الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
(رحلة الكويت) أو الرحلة الثامنة للسندباد - مسعود عمشوش
الساعة 13:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

 

ذكرنا في مقالنا السابق، الذي تناولنا فيه (رحلة جاوا الجميلة) أن جزءا كبيرا من أبناء حضرموت يميلون إلى حياة الترحال والاتصال بالآخر والتثاقف معه وربما الانصهار في بوتقته، كما حدث في إندونيسيا وشرق آسيا وجزر القمر وسواحل شرق أفريقيا. وعلينا أن نضيف هنا أن الحضارم، في غالب الأحيان، لا يرحلون عن وطنهم للسياحة أو الاستكشاف، بل للبحث عن لقمة العيش. ويؤكد المستشرف الهولندي فان دن بيرخ في كتابه (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) أن حتى الحضارم الذين قاموا بنشر الإسلام في جنوب شرق آسيا كان البحث عن مصدرٍ للدخل هو الهدف الأساسي لسفرهم من حضرموت.
 

ومن المعلوم أن كثيرا من هؤلاء الحضارم قد تحولوا من رحالة باحثين عن لقمة العيش إلى مهاجرين ومغتربين بشكل دائم. وهناك بالطبع بينهم من لم يتحمل الغربة، ورفض الاستقرار (هناك)، وعاد إلى حضرموت ولو مؤقتا مثلما فعل السندباد البحري. وهناك حضارم اضطروا إلى القيام برحلة العودة إلى بلادهم بشكل قسري. مثلا، في ستينيات القرن الماضي أجبر الكثير من الحضارم على مغادرة إندونيسيا وشرق إفريقيا. وقد تزامنت تلك العودة الاضطرارية لكثير من المهاجرين الحضارم من تلك الأصقاع مع رحيل أعداد كبيرة من الحضارم إلى دول الخليج، وبشكل عام فضّل أبناء وادي حضرموت السفر إلى المملكة العربية السعودية بينما حبّذ أبناء الساحل التوجه إلى الكويت. وعلى الرغم من ذلك شاءت الأقدار أن تكون وجهة سفر عدد محدود من أبناء مدودة (في الوادي) إلى الكويت وليس السعودية، ومن بين هؤلاء: ربيع عوض مبارك بن عبيد الله، الذي أصدر عام 2016 كتابا بعنوان (رحلة الكويت وصحبة الوفاء)، ويقع في ثلاث وسبعين صفحة فقط.
 

وفي البدء علينا التأكيد على أن هناك فرقا بين الرحلة التي تتضمن بالضرورة مسار الذهاب والعودة، وبين الهجرة التي في الغالب تلغي مسار العودة. وعلى الرغم من أن كثيرا من الحضارم الذين يغادرون بلادهم يدخلون في خانة المهاجرين فقد قرر مؤلف (رحلة الكويت) مقدما أن إقامته بعيدا عن حضرموت لن تطول؛ فهو لن يحوّل رحلته الى هجرة إلا في أدنى الحدود، ويعطي اهتماما كبيرا في نصه بمسار العودة (إلى إيتاك). لهذا يدخل هذا النص ضمن أدب الرحلات، لاسيما أن جميع الحوادث المثيرة التي يسردها المؤلف تقع أثناء سفره بعيدا عن الكويت، وتحديدا في الطريق البري في وادي حضرموت وساحلها، وفي عرض البحر وموانئ المهرة وعمان ودبي.

 

رحلة السندباد الثامنة:
في مطلع عام 1963 زار سالم هادي باربود، أحد أبناء بلدة بحيرة الواقعة غرب مدودة، والذي سبق له أن سافر إلى الكويت، والد ربيّع بن عبيد اللاه في بلدة مدودة واقترح عليه أن يسمح لولده ربيّع بالسفر إلى الكويت، ويعترف المؤلف أن "أرض الكويت كان السفر إليها [من وادي حضرموت] مجهولا ولا يوجد أحد من بلدنا قد سبق وإن سافر إليها وكثير ممن حولنا يجهلون ما يعرف بالخليج العربي".ص11
 

