السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
الصراع بين المجتمع والشخصية:
قراءة في رواية "نزهة عائلية" للروائي بسام شمس الدين - عمار الشامي
الساعة 09:36 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

في رواية نزهة عائلية للكاتب بسام شمس الدين، تقوم العلاقة بين المجتمع والشخصيات وفقاً لصراع اجتماعي يسيطر على مجريات الرواية وبنائها، ويتفرع منه صراع نفسي يؤدي دوراً محورياً في تقديم الشخصيات في سياق الصراع الاجتماعي الأكبر، ولا سيما الشخصية الرئيسية "مأمون الجزَّار"، الرجل الأسمر ضخم الجثة، والضعيف اجتماعياً، والموصوم طوال الرواية بـ"الوضيع".

__________

الملامح النفسية والاجتماعية للشخصية الرئيسية (مأمون):

تنتمي شخصية "مأمون" إلى فئة "البَيَع" الدنيا، المحكوم عليها بالانتقاص من قِبل المجتمع اليمني الخاضع للتقسيمات الفئوية التي تُبنى عليها المكانات والأدوار. ويلتمس القارئ في شخصية "مأمون"، كيف تعبث الظروف الاجتماعية القاسية بحياة الإنسان، مقتحمةً بذلك حالته النفسية، فلا سبيل للخلاص منها خاصةً إذا فرضت الظروف قساوتها منذ الطفولة. 
وفي إطار التمييز الطبقي والفئوي في المجتمع اليمني، تتعرَّض بعض الشرائح الاجتماعية لمختلف أنواع الاضطهاد والنظرة الدونية، في حين تمنح شرائح أخرى نفسها مميزات تنفيها عن أغلبية أفراد المجتمع، وذلك يعود إلى تمسك المجتمع بالثقافة تارة أو القوانين الوضعية، وتارة بالدين الإسلامي. 
تعاني شخصية مأمون من ثلاث حالات من الصراع: 

 

- الصراع مع الذات. 
- الصراع مع المحيط الاجتماعي المصغر (زوجته زعفران وولده جابر وابنته هند). 
- الصراع مع المجتمع. 

 

ويمكن اعتبار حالة الصراع مع زوجته جزءاً من الصراع الذاتي. إذ يشكو مأمون من أن امرأته قاسية و"تخلق ضوضاء عارمة، ولا تترك له فسحةً للتفكير أو بصيص أمل، إنها متشائمة ومتبرمة بطبيعتها"(1). 
ذلك ما يجعل شكل الزواج في مجتمع أبناء الأرياف المتداخل عشوائياً، ومعرَّضاً للشروخ الواضحة نتائجها في تجربة مأمون التقليدية. "كان ذلك الزواج خبط عشواء، مثل الكثيرين من أبناء الأرياف الذين يتزوجون على طريقة الحظ والنصيب"(2). 
ذلك وإن تضمَّن سوءاً، إلا أنه يعكس حالة التكافل العامة بين أفراد الفئة، حتى وإن عاد هذا التكافل على مجموعة الأفراد بنتائج قهرية من شأنها إحداث التفكك الاجتماعي اللاحق. "في أحد الأيام اجتمع في المديرية عدد كبير من أفراد فئة البَيَع لإحياء عرس نجل كبير الجزارين"(3). وذلك يشير- من جهة- إلى وجود التكافل بين هؤلاء الأفراد، ومن جهة أخرى إلى وجود "كبير الجزارين" الذي يحوز المكانة الأكبر بين أعضاء الفئة الدنيا، والذي لا يمثّل وجوده إلا حافزاً للتكافل الاجتماعي بوصفه "كبير القوم". 
يبدو تكافل مجتمع أبناء الأرياف من فئة البَيَع تكافلاً تغلب عليه العشوائية والمظاهر: "طلب له والده يد ابنة جزار سوق الأحد، ولما كان المجلس يتحدث عن التكافل والشهامة وافق الرجل على طلب الزواج، واتفقا على جميع الشروط اللازمة لإتمام الزفاف، وكان الولد والبنت آخر من علم بأمر هذا الاتفاق"(4). 

