الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
إضاءات حول قصيدة ( كفُّ الليل ) للشاعر الواعد غسان محمد قائد المخلافي - طارق آلسكري
الساعة 16:30 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



على سبيل التقديم

 

عندما يشغل الشاعر أو الكاتب موضوع ما ، فيملأ عليه فضاء فكره ، نقول أنه امتلك جناحا من أجنحة الإبداع وبقي عليه جناح الصورة الفنية ، إذ بغيرهما لا يستطيع أي شاعر في الدنيا أن يحلق في عالم الإبداع . 
وعلى قدر امتلاك الشاعر لهذين العنصرين يكون جناحه الجبار . وعندئذ يستطيع الشاعر أن ينجح في شد انتباه القارئ ، وأن يصيب من قلبه أثرا حميدا . 
واكتمال هذه الأدوات يكون مرتهنا بالقراءة في تجارب الشعراء ، والخبرة في ممارسة العمل الإبداعي.

وبين أيدينا قصيدة نثرية للشاعر المبدع غسان محمد المخلافي ، وقد انطلقت في تناول هذا النص من منطلقات من عدة :

1) أن هذا اللون من الكتابة لون جديد بالنسبة للحياة الأدبية في اليمن وفي المخلاف بصورة أخص . فاليمن بمدارسها الأدبية ظلت مرتهنة بالمدارس الأدبية الكبرى في مصر والشام .

2) أن قصيدة النثر والتي كان رائدها الشاعر السوري محمد الماغوط 1934م قد لقيت حربا شرسة من قبل شعراء العمود ، وظل هذا الجنس الأدبي محل ريبة حتى اليوم .

3) أن قصيدة النثر استطاعت أن تكوِّن لها خصائصها الفنية الفريدة من تكثيف للصورة ، واستطاعت أن تحمِّل لغتها السهلة الكثير من القيم التعبيرية والشعورية والجمالية ، واستطاعت أن توجد لها إيقاعات خاصة بها مستوحاة من صورها الإيحائية .

4) وأمام هذه القصيدة النثرية للشاعر الواعد غسان تأخذنا الدهشة إلى عالمها الجميل ، لتزيل الغشاوة عن أعيننا ، فنرى من خلال اللغة الشعرية عالما جديدا مختلفا .

5) أن القصيدة النثرية التي ظلت في قفص الاتهام ، وكان النقاد يتحاشون الاقتراب منها ، استطاعت اليوم أن تدخل ميدان الدراسات الأكاديمية بكل جدارة ، مما يدل على أنها آخذة في الصعود ، وقد اطلعت على رسالتين للدكتوراة حولها وهذا يثبت نظريتنا التي ترى أنه من الطبيعي جدا أن تتطور الأفكار فتتخذ لكل عصر شكلا يناسبها ، ومن ضمن ذلك الرؤية الشعرية شكلا ومضموناً .

6) أن يطل علينا غسان بهذا اللون الجديد من ربوع المخلاف ، المخلاف المحرومة من مقومات الحياة الحضارية من مكتبات عامة ، من وفرة المستشفيات الحديثة ، من النوادي الأدبية والمهرجانات الشعرية والصوالين النقدية للقصة والرواية والشعر ، والتي تتيح للمهتم متابعة الجديد على صعيد الدراسات الحديثة والاطلاع على تجارب شعراء الدول الأخرى كالعراق وليبيا وغيرها . فهذا تحول كبير في المشهد الأدبي في المخلاف ، وقد أبدع من أبناء المخلاف أيضا في هذا اللون غمدان أحمد حمود المخلافي بشكل يغري المهتمين بدراسة نصوصه ، وكذلك لدينا معتصم محمد عبده، وهذا حسب ما أمكنني الاطلاع عليه .