وبعد أن وافق الوالد ركب ربيّع شاحنة نقل باتجاه ميناء الشحر برفقة ستة شباب وصبية من مدودة [خالد سعدان باحارثة عمره تسع سنوات فقط]، وسبعة من بحيرة وأربعة من قارة آل عبد العزيز. وهكذا بدأ ربيّع، الذي لم تكن لديه أية وثيقة رسمية تبيّن هويته أو وثيقة سفر، رحلته إلى الكويت التي دامت من 7 شوال إلى مطلع شهر ذي الحجة أي شهرين كاملين.
ومن الشحر تمَّ تهريبهم بشاحنة، ثم مشيا على الأقدام، ثم بالجمال إلى أرض المهرة. وقد أسهب المؤلف في سرد ذلك الجزء من الرحلة، وكتب: "انطلقت الشاحنة واستمرت في السير طوال اليوم، عبر الجبال والرمال، حتى إذا ما وصلنا ثرب حومة كبيرة في قلب الصحراء توقفت الشاحنة وطلب السائق منا النزول، الوقت حينها كان عصرا، تلك الحومة كانت تستخدم لسقي الجمال والحيوانات الأخرى، وماؤها عكر ويغلب عليه طعم البعر، إلا أن الركاب كانوا مضطرين وشربوا منه مستخدمين ثيابهم لتصفية ما يُستطاع من الشوائب. وبعد أن شربنا من تلك الحومة طلب منا سائق الشاحنة أن نواصل الرحلة على أقدامنا خشية أن تغرق السيارة. وفعلا مشى الجميع متجهين إلى البحر، ومن ثم عاودنا الركوب لبعض المسافة، إلا أن نسبة الغرق أصبحت في ازدياد فاضطر السائق أن يوقف الشاحنة، وقال: نحن الآن وصلنا أرض المهرة ولا أقدر أتقدم أكثر من كذا، وعليكم الانتظار هنا حتى يجونكم الجمالة من أهل المهرة. ولحظات ووصل إلينا أهل المهرة بجمالهم، واتفق كل مسافر مع جمّال بشأن أجرة إيصاله مع عفشه إلى البحر، ومن ثم إلى اللنش". ص14

 

وتكوّن الصفحات التي يروي فيها ربيّع رحلته بالباخرة الصغيرة من ساحل المهرة إلى الكويت أجمل أجزاء النص؛ فالطريقة التي استخدمها في سرد أهوال ركوب البحر لا تقل إثارةً من تلك الطريقة التي استخدمها السندباد البحري في حكي رحلاته السبع في (ألف ليلة وليلة). ففي الأيام الأولى من تلك الرحلة يجعلنا الراوي نسلّم بأن ركوبك البحر يعني أن تصبح وجبة شهيّة لأسماك القرش؛ فهو يخبرنا أن المسافرين - في اليوم الثالث- لاحظوا من البحارة حركة غير معتادة تُنبئ أن هناك أمرا جللا قد حدث أو سيحدث، ويضيف: "وأخيرا تبيّن لنا أن واحدا من البحارة قد وافته المنيّة، وقام زملاؤه بتغسيله وتكفينه، ونادوا للصلاة عليه. ومن ثمّ أحضروا ثلاث حجارة مدورة الشكل تزن كل واحدة منها قرابة الثلاثين رطلا، وموضوعة في كيس من خيش مربوط بحبل من السلب. وبعد أن صلينا عليه ربطوا واحدة من الحصي في مقدمة صدره والثانية أسفل موضع سرته والأخيرة عند ركبتيه، وتمت تسجيته على سفره خشبية بعرض شبر ممتدة من تحت الرأس إلى عند العرقوب، ومن ثم حملوه وأرسلوه إلى البحر بهدوء، وقرأوا الفاتحة". ص17
 