 

من خلال ذلك يريد الكاتب تقديم فكرة أن أفراد هذه الفئة لا يمكن خروج أحدهم خارج إطارها فيما يخص شتى الأمور الاجتماعية وأبرزها "الزواج". تبقى شخصية مأمون متشبثةً بهذه الفكرة، وينقلها إلى ولده، ويربّيه على عدم محاولة الخروج عن النص والنظر إلى فوق. وفي إحدى المرات يقول الطفل "جابر" لأبيه مأمون، بلهجة منكسرة: "إن رفاقي يقولون لي إنني لا أستطيع الزواج من أخت أحدهم حتى أكبر، هل هذا صحيح؟"(5). 
 

يؤكد مأمون لولده ذلك بشكل طبيعي: "نعم، ذلك صحيح، ولكن عليك أن تجيب بأن بنات البَيَع أجمل". وحين يخبره ولده أنه معجب بإحدى بنات قبيلة "آل طعيم"، وهي القبيلة التي يعيش مأمون وأسرته من خيرها، يندفع مأمون إلى تعنيف ولده بقسوة بدافع الخوف والانتماء إلى الفئة الضعيفة، ويمارس عادته في الحط من شأن فئته: "لا تتحدث عن بنات آل طعيم، إنهن بعيدات عنك وعن أهلك بُعد النجوم التي في السماء، عندما كنت في مثل سنك لم أتأمل حذاء بنت أتفه "قبيلي" منهم، أما عينك الزائغة الخبيثة فقد وقعت على وجه بنت نقيب القبيلة، وإن زاغت مرة أخرى سأفقأها"(6). 
 

ويبدأ الصراع بين مأمون وبين مجتمعه التقليدي والمهني، منذ نعومة الأظافر: "في أول يوم لمزاولته العمل وهو في العاشرة من العمر، كان مرغماً على ذبح دجاجة، ثم خروف ثم عجل"(7). وهي مرحلة لها الأثر البالغ على نفسية الشخصية تبقى راسخةً في الذهن باعتبارها مرَّت أثناء الطفولة، تلك المرحلة الكفيلة بتشكيل الإيجابي أو السلبي من معتقدات وأفكار وسمات الشخصية الإنسانية. 
"يوم ذاك حضر لفيف من أصدقاء العائلة للاحتفال بالمناسبة، وأغلبهم من الجزارين والبَيَع. ووقف أبوه فوق رأسه بشاربه الضخم ونظراته القاسية ممسكاً مقطعة اللحم الحادة. كان الفتى يعلم أن الأداة ستبتر جزءاً من جسده إن لم يفعل"(8). 

 

هنا تتحامل الشخصية على ماضيها وصُنَّاعه الذين دفعوه إلى هذه المهنة المتوارَثة. وذلك يدخل في صميم "التنشئة الاجتماعية" التي هي من أبرز مفاهيم علم النفس الاجتماعي، وهي العملية التي يكتسب بموجبها الطفل العادات والقيم والمعايير والمفاهيم الخاصة بالجماعة، والتي من خلالها يعتمد على نفسه في إشباع حاجاته الفسيولوجية، وبالتالي يدرك معنى المسؤولية وكيف يتحملها، وتُعرف أيضاً بعملية التشكيل الاجتماعية للشخصية الإنسانية. 
 

ومع ذلك فإنه "ليس هناك في عُرف الجزارين شيء أسوأ من كراهية المهنة، أو عدم الحفاظ على التقاليد"(9). 
تقع شخصية مأمون فريسة مجتمع قبلي متفاعل تحكمه الأعراف والعادات والتقاليد والثوابت القبلية ومظاهر التعصب، التي ينبثق من جميعها الصراع "الحرب"، وفي حين لا يملك القوة الاجتماعية التي يحوزها أبناء القبائل، ويهيمن عليه الضعف أمام نفسه وأمام زوجته ومحيطه الاجتماعي، فإنه يُقحم نفسه في هذا الصراع الذي تولَّد نتيجة تمسك أطرافه بهذه الأعراف، وشيئاً فشيئاً يجد سنداً يرزح عليه في أسرة القتيل "أرحب"، نقيب قبيلة "آل طعيم"، لكونه أنقذ ابن النقيب الطفل "هزَّام" من موت محتوم على أيدي مسلحين من قبيلة "آل شهوان" يقودهم النقيب "حسُّون". 