*

النَّص :

كَفّ اللَّيْل

خُذ كَفّ الليل

واصرع بِه قَامُوسَ الْوَجَعِ الْأَعْمَى

مَنْ جَدَّ فِي حُزْنِه

عَن شَطّ الْحِيرَة

تنام الْعُزْلَةُ فِي دَمُه الْبَارِد

أُصْغِي ليدك

وَأَطْلَق عَقْلك

مَا عَبَرَت عَرَائس الْأَفْكَار

نَهْر الْكَلِمَات

وَتَمَنَّى مِنْ بَحْرِ مَارِق

إكْسِير الدَّعَوَات

مَاج الْعَطَش السَّاقِي

في أَفْئِدَة القوم

واخضرَّ يَبَابُ الْعُمْر

فَتًى يَصْقُل أَوْرَاقَه فِي ظِلّ الشَّمْس

وَيَلُفّ مِئْزَر حلمه

مزدانا بِالشِّدَّة وَالْبَذْل

غُصَن مجَروح

يتهدل مِن ذَاكِرَةِ حَمْام

لَمْلَم ريشك

فغبار الْحَرْب ينسف وحدتك

ورغبتك فِي الْمَوْت تَمُوت

لَمْلَم ريشك

سَيُصَادر حُزْنك

الْعَسَس الماجورون

يسرقون رَغِيف الْخُبْز المحمر مِن وَجَنَّة عَيْنَيك .

تقوم فكرة النص الذي بين أيدينا على فكرة المفارقة ، والمفارقة مدخل من أهم مداخل الإبداع بما يثيره من أفكار غامضة يقوم على التأمل أو الحفر في المعنى باستكناه المقصود . ففي هذا النص نقف أمام صوتين : صوت الحكمة ، وصوت البؤس .
وصورتين : 
صورة واثقة ، وصورة منهزمة 
وهذا ما نلحظه خلال حوار شفاف يدور في جوانب المتن .
يتجلى صوت الحكمة فيما تقدمه من نصائح :

خذ كفَّ الليل

اصرع به قاموسَ الوجعِ الأعمى

اِصغي ليدك

أطلق عقلك

لملم ريشك .

ويتجلى صوت الهزيمة في شخص منكسر لليل وما يمليه عليه من هموم . المنعزل عن الحياة . الذي عطل طاقات عقله في البحث عن حلول لشدة ماتملكه من يأس .

ولا ننسى أن غسان من أبناء ثورة 11 فبراير المجيدة ، تلك الحركة الشبابية التي خرجت تصرخ في وجه النظام الفاسد بعد انسداد الأفق السياسي في البلاد ، والتي استطاعت أن تجمع كافة الأطياف اليمنية لتصرخ بصوت مرتفع واحد : اِرحلْ

كان غسَّان أحد مكونات تلك الثورة ، عاش واقعها وخرج إلى شوارعها ، وصلى في ميادينها ، وهتف بكل ما تملكه الحالمة تعز من حنين وشجن ، وهو يعيش في خضمها ، وينام في خيامها .
لقد هيمنت أحلام فبراير على تفكيره فصارت الحرب شغله الكبير الذي نغص عليه عيشه ، وأرّق منامه .

رحلة في عالم النص :

إن أول ما يطل علينا من عالم الخيال الشاعري هو : عنوان النص فالعنوان عتبة النص . 
( كفُّ الليل ) 
والقارئ أمام هذا العنوان الذي ظلت فكرته مترابطة ترابطا عضويا مع سائر العلاقات المشتركة من لغة وعاطفة وخيال إلى آخر القصيدة تجعل القارئ يتسائل : كفُّ الليل !! ماذا يعني الشاعر بكف الليل ؟ وهل لليل جسم فضلا عن أن يكون له أيادي ؟!