وبعد تلك الحادثة، تتقدم السفينة ببطءٍ شديد بمحاذاة ساحل المهرة ثم بمحاذاة الساحل العماني. وبعد مرور نحو عشرين يوما، لم تبرز فيها أي مشاكل كبيرة، يفاجئهم إعصار شديد كاد أن يغرق السفينة بمن فيها. وقد بدأ ربيّع في سرد الحادث قائلا: "مع لحظات غروب أحد الأيام، بدأنا نشعر بازدياد الهواء من حولنا، وفجأةً أخذت السفينة في التسارع أكثر من المعتاد. وتلبدت السماء بالغيوم، وارتفع منسوب الموج، وأخذ البحارة مواضعهم كل واحد بالقرب من حبل من حبال السفينة، وقام العم سالم الصوري وتناول بإحدى يديه مصباحا كبيرا وبالأخرى منظارا ليتفقد من خلاله الحال ويستطلع ما حولنا. وأدرك أن السفينة قد انحرفت عن مسارها وصارت في نقطة التقاء الخليج العربي والمحيط الهندي وبحر العرب. حينها بدأت الحالة تضطرب وتزداد سوءا، وأصبح الواحد منا لا يستطيع الوقوف إلا إذا كان ممسكا بشيء يعينه. كانت الأمواج قد صارت مثل الجبال وتلطم السفينة بعنف وشدة، وهنا صار الكل يصيح: يا الله يا الله. ولجأ أغلب الركاب إلى أسفل السفينة، وصار الظلام دامسا ولا يُسمع إلا التهليل وضربات الموج المخيفة. وعلى ظهر السفينة أمسى كل شيء في غير مكانه، حتى البراميل والأشياء الكبيرة صارت تعلو وتهبط في غير مواضعها من شدة العاصفة. والسفينة نفسها كانت تصعد وتهبط إلى أعلى وتخر هاوية بشكل مفجع وكأنها تخر من رأس جبل لعظم الموج الذي كان يتقاذفها". ص18
 

وفي تلك اللحظات لا يتردد المسافر ربيّع في رصد ردود فعل زملائه التي تشبه كثيرا ردود فعل التاجر السندباد الذي، أثناء رحلته الرابعة، يأس من النجاة وقام بتوزيع كل أمواله على المسافرين الذين كانوا معه في السفينة. وقد عبّر عن ذلك قائلا: "أيقن الجميع بالهلاك وأنها الخاتمة سائلين الله أن تكون بالحسنى، وبدأ البحارة يجمعون فلوسهم ويربطونها تحت أحزمتهم ويصيحون أن يتعاون الجميع فيما بينهم، وأن نأكل ما نستطيع مما نملك، وأن يشارك كل واحد أخاه الذي لا يملك شيئا ويقسم له مما لديه من مؤونة، وكأنهم يرون أن السفينة هالكة لا محالة. وكان أغلى شيء عند المسافرين حينها: التمر والمكعك. سمعهم في ذلك الأخ عوض سالم وخرج إلينا في أسفل الخن مترنحا مع ترنح السفينة يسقط تارة ويقوم أخرى. وكان يملك في عقشه الخاص قرصين من المكعك جلبهن إلينا وكانت أنظارنا شاخصة نحوه من شدة الرعب وقال: خذوا المكعك وكلوه، شو النواخذة يبكون وقالوا خلاص اللنش مروّح". ص18
 

ومع ذلك، بفضل خبرة أبناء السندباد الشحري الحضرمي في التعامل مع أعاصير البحر المحيط الهندي، لم يغرق (اللنش)؛ فالروي يقول: "بعد أن تدفق الماء إلى داخل السفينة وازداد الخطر، قامت مجموعة البحارة من أهل مدينة الشحر وعددهم بين السبعة والثمانية، وتعصروا وأخذوا يرقصون رقصة بحرية خاصة ونزلوا إلى داخل الخن وعثروا على المكان الذي يتدفق منه الماء إلى داخل السفينة، وحاولوا جاهدين سده بما يملكون من أدوات، إلا أن محاولاتهم تلك باءت بالفشل ولم يستطيعوا السيطرة على الوضع بهذا الشكل، وعمدوا بعدها إلى انتقاء من يرون فيهم القدرة على الحركة من المسافرين ورصوهم في صف من أسفل الخن إلى سطح السفينة، ووضعوا خمسة أو ستة رجال على سلم أوصلوه بينهم، وطلبوا من كل من لديه بالدي حديد أن يحضره، وبدأ الجميع في إخراج الماء من أسفل السفينة إلى أعلاها في حركة (خذ فاضي وهات مليان). وظل الجميع على هذه الحركة طوال الليل، حتى أن أحدهم لم يشعر بدخول الفجر ولا حتى بشروق الشمس، وذلك بسبب الظلام الدامس والسحاب الكثيف النازل فوق البحر. وكان الموج يرتفع ويهبط مخلفا صوتا هادرا يستحال بسببه أن تسمع صوت من هو بجانبك إلا بصعوبة. أما الركاب فمنهم من تسمر مكانه من شدة الخوف، ومنهم من بقي في مساعدة الشباب الذين كانوا يقومون بسحب الماء من أسفل السفينة.. وهكذا استمر الحال حتى أخذ الموج في الهدوء شيئا فشيئا وبدأ السحاب يخف، فأخذ أحد البحارة ناظورا ونظر من خلاله، ورأى الأنوار بادئة من جهة الشمال مخمنا أنها فد تكون جزيرة مصيرة الواقعة جنوب شرق عمان حينها بدأ الركاب يستعيدون وعبهم بمساعدة ما يعطى لهم من تمر، وتفتحت عيونهم، وأخذ الموج يهدأ، وظهرت الشمس". ص19
 