 

في سياق الصراع بأوجهه المختلفة في الرواية، تطرأ على مأمون تحولات نفسية واجتماعية فرضت نفسها على الشخصية التي تصف ذاتها في أكثر من موضع بـ"الوضيعة"، وتعيش في "سوق الربوع" الآهل بفئتي "البَيَع" و"الأخدام" كما هو شائع أو "المهمَّشين"، الفئة الأدنى شأناً من البَيَع. 
ويبقى مأمون طوال الرواية أسير قيود الصفات التي تحط من شأنه، سواءً تلك التي يوجّهها إلى نفسه، أو التي تُوجَّه إليه من قِبل أفراد المجتمع الذين لا يعترفون بشأنٍ له، كالوضيع والحقير وعاثر الحظ، بل إن صفة "الجزار" تُعتبر ذماً وتُقرن دائماً بالوضاعة، على اعتبار أن المهنة ذاتها تتسم بالوضاعة، فيُقال: جزار وضيع.

__________

ملامح الشخصيات المساعدة:

1- زعفران: زوجة مأمون، وابنة جزار من نفس فئته، وتتسم بالنكد والتبرُّم الحاد، والخشونة من الداخل رغم جمالها، وقد اختارها والد مأمون لأنها ابنة جزار من الفئة نفسها. 
2- أرحب آل طعيم: نقيب قبيلة (آل طعيم)، يُقتل في أول الرواية على أيدي أفراد من قبيلة (آل شهوان). 
3- هزام: ابن القتيل أرحب (طفل) في بداية الرواية، يؤويه مأمون في حانوته، ويكون ذلك سبباً في تورط الأخير في مشكلات القبيلتين. يتلقَّى تدريباً مكثفاً وقاسياً لدى جده (الشيخ محسن أبو الحيد) ليصير شاباً قوياً ويأخذ بثأر أبيه من آل شهوان. 
4- ناجية بنت أبو الحيد: زوجة القتيل أرحب، سيدة تقدّس الأعراف. تثق في "مأمون" وتوكل إليه مهمة "وكيل العقارات" الخاصة بالأسرة في المدينة. 
5- سودة العجوز: شخصية مرجعية. حكيمة "الأعراف" في قبيلة آل شهوان، وعجوز ضريرة يقع مسكنها في مكان خطير فاصل بين القبيلتين. تهب "مأمون" عكَّازها قبل وفاتها. 
6- جابر: ابن مأمون. يلتحق بالمدرسة وينال شهرة بالذكاء، ويلتحق بعد الثانوية بكلية الشرطة، وينال حظوة رفيعة، ويخجل من انتمائه إلى أسرته وفئة البَيَع. 
7- النقيب ناجي آل طعيم: شقيق القتيل أرحب آل طعيم، يدخل في صراع مع مأمون الذي نصَّبته "ناجية" وكيلاً للعقارات. 
8- النقيب حسّون: نقيب آل شهوان، وقاتل أرحب. تقبض عليه الشرطة في نهاية المطاف. 
9- منتصر: حفيد القتيل أرحب وناجية، وابن هزَّام. يولد بعد موت أبيه هزَّام الذي أخذ بثأر والده النقيب، ولا يلتزم بالعادات والأعراف، ويقع في عشق ابنة مأمون الجزّار "هند". 
10- هند: ابنة مأمون الجزار، تولد وقد بلغت أمها زعفران سناً مخجلاً للحمل. تلتحق بالمدرسة، ويقع في حبها ابن قبيلة آل طعيم.