والصورة هنا كما نرى تعبير مجازي استطاع الخيال الغسَّاني أن يجسّد تلك الهموم التي تجيش في صدره ولا نراها على هيئة شاخصة ماثلة أمام العيون ، وهو إنما يفعل ذلك لتأكيد الفكرة ، ولشد انتباهنا إليه . 
أي أنه بتعبير نقادنا العرب : أخرج الغامض إلى الأوضح . كما فعل امرؤ القيس من قبل حين أخرج همومه التي لا نراها في صورة حسية نراها وندركها على هيئة جمل قائم ثم أخذ ينزل بثقل وتباطؤ :

فقلت له لما تمطى بصلبه .. وأردف أعجازا وناء بكلكلِ

ولكن الذي يثيرنا في الخيال الغساني أنه سلط الضوء على الكف وحده دون باقي الجسد ! فضلا عن أن الشاعر يطلب من هذه الكف أن تحطم ! وقد تتقافز في ذهن المتلقي إزاء ذلك إشكالات !

والحقيقة أن الليل هنا ليس هلاماً ولا سديما أو لونا ، إن الليل في ثقل همومه الكثيفة وأهواله ومخاوفه التي تكاد تزهق النفس يكاد أن يكون أثقل من جبال الهملايا .
إذن فالصوت الحكيم في النص يطلب من هذا الآخر المحبط الذي كان يحلم بفجر ثورة تغييرية جديدة ، الذي كان يطمح بدولة الوحدة والقانون ، هذا الذي يرى الحرب وهي تحصد أحب الناس إليه من إخوة وأصدقاء ، أن يقوم فينتصر على أحزانه فيبدد ظلماء الكآبة ، فيأخذ بهذا الليل الذي يقلقه فيضرب به أرضاً 
خذ كف الليل واحْطِم به قاموس الوجع ! إنها صورة مدهشة ، وصورة أخرى لا تقل روعة في استخدام الشاعر : قاموس الألم !! إذ صار للوجع قاموساً خاصاً به ! وكأن هموم الآخر الثورية قد طالت به حتى استطاعت أن تكوِّن لها قاموسا فريدا :

الألم ، الحسرة ، المرض ، اليأس ، البؤس ، الاكتئاب ، الكره ، الفراق ، الخيانة، الانتحار ... ومفردات مثيرة خاصة بالوجع لا حصر لها .

واستخدام الشاعر لكلمة قاموس دون استخدام كلمة معجم فيه نوع من الذكاء والوعي اللغوي ، وهذا يدل على أننا أمام موهبة مدركة ، فالقاموس يُستخدم للكلمات الأجنبية بينما المعجم خاص بمفردات اللغة العربية ، وكأن الشاعر يقول : إن تلك المفردات التي تدل على معاني الخذلان والتراجع عن الحلم الثوري إن تلك المفردات أجنبية عنَّا ، فنحن لا نيأس ولا نعرف اليأس ، بل نعرف الإصرار والمضاء .

إن الشاعر يهيب بهذا الموجوع الواقع تحت أسر تلك المفردات أن يقوم في هذا الليل ، ليحطم خيمة الظلام ويفتح نافذة للأمل ، من خلال التأمل وترجمة ما يمليه الواجب : اصغي ليدك ، أطلق عقلك . لطالما أن عرائس الأفكار تعبر النهر . 
ونحن في عرائس الأفكار أمام صورة فاتنة استطاع الخيال الغسَّاني أن يضيف إلى المشهد القاتم من الأحزان ، صورة مضيئة أثارت في الجو ألوانا زاهية ، فالعرائس ذات الوجوه الجميلة ، والزينة المكتملة ، والروائح الزكية ، والأصوات الخلابة ، تسلب العقل . وقد استطاعت الصورة الفنية أن يشرك جميع حواسنا في تذوق هذه الصورة . 
وهي دعوة إلى استقبال الأفكار التي ترد على الخاطر والاهتمام بها ، فهي عرائس تسر العين ، وتؤنس الفؤاد ، وقد تكون طريقا إلى السلامة .