وواصلت السفينة رحلتها عبر الخليج العربي، وبعد نحو عشرين يوما وصلت خور دبي الذي كان عام 1963 ميناء صغيرا لكنه - مثل اليوم- مليئا بالناس من مختلف الجنسيات، ولم يستطيعوا العثور فيه على أحد يتكلم العربية إلا بعد بحث طويل، وهو ما يبيّن لنا السمة الكوسموبوليتية لتلك المدينة التي كانت الفنادق فيها عبارة عن عشش وحمامتها البحر. ويصف المؤلف ذلك قائلا: "دخلنا خور دبي مع وقت المغرب. ونزلنا من القارب وبدأنا السير داخل المدينة، ولفت انتباهنا عدم السؤال عن الهوية ولا جواز السفر، وكأننا في بلدنا. سمعنا أذان المغرب من مسجد قريب واتجهنا إليه، وعند وصولنا رحنا نبحث عن أماكن للوضوء، وعندما لم نجدها اقتربنا من رجل كبير في السن وسألناه عنها، فأخبرنا أن علينا أن نتوجه إلى مسجد آخر لا توجد به منارة، وقال ذلك مسجد للسنة وتوجد به أماكن للوضوء أما هذا فهو مسجد للشيعة. وبعد الصلاة جلسنا للتشاور للبحث عن سكن يأوينا نحن الثماني عشرة، وبيننا أربعة من الصغار. وبعد التشاور خرجنا نمشي بين المحلات التجارية علنا نعثر على من نستطيع سؤاله عن مسكن نستأجره، للأسف لم نجد خلال بحثنا من يتكلم العربية. فكل من قابلناهم يتحدثون أما الهندية أو الفارسية، إلا أننا أخيرا عثرنا على رجل بلوشي عربي وسألناه وأفادنا أن نعبر الخور إلى بر دبي، وهناك سنجد أناسا يسكنون في عشش ونستطيع أن نستأجر منهم عشة نسكنها. وعند وصولنا على الطرف الآخر من الخور استمرينا في المشي حتى منتصف الليل لنصل إلى مكان العشش وقد تمكن منا التعب والإعياء. واستأجرنا إحداها بعشرين روبية لمدة ثمانية أيام. العشة تقارب في مساحتها محضرة (غرفة) أم سهمين (12 فوت في 8فوت)، إلا أنها دائرية الشكل، يتوسطها سهم (عمود) مدور من خشب البحر، ومفروشة بحصير قديم. ولم نستلذ بالنوم في تلك الليلة إذ كانت أصوات الإذاعات الهندية والفارسية والعربية تصدر من العشش المجاورة ومرتفعة إلى درجة الإزعاج، وعندما أصبحنا في اليوم التالي نبحث عن الحمامات أتانا الرد المختصر: إن البحر قريب". ص21-22

 

 

الإقامة (هناك) مؤقتا:
ذكرنا أن ربيّع أكد مقدما أن إقامته في الكويت لن تطول؛ فهو لن يحول رحلته الى هجرة الا في أدنى الحدود. ونضيف هنا أن المؤلف لم يهتم بسرد الآخر الكويتي، ولا بتقديم البلاد التي عاش فيها نحو ست سنوات. ففي الكويت لم يقدم لنا الراوي إلا العُزَب التي عاش فيها مع مواطنيه الحضارم حياة صعبة. كما اختزل المؤلف وصف حياة الاغتراب في تقديم العزبة والحياة داخلها التي تفرض على الرجال القيام بمهام الطباخة والكنس والغسيل، وهي أمور لا يمكن أن يقوموا بها في حضرموت. وأشار بإيجاز إلى مشكلة وجود الكفيل للحصول على ترخيص الإقامة، وفي بعض الأحيان ضرورة العمل لديه بأجر زهيد.
 