 

____________

أولى ملامح الصراع في رواية نزهة عائلية:

لفهم طبيعة الصراع في مجتمع رواية "نزهة عائلية"، يجب فهم أن اليمن- كما سبق ذكره- هو بلد الفوارق الفئوية الاجتماعية، "حيث يظهر التمايز الطبقي بصورة واضحة بين مراتب اجتماعية من الصعب تجاوزها، فتعتلي السلم الطبقي فئة السادة أو "الهاشميين"، ثم يأتي القضاة أو رجال الدين، يليهم شيوخ القبائل بعدها يأتي أصحاب الحرف والتجار"(10). 
وذلك يقضي بعدم القدرة على إحداث الحراك الاجتماعي في مجتمع كالمجتمع اليمني. ويعني مفهوم الحراك الاجتماعي القدرة على الانتقال من طبقة إلى طبقة أخرى، إما بالتقدم أو بالتدنّي. 
وفي رواية نزهة عائلية، تبرز مشكلات اجتماعية تبدأ بالمشكلة الأكبر "الحرب"، وهي المشكلة الاجتماعية التي يلتزم علماء الاجتماع بأداء دورهم إزاء تحديدها، وفقاً لعالم الاجتماع مينز (Manis 1974). إذ يَعتبر مينز الحرب مشكلة اجتماعية من الدرجة الأولى، تؤثر بصورة قوية في الظروف الاجتماعية المحيطة بها، ولها نتائج متعددة ومؤثرة في المجتمع، إلى جانب التمييز العنصري، والفقر.

 

وللحرب نتائجها الأكثر تدميراً على الإطلاق، ويمكن تلخيصها، بحسب مينز، في ثلاث نتائج، هي: الموت، والإصابة بالعاهات الجسدية، وفقد الموارد الرئيسية. وينجم عن الموت اليُتم والترمل، بينما تنجم عن العاهات الجسدية الإعالة، ويتسبب فقد الموارد الرئيسية في نقص الموارد الاستهلاكية وتزايد تكاليف المعيشة. فضلاً عن أن "التمييز العنصري"، الذي لا يقل درجةً في الخطورة عن الحرب، يتسبب في الصراع الناجم عنه الخوف وجرائم العنف، كما يتسبب في تكريس التعصب. 
وبالنظر للمجتمع اليمني، فإنه "حاول بعد الثورة التخلص من هذا الشكل التقليدي الذي صبغ وجه الحياة السياسية، ولم ينجُ اليمن المعاصر من هذا التمايز، الذي امتدَّ كشرخ سياسي- اجتماعي في الحياة اليمنية، بشكل صراعات شخصية بين المتصارعين على السلطة"(11). 

 

"واليمن له خبرة قتالية طويلة، وثقافة السلاح إحدى خصوصيات هذا البلد"، لكن "الحرب في اليمن لها قواعد وقوانين، وهذا أمر لا يعني إيجابية العمل المسلح في اليمن، بل يعني أنه سلوك يومي لا حالة طارئة"(12). 
وبشكل عام، فقد اعتقد كارل ماركس من زاوية اجتماعية اقتصادية عامة، أن الرأسمالية تشكّل بطبيعتها نظاماً طبقياً تتميز العلاقات الطبقية فيه بالصراع، وتتسم بالاستغلال، كما رأى أن صراع الطبقات حول الموارد الاقتصادية سيزداد حدَّة بمرور الوقت(13). 
ينعكس كل ذلك على مجتمع رواية "نزهة عائلية"، إذ يتلخَّص الصراع في أن حرباً نشبت بين قبيلتين يمنيتين، الأولى قبيلة "آل طعيم" وتتخذ من قرية اسمها "كازم" مركزاً لها، بينما الثانية "آل شهوان" مركزها قرية "حازم". وقد نشبت بينهما الحرب بعد أن قُتل نقيب الأولى "أرحب" على أيدي مسلَّحين من آل شهوان، أمام حانوت مأمون في (سوق الربوع). 