ومن الصور المبتكرة التي تحسب في رصيد الشاعر أيضاً : إكسير الدعوات . فالأكسير هو ذلك المعدن السحري الذي باستطاعته أن يحول التراب ذهباً ، والذي شاع في العصور الوسطى ، فإكسير الدعوات في خيال الشاعر هو امتداد أصوات حركات التحرر في اليمن ، منذ فجر سبتمبر ، إن الدعوات في سبيل الإصلاح السياسي كفيلة بنشر الوعي وتغيير الواقع . 
والذي يؤكد أن الشاعر إنما يقصد من استخدام كلمة الدعوات ، الدعوات إلى الإصلاح هو الشطر الثاني الذي يقول :

مَاج الْعَطَش السَّاقِي
في أَفْئِدَة القوم .

فمن همُ القوم ؟ 
إنهم الأحرار العطاش للحرية .
ولكن كيف يسقي العطش ؟ والعطش الحاجة الماسة إلى الماء ؟! 
إن الصورة هنا صورة كنائية تعني الدافع ، فالعطش إلى الحرية دافع إلى البحث عن الحرية والشرب منها حتى الإرتواء .
وليس المقصود بالعطش الحاجة إلى الماء ، فالظامئ للحياة الكريمة لا ترويه سحائب الدنيا بأسرها كما قال الفضول :

واشرب كؤوسي من الإصباح إشعاع نور
والُف بالأنداء روحي
وكم قد نمت في حضن الغمام
إنَّما .. مكانني ضمآن .

إن غسان يجسد حلم جيل كامل طامح إلى الحرية التي كان آباؤه الأحرار يدعون لها .

لَمْلَم ريشك

فغبار الْحَرْب ينسف وحدتك

ورغبتك فِي الْمَوْت تَمُوت

ويتألق خيال الشاعر في هذا المقطع المهيب أيما تألق، فللحرب عاصفة مدمرة .. تسحق كل شيء أمامها .. تبعثر أحلام الإنسان في الهواء ، لكن صوت الحكمة الجبار يخترق أصوات العاصفة لينتشل الضحايا من تحت الركام ، ويرصف لهم طريق النجاة : 
لملم ريشك ! كأنه يقول : هيّا ياصاح بإمكانك أن تنجو .. قاوم ثم قاوم قم قاوم لا تنكسر .. لا تنهزم .. لا تستلم .. اجمع قواك وحلق في البعيد .
لكن غسان لا يعني الهرب من المباديء والقيم ، إنه يطير عن العاصفة ليعود إليها من جديد ، فيناضل للخلاص منها ، وهذا مانراه حقيقة في قوله : ورغبتك في الموت تموت !

لَمْلَم ريشك 
سَيُصَادر حُزْنك
الْعَسَس الماجورون 
يسرقون رَغِيف الْخُبْز المحمر مِن وَجَنَّة عَيْنَيك

والشاعر هنا يلفت الانتباه إلى قوى الشر الخفية التي تعمل في الظلام ، إنها مرتهنة إلى الخارج وتتقاضى أجورا لتفتيت لحمة الوطن ، وتمزيق ما يضمن العيش والبقاء ، والذي يحصل عليه الإنسان بعد عناء طويل ، العناء الذي عبر عنه باحمرار الخدود نتيجة بكاء العين أو حمرة الشمس .


في الختام :
نحن أمام تجربة واعدة جديدة ، تبشر بموسم خصب لمستقبل الشعر ، وتفتح طريقا أرحب للإبداع ، في كتابة القصة والرواية والمسرحية ، وتبقى في النص دلالات مفتوحة لقراءات أخرى ، ففضاءات النص المجازي واسعة ، وقابلة للتشكيل .

 

إلماحات :

وعلى الرغم من جماليات هذا النص إلا أن هناك بعض الملاحظات التي أخذناها على النص :

فقول الشاعر :وَتَمَنَّى مِنْ بَحْرِ مَارِق
إكْسِير الدَّعَوَات

هذا قول مبهم لا يعرف له معنى أو أنه بحاجة إلى إعادة صياغة .

أيضا قول الشاعر : مِنْ جَدَّ فِي حُزْنِه
عَن شَطّ الْحِيرَة

مِن حرف جر وحروف الجر لا تدخل على الأفعال ، فالجملة الشعرية هنا بحاجة أيضا إلى إعادة صياغة .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24