ومن بين ساكني العزب ركز ربيع على تقديم زملاء رحلته من مدودة، وتحديدا أعضاء صحبة الوفاء: محمد وصالح ابني يسلم بن دحباج اللذين سكنا معه وكوّن معهما، في الكويت ثم في حضرموت، شراكة تجارية دامت أكثر 33 سنة، بدأت بتحميس الحنضل (الزعقة) في حوش العزبة بمدينة الكويت. وبعد أن فتح الله عليهم في تحميس الحنضل وتوزيعها فكروا في فتح دكان، وكتب ربيّع: "كنا قد قاربنا السنتين في الغربة، ولا يزال المستقبل مجهولا، والتفكير الذي يشغل بالنا كان في كيفية الحصول على محل وفتح دكان خاص نضمن من خلاله دوام العمل والاستفادة من غربتنا التي أدركنا أنها ليست سوى ضياع عمر وفرقة أهل وأحباب". ص30 ثم فتحوا معرضا للثياب الجاهزة أطلقوا عليه (معرض حضرموت)، وحينما درّ عليهم المعرض بعض المال بدأوا التفكير في الاستثمار في بلادهم على الرغم من عدم تشجيع النظام اليساري آنذاك للقطاع الخاص في جنوب اليمن. وفي البداية قاموا بشراء أرض زراعية في جعيمة ومكينة حراثة (دراكتر) وسيارة وكله بالشراكة.
 

ويضيف ربيع: "في بداية عام 1971 استقر بنا الرأي على فتح عمل تجاري بسيؤن –حضرموت، أكون أنا مستقرا فيه لإدارته بينما يبقى محمد وصالح [دحباج] للقيام بأعمال الكويت: دكان ملابس وناصفة البقالة إلى أن يقوى العمل في حضرموت، حينها يتركون عمل الكويت والغربة ونستقر جميعنا في وطننا".
 

وفي أبريل 1971 ودّع ربيع أرض الغربة نهائيا وعاد إلى حضرموت، ويقول: "بدأنا في التحضير لفتح ما خططنا لفتحه من عمل تجاري، وكان الوضع السياسي حينها في جنوب اليمن غير مشجع للقيام بأي عمل تجاري، وكان كبار التجار المعروفون في المنطق يحولون أعمالهم إلى الشمال. إلا أننا قررنا الإقدام على تأسيس مشروعنا خصوصا أننا لمسنا تشجيعا وارتياحا من الأهل، فقد كانوا يقولون لنا: "الخير والبركة في بلادكم عند أهلكم. ومال ما هو في بلدك لا لك ولا لولدك. فكما آلمتنا الغربة آلمتهم. وكانوا يفضلون أن نبقى إلى جانبهم، وإرضاءً لهم مضينا قدما". ص40

 

 

رحلة العودة:
من المؤكد أن مؤلف (رحلة الكويت) قد أراد أن يضفي على نصه بعدا تشويقيا لافتا من خلال تكريس معظم صفحاته لسرد اللحظات الأكثر إثارة في مساري الذهاب والعودة. فكما فعل في سرد أحداث مسار الذهاب، ركز عند سرد عودته (الأولى) من الكويت على الأحداث المثيرة التي عاشها. فهو يكرس ثلاث صفحات مثلا، ليسرد بالتفصيل صعود السيارة التي نقلته من الشحر إلى وادي حضرموت عبر عقبة المعدي الواقعة شمال مدينة الشحر، فهو يكتب: "تحكرنا من مدينة الشحر في الخامس والعشرين من شهر شعبان بعد صلاة المغرب، وكان عددنا أربعة عشر مسافرا، ومشينا حتى وصلنا منطقة (قهاوي البدو) تحت العقبة التي اعتاد المسافرون التزود فيها والاستراحة قبل صعود العقبة. ونظرا لوصولنا إليها متأخرين لم يسمح لنا السائق بالخروج للتزود وقرر الصعود مباشرة. وبدأنا في الطلوع وتجاوزنا الثلاثة المنعطفات الأولى، وعندما وصلنا إلى الرابع منها هرولت السيارة ولم يستطع السائق التحكم بها بسبب الحمولة الكبيرة التي على متنها. وفي تلك اللحظة القصيرة والمفجعة صاح الجميع وكبروا الله وسألوه اللطف بهم، وقفز بعضهم من على متن السيارة إلى فوق الصخور المحيطة حتى توقفت السيارة أخيرا بالعرض في وسط الطريق. وأحس البدو الساكنون تحت العقبة بالحادثة وصعدوا إلينا بفوانيسهم وتريكاتهم لتهنئتنا بالسلامة وتلمس حالة المصابين منا...". ص33
 