 

وكان برفقة "أرحب" نقيب آل طعيم، ولده الطفل "هزام"، الذي يلجأ إلى حانوت مأمون هرباً من القتل، وبالفعل ينجده الأخير، ليجد نفسه واقعاً في دائرة هذا الصراع. بعدها يستطيع مأمون، ومعه الطفل، مغادرة الحانوت والفرار إلى منزله الذي هو أحد المنازل الطينية الوضيعة الخاصة بفئة البَيَع، وفقاً للرواية. 
يتم اقتحام منزل مأمون، وأخذ الفتى من قِبل رجال قبيلته "آل طعيم". ثم يقرر مأمون الذهاب إلى "آل شهوان" لتسليم نفسه ظناً أنهم سيرأفون به. وحين يتوسله ولده "جابر" لئلا يذهب، يرد مأمون: "نحن من فئة البَيَع يا بنيّ، ومن حسن حظنا أننا كذلك، لأنهم يتعالون عن إلحاق الأذى بمن هم أقل منهم شأناً"(14).
يستمر الحط من الشأن على هذه الوتيرة كاعتراف إجباري على الذات تقبُّله والانصياع لحقيقته. وهذا ما يدفعه إلى تسليم نفسه واقتيادها إلى المجهول. وفي طريقه إلى "آل شهوان"، يلتقي مأمون عجوزاً ضريرة اسمها "سودة"، تُعرف بـ"حكيمة الأعراف" في قبيلة "آل شهوان". والكاتب هنا يحيل القارئ إلى ضرورة وجود "الشخصية المرجعية" في القبيلة اليمنية، التي تنصاع لها مروءة رجال العشائر. وفي الجانب المقابل أيضاً تتربَّع العجوز "جمرة" على رأس قبيلة "آل طعيم" حكيمةً للأعراف. 

 

وتتمثل أهمية شخصية العجوز "سودة" في كونها مؤثرةً على رجال القبائل، إذ تتمتع بالمكانة رغم أنها "عجوز غابرة عمياء تدير شؤونها وتعيل نفسها رغم ضعفها". فهي "الأم الكبرى لعائلات كثيرة، وكل شخص فيها ينتمي إليها بنسب معلوم، لهذا لم تعد تذكر عدد أحفادها"(15). 
ولا شك في أن شخصية كهذه لابد أن تتحلى بسمات تضفي إلى المكانة قيمتها: "تعرف الكثير من القرى والعشائر والطرق والأحداث الصغيرة والكبيرة، ويقول بعض الأهالي على سبيل المبالغة بأنها تعرف البحر عندما كان جزءاً من اليابسة"(16). 
ولتوضيح أهمية هذه الشخصية المعمّرة، يتوغل الكاتب في وصفها كشخصية مرجعية على خبرة تامة بالقرى، إلى حد أنها تستطيع معرفة الزمن بالتحديد بواسطة الأصوات التي تأتي من القرى والعزب القريبة، "بكاء الأطفال أو نباح الكلاب أو غناء الرعاة أو صراخ النساء، كل هذه الأصوات لها زمن تستطيع تكهنه، فالبكاء والنباح والغناء أصوات تحدث عادة في الظهيرة، حين تنشغل الأمهات بالطهي أو إطعام الحيوانات، وإذ ذاك تحس الكلاب والرعاة والأطفال بالملل والجوع، أما صراخ النساء فإنه يرتفع مع دنو الليل، حين يشعرن باقتراب اللحظات القاتلة التي يقضينها متقلبات على فراشهن البارد، بأجساد ذابلة متعبة تتوق إلى ملامسة أجساد رجالهن الغائبين، لكن أصوات المؤذنين في المساجد هي أبرز العلامات"(17). 

 

وبصورة عامة، تتكرر على لسان هذه السيدة مفردة "الأعراف"، ولا يفارق لسانها الحديث عن الأعراف التي تُنتهك. وفي طريق مأمون برفقتها هي وعدد من الأشخاص، نشبت الحرب ودوَّت أصوات القذائف. الحرب التي هي محور الرواية وقضيتها، يصفها الكاتب بقوله: "الحرب لا تجيد أحياناً التمييز بين العدو والصديق، إنها مثل الجدة سودة، عمياء، ومثلها قديمة، لم تحن بعدُ نهايتها"(18). 
وفي حين تخوض قبيلتا آل شهوان وآل طعيم حرباً طاحنة، تُرسل سودة العجوز خصلة من رأسها إلى أبناء قبيلتها آل شهوان، الذين تصفهم دائماً بـ"منتهكي الأعراف". ولقص خصلة الشعر لإرسالها إلى الرجال دلالة اجتماعية على أقصى حدود العتب واللوم، وفيها حكمة قبلية لها وقْعها الكبير مفادها أن على الأطراف أن يتوقفوا عن العبث. وهي تدخل في سياق "الأعراف الاجتماعية". 

