاني ويأخذ سلاحه وعتاده ويدفنه في بستانه ويزرع فوق جثته نخلة... صارت فسيلات النخيل تملأ بستانه... تحت كل تالة يرقد جندي انكليزي قتله جدي... غادرنا البريطانيون... كبر النخيل... مات جدي... كبرنا... شاخ نخيلنا...احتلنا الانكليز ثانية... قاموا باقتلاع كل نخيل جدي)
كتابة القصة كما يقدّمها السباعي تبقى الأقرب الى(السردنة الشخصية) حيث يتشكّل متنه الحكائي عبر تلك السردنة، وعبر ماتتيحه  من هواجس تلامس مُناخ الحكاية من جانب، أو تلامس وعيه القلق لها من جانب آخر، فهي لعبته أو حكايته الرمزية التي يختبر من خلالها اسئلته الفارقة، وغرائبية تفكيره بالعالم، إذ يسعى عبر القصِّ الى أنسنته، أو مشاغبته، أو  حتى التوغل في تفاصيله بحثا عن الغائب، و(المسكوت عنه والمقموع) بوصفها توريات للحديث عن شفرة الغائب الجنوبي، الغائب في الحرب أو المنفى أو الموت، وكلّها(وحدات سردية) تتكىء على تلاقحات مابين التاريخي واليومي، أو مابين الذاكرة الشعبية وقسوة الواقع، وهذا مايجعل قصص السباعي مشغولة بما يشبه الفضاء السيميائي الى تشتبك فيه تجربة الذاكرة مع العلامات الزاخرة في تجربة الحياة وفي تجربة الكتابة..
 
ففي قصته الطويلة(سيوف خشبية) يستثمر القاص طاقة الضمير المتكلم(أنا) ليقوم بوظيفة الاعتراف، بما فيها الاعتراف بخيبته الشخصية، تلك التي تمسّ(فحولته) وأوهامه بها، ولتغدو الكتابة عنها وكأنها فعلٌ ضدي، يقوم على استداعاء التطهير والخلاص، والتشكيك بسرديات التاريخ/ تاريخ الفحولة، فالقاص يضع جسده وسيفه الذكوري في سياق التعبير عن عطبه الوجودي والرمزي، مقابل ما يفتتح به قصته  من مفارقة تتمثل اسطورة الخلق، أو ماترثه من(سوء السمعة) ذلك التي اقترن بإسمه، ليستحضر معها كثيرا من الشخصيات سيئة السمعة في التاريخ، والمسؤولة عن الجرائم والحروب والمذابح الكبرى، ليس ليفضحها فقط، بل ليكشف عن محنته الشخصية، وعن رهابات وعيه(الشقي) إزاء حمولات هذا التاريخ المسؤول عن حروبه وخراباته واغتراباته الشخصية، حتى يبدو وكأنّ وجوده المضطرب هو الصورة الضدية لتاريخ جنوبه الطيب، ولكلِّ سير النساء القاتلات اللائي كنّ يوسوسنّ بالقتل والكراهية، وليبدو وهو(صاحب السيوف الخشبية) عاجزا و(عنينا) كعلامة على العجز الوجودي الذي يحاصر بكثير من المدونات الضدية، والرغائب المضلِلة..
 
 
السرد المفتون بنقائضه..
 
 ايقاع الحكي في قصص السباعي ليس معنياً بصياغة بنية اطارية للقص، بقدر أنّ يضع لسارده سياقا هو الاقرب الى السيناريو، حيث تتعدد اللقطات، والمشاهد، لكنها تظل محكومة بخطاب سردي تؤديه الشخصيات المؤلِفة للقصة/ السيناريو، والتي كثيرا  ما تفقد بؤرتها السردية، ولتتحول عبر تقانة(الاسترجاع  والمونولوج والمناجاة) الى بؤر متشظية تتقصد كتابة سيرة الجنوبي، عبر ما يتقصاه القاص في سردياته من أحداث وصراعات، وعبر الخروج عن حيادية عين الكاميرا، الى كتابة القصّ الذي يقوم على ملاحقة الشخصيات، وهي تصطنع لمصائرها كثيرا من الفخاخ والمفارقات والنقائض..
 