ومثلما اهتم هوميروس في (الأوديسة) بتسجيل لحظة عودة أوليس إلى بيته في إيتاكا، حرص كذلك ربيّع على تقديم لحظات عودته إلى بيته ولقائه بزوجته وأولاده، إذ كتب: "أخيرا أنا بين أهلي وأسرتي. كانت تلك الليلة من أسعد الليالي في حياتي. حمدت الله فيها كثيرا لأنه منَّ عليّ برؤية ولدي ووالدتي ووالدي وزوجتي وأخواتي، وكذا تحقق الحلم الذي سافرت من أجله، وهو قطعة أرض وبيت أسكن فيه. أخذت أتأمل كل ذلك وأنظر المرة تلو الأخرى فيما تمّ إنجازه من ذلك البيت؛ المحضرة الشرقية والمطوال الذي يعلو الضيقة، كل ذلك أنساني الهموم التي عانيها عبر سنوات السفر. واستمعت في تلك إلى زوجتي وهي تقص بعض ما عانته من الجوع والتعب وتربية الأولاد والعناية بوالديّ، وتحضير ماء البيت وتوفير حطبه، وكذا نقل السيمان والعفش من المسكن القديم إلى البيت الجديد، وكل ذلك على رأسها، إضافة إلى متاعب كثيرة لا تعد ولا تحصى احتفرت في الذاكرة ومقامها الإجلال والتقدير، والحمد لله على منه وكرمه". ص35
 

وفي نهاية هذا العرض السريع لـ(رحلة الكويت) علينا أن نشير إلى أن هذا النص، مثل جميع نصوص أدب الرحلات، ينتمي جزئيا إلى أدب السيرة الذاتية؛ فالمؤلف، أطال الله في عمره، يرى أن تلك الرحلة كان لها أهمية كبيرة في تكوين شخصيته، ويؤكد: "هذه الرحلة كانت على خلاف غيرها من الرحلات التي خضتها في حياتي، إذ كان لها الأثر البارز في تكوين شخصيتي وتطوير حياتي وتأسيس علاقتي بمن حولي". ص10 ونشير كذلك إلى أن ربيّع قد ألحق بنص الرحلة عددا من الصور وأربع من قصائده الطويلة التي تذكرنا في بعض جوانبها بقصائد سالم خميس كندي التي كانت مجلة الطليعة اليسارية الكويتية تنشرها في ستينيات القرن الماضي. لكنها في الغالب تعبّر أكثر من النص النثري عن مشاكل الغربة والاغتراب والإحساس بالتعاسة بعيدا عن الأهل والأرض. ونقتطف من القصيد الثالثة المؤرخة في 27 يوليو 1966 الأبيات الآتية:
 

قال الفتي سهران طول الليل والأمة سكون
فكرت في حالي ومن فرق الوطن مرّت سنون
لما متى يا رب نشوف النور من بعد السجون
ونشوف بلدتنا تعمر مثل لي هم يعمرون
من بعد حط طابع على المكتوب خمس وأربعون
بريد جوي والموزع قلّه احذر لا تخون
سلمه يد الأب وهو يقرأه عا الأم الحنون
وقبّل الأولاد جنب الدار شفهم يلعبون
وقل لهم الأسفار صعبة حسب ما أنتم تعلمون
وبُعدنا قرّب وبعد العسر با تتيسرون
وأخبر محمد لي على الخاطر مكانه ما يهون
لأنه شريكي في الألم أما الفرح جم با يحضرون
وقل له الأولاد من فضلك متي با يتصورون
من شد الحسرة يحن القلب وتهش العيون
ما هو سوى منك مضين أشهر ونحن في سهون 
وذكركم دايم عساكم مثلنا با تتذكرون

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24