 

لكن منتهكي الأعراف لا يلتفتون إلى مرسالها، على اعتبار أن غيرتهم قد هبطت في مستواها، وخفت مفعولها. فتنصح السيدة العجوز مأمون بالعودة إلى زوجته، لكنه يواصل طريقه التي بدأها، فقد "جاء من أجل تسليم نفسه للقبيلة آملاً أن يجد فيها قلباً رحيماً يعفو عن حماقة جزار وضيع"(19). 
ويمكن اعتبار رفض انصياع الأطراف المتحاربة يأتي من حقيقة أنها تخوض صراع "المصالح والقيم"، ولا تستعد لإنهاء هذا الصراع منذ بدايته بسهولة. فهذا الصراع يتولَّد عن "التفكك الاجتماعي" الذي يقضي بوجود قيم ومصالح متصارعة بين الجماعات والشرائح الاجتماعية. كما أن التفكك الاجتماعي يصيب قنوات الاتصال الاجتماعي بالقصور والخلل المؤثرين على أداء هذه القنوات لوظائفها بكفاءة، وتمثّل عملية "قص الشعر" قناةً من قنوات الاتصال هذه. 

 

كما أن رفض الانصياع إلى مناشدة الشخصية المرجعية، يُعبِّر عن الرغبة في إكمال الصراع نظراً لأن "المصالح والقيم" تدفع كل جماعة إلى الدفاع عن مصالحها، وبالتالي فإن نجاح جماعةٍ ما يعني وجود مشكلة للجماعة الأخرى، بحسب تحليلات الاتجاه الصراعي للمشكلات الاجتماعية، الذي يستمد أفكاره منذ ستينيات القرن الماضي من أعمال كارل ماركس. 
حتى أن الموت عند أفراد القبائل، يتخذ شكلاً مسخفاً ويُلصق بالمتحاربين صفة السادية. فعلى سبيل المثال، حين يحكي الكاتب كيف زلزل خبر مقتل النقيب "أرحب" كيان زوجته "ناجية بنت أبو الحيد"، يبرر بقوله: "فالموت بمثل هذه الحوادث ليس غريباً على الأهالي، لكن المؤلم في الأمر هو أن يُقتل نقيب شهير وسط السوق في عز الظهيرة"(20). وتتضمن العبارة استفزازاً يكمن في ترخيص دماء الأفراد الآخرين من الأهالي التي لا تصل إلى مرتبة دماء القائد الذي يؤدي موته إلى وقوع الحروب. 
يصل مأمون إلى منتهكي الأعراف من آل شهوان، بقيادة النقيب "حسّون"، ويتلقّى معاملة سيئة، "وظل معتقلاً في كهف كبير مظلم، يحرسه حارس يظل يدخل طيلة الوقت"(21). وتختلف أشكال المعاناة المستمرة التي يلقاها مأمون: "صار يُنقل من كهف إلى آخر، ويتحرك مع المحاربين من جبل إلى جبل. كانت الكهوف مليئة بالزواحف السامة والحشرات المخيفة كالعناكب والخنافس والدبابير"(22). 
ويصوّر الكاتب كيف أن الحروب لا تخلو من التكلفة المادية والبشرية، ومنها تكلفة الأسر، التي هي واحدة من أبرز عوامل استمرار الحرب أو تهدئتها بهدنة أو إنهائها. وبينما مأمون يقبع محتجزاً في كهفه "سمع آسريه يتحدثون عن الحرب الدائرة بين القبيلتين، وعن وجود أسرى من الخصوم، وعن نوع المعاملة القاسية التي يتعرضون لها"(23). وهنا يريد الكاتب تقديم صورة لمدى انحطاط النخوة لدى المحاربين، إذ تكفل أعراف الحرب للأسرى بعدم المساس بهم والإبقاء على حياتهم والتعامل معهم كرهائن لابد من إرجاعها مقابل ثمن يدفعه الطرف الآخر. لكن انتهاك الأعراف يؤدي إلى التعامل مع الحرب وفقاً لشريعة الغاب، إذ لا حدود ولا حواجز تدخل ضمن الحرب بالنسبة لمنتهكي الأعراف. 