 
الجسد وفنطازيا السرد.
ثيمة الغياب والعزل هي المحور الاساس الذي اشتغل عليه القاص في ترسيم وحدات السيناريو لقصة( فرائس بثياب الفرح) فالفرائس هي تورية لأجساد الجنوبين، وعبر أنساق حكائية متعددة يأخذنا المؤلف/ المخرج الى توازيات بصرية الى عوالمها، حيث يؤدي السارد عبر ضمير الأنا وظيفة الكاتب المتلصص الذي يراقب العالم من خلال شخصياته الساندة، والتي  تكشف عن خيبتها وعجزها، وعن عمق انتظاراتها المُرّة.
 
 هذه الثيمة تشتغل على مستويين الاول داخلي يتعلق بخيبته شخصيته الرئيسة وهي تتوق الى استيهامات اللذة والاشباع، والثاني خارجي يلامس المصائر الرمزية للشخصيات الأخرى في سياق حركة الكاميرا، ومن خلال مسحها لوحدات الزمن والمكان، أو في سياق توظيفه للرؤيا الحلمية، إذ تتناص فيها رؤيا الشخصية  مع رؤيا استشهاد الإمام الحسين، ومع الرؤيا الاسترجاعية للطفل/ الطالب في المدرسة المركزية في الناصرية.
هذا التناص الرؤيوي يضعه القاص أمام قارئه كتناص مع فكرة التطهير والخلاص، أو مع فكرة الوجع الذي يسببه الفقد والغياب ووجع فلسطين الذي يشبه وجع رأس أمّه، وكأنّ ثيمة الفقد والغياب ذات احالات واحدة الى الوجع العميق والغائر في الذاكرة وفي النص..
 
الاشارة الى الغياب تحيل احالة واضحة الى هيمنة القاص/ السارد، والذي يجد في هذه الثيمة مجاله الاستعادي للحديث عن علاقته بسرديات الغياب بالفقد، وعن سخريته من تلك العلاقة، اذ يعني الغياب موت الرغبة والوجود، مثلما يعني موت الحلم. فشخصية(كاظم الحلو الحباب) الذي يموت وبيده قطع ورق مُقوى  كُتب  عليها( الى متى يبقى كاظم الحلو الحباب على التل) تخفي في اعماقها صورة ذلك الغياب الوجودي للمكان الجنوبي، ولكثير من الحكايات التي تختزن محنة الانسان وانكساره، مثلما أن ثيمة العجز الجنسي ل(عتودة) تخفي في شفرتها عجزا وجوديا لكل الطغاة الذين يغتصبون النساء والمكان والمُقدّس.
 
وبقدر ما تحفل به قصتّي مجموعته القصصية (بنات الخائبات) من طاقة رمزية، فإنه عمد على المستوى الفني الى  قطع تواترها السردي، عبر استخدام تقانة التغريب، او تقانة(الميتاسرد) إذ يحضر القاص السباعي في لعبة التأليف، مشاركا في صياغة أحداثها، أو ترتيب مصائر شخصياتها، ف(عتدوة/ الشخصية الشهريارية) التي تعاني من الفقد تطالبه بالتدخل(قدرك يا سباعي إيقاظ حيواني النائم) وكأنّ هذه التقانة تتقصد  خلخلة فعل القصِّ، من خلال تغريب وظائفية المنظور السردي ل(الأنا) بوصفها الرائية والشاهدة، وبوصفها القوة الاشهارية التي تشتغل دائريا حول بؤرة القص، حيث يتجوّل فالقاص مع ابطاله وهم يرون مصائرهم، أويتماهون مع مصائر أخرى- الامام الحسين، سلفادور الليندي، عتدوة الحبشي)  وكلّ تلك المصائر تتعالق بثيمة الفقد، وهي ثيمة نظيرة لما عاشه الجنوبي المدفوع الى الحروب والغيابات، والغامر في روح الكتابة بحثا عن نصه الغائب، أو وجوده الغائب... 
 
 
 
 
 
 
 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24