 

وفي إطار الضعف الذي يهيمن على شخصية مأمون أثناء احتجازها والامتهان من كرامتها أثناء الأسر بوصفه من فئة البَيَع أولاً وغريماً تواطأ مع عدوهم ثانياً، يدخل شقيقا النقيب حسُّون إلى كهف مأمون: "وجعلا يسرفان في شتمه وتوبيخه، ثم وضعا نعالهما في ذقنه ووجهه وصفعاه في خديه، وهذه أقسى إهانة يمكن أن ينالها إنسان في تلك الأصقاع"(24). 
وأثناء الأسر "رأى أموراً فظيعة فعلها المحاربون، كانوا يخطفون المواشي من الرعاة، ويغتصبون الفلاحات وسط الشعاب والحقول، ويغيرون على القطعان والمحاصيل ويسرقون الحملان وأكواز الذرة ويشوونها في الليالي الباردة"(25)، وذلك ما يمثّل انحطاطاً في أخلاقيات الحرب. 
أراد الكاتب أن يمنح الحرب صورتها الفادحة، فكتب لها الاستمرار نحو عام كامل، وخلال هذه الشهور الطويلة التي أمضاها مأمون محتجزاً لدى قبيلة آل شهوان "اعتاد عليه المحاربون، ونسوا أنه أسير لديهم، وفوَّت فرصاً كثيرة للفرار"(26). 

 

وجعل الكاتب نهاية هذه الحرب مبنيةً على صلح طويل الأمد بين القبيلتين، في إشارة ربما إلى أن لكل حرب نهاية مهما طال أمدها، وستجري النهاية بأي شكل مهما بلغت غلظة محاربيها. أما مأمون، فقد كان من بين الأسرى المطلوب الإفراج عنهم. وإمعاناً في احتقار شأنه، قال له النقيب حسُّون، نقيب آل شهوان: "أنت رجل ساذج من فئة البَيَع، ولا أظن موتك سيشكل فرقاً في حياتي". وتأكيداً على مدى النظرة الدونية التي ينظر بها أبناء القبائل إلى أبناء فئة البَيَع، أضاف النقيب: "اذهب أيها الجزار، لا أريد أن ألوّث شرف القبيلة بدم فرد من البَيَع، ولا تنسَ أن تعرج على القرية لتأخذ ميراث جدتنا سودة، فقد أوصت به لك قبل أن تلفظ روحها"(27). 
وذلك توصيف حاد من قِبل ابن القبيلة الذي يرى في التعاطي مع "الجزار" حتى بالقتل مساً لشرف القبيلة. أما تذكار العجوز سودة فهو "عكّازها" وهبته لمأمون قبل وفاتها، ويبقى مأمون طوال شوط كبير من الرواية متمسكاً بذاك العكاز. 

 

وفي إطار كل هذا الصراع، لا يكفُّ الكاتب عن تذكير المتلقّي بصراع الفرد "مأمون" مع المجتمع، فضلاً عن صراع الجماعة مع الجماعة. ففي طريق عودته بعد عام كامل من الغياب، يجد بعض الأشخاص ويقول لهم: "أنا خادمكم مأمون الجزار، هل هذه الطريق تؤدي إلى سوق الربوع؟". في مشهدٍ يعكس اعتياده- بصفته فرداً من فئة البَيَع- على الحط من قدره بنفسه والتعامل مع ذلك كأمر طبيعي، إذ تحمل عبارة "أنا خادمكم مأمون الجزار" تلقائية تعبِّر- من جهة- عن صدق قائلها ورضاه عن نفسه، ومن جهة أخرى عن رغبته في الانخراط مع الآخرين بعفوية، إذ "صارت هذه الكلمات جواز مروره، يفعل ذلك عن طيب خاطر"(28). 
وحين يصل "سوق الربوع"، يجد الخراب والفوضى: "ألقى نظرة بائسة ناحية كوم من الأحجار والتراب في موضع يظن أنه يخص حانوته. كان منزله سابقاً يقف إلى جوار مجموعة تضم ما يربو على عشرين مسكناً شعبياً صغيراً، تخص فئة البَيَع، متجانسة في نمط البناء مع فوارق شكلية وفنية طفيفة، جلبت أحجارها من جبل قريب، وبنيت على طراز محلي خالص، لقد وحدت بينها الأضرار أيضاً، وطمست القذائف معظم ملامحها"(29). 

 

ومن بين القذائف التي طغت على سوق الربوع أثناء الحرب، كان أتباع النقيب آل طعيم قد أنقذوا زوجة مأمون "زعفران" وولدهما جابر، ونقلوهما إلى مركز القبيلة "قرية كازم"، وتم منحهما سكناً في القرية. 
يعود إليهما مأمون، وتبدأ زوجته زعفران باتخاذ شكل آخر من المعاملة، في سياق الصراع الثنائي بينهما. ترغب في أن ترى زوجها رجلاً صارماً وقوياً بدلاً من ضعفه الذي هو عليه: "أنتظر منك أن تكون صارماً كجزار أصيل، لقد ترعرعت طويلاً في منزل أبي، وكان إذا دخل ترتعش النوافذ، وإذا غضب وصاح نتبول في سراويلنا". وتواصل استفزازه: "أريدك أن تغضب مثل كل الجزارين"(30). 
وتحاول الزوجة في هذا الموضع ترسيخ فكرة السلطة الأبوية داخل هذه الجماعة الأسرية النووية. لكن مأمون يبدو صادقاً مع نفسه، إذ يقول منوّهاً إلى صراعه مع ذاته: "ولكني لم أشأ في يوم من الأيام أن أكون جزاراً، لم تعلمني هذه المهنة الحزم والقسوة والصفات التي تريدين أن أتسم بها، لا ينبغي أن يكون الجزارون متشابهين"(31). 

 

ويسير الحوار على وتيرة تزداد حِدَّة أكثر، وتندب زعفران حظها: "ولكني أريدك أن تكون رجلاً حقيقياً، كل النساء يحسدنني على جسدك العملاق وعضلاتك المفتولة". فيرُدُّ مأمون، بعد إدراكه أن مثل هذا الحديث سيعود بنتائج صراعية على ولدهما الطفل: "لا تتحدثي إليّ هكذا أمام جابر، إنه يمتعض ويتكدر". لكنها تواصل توبيخ زوجها وتأكيد ضعفه، وتشير إلى ولدها: "ينبغي أن يكون رجلاً لا أرنباً مثل أبيه"(32).

 

____________

التحولات النفسية والاجتماعية في شخصية مأمون:

يكون حديث زوجته زعفران كفيلاً باستفزازه للتحول، وإيقاظه من وحل الذات، فتحكم شخصية مأمون الضعيفة على ذاتها بالتغير النفسي في حدود ضيقة، وتحس- كنقطة للتحول- بضرورة امتلاك "سلاح" في مثل هكذا مجتمع قبلي دموي. ويقول لزوجته: "انظري إذا كان بحوزتك قطعة حلي، لنقايضها بسلاح ناري"، ودون تردد أو تأخير، تجيبه: "هاك القرطين"(33). 
وقبل إرسال "هزّام" نجل النقيب القتيل، إلى جبل "أبو الحيد" لتلقّي التأهيل والتدريب اللازم للأخذ بالثأر، تدفن القبيلة نقيبها بعد عام من إبقائه في الثلاجة، أما هزان فقد "أجبره الرجال أن يمسك السلاح ويطلق النار في الهواء فوق قبر والده، ما يعني أنه قادم لا محالة لأخذ الثأر"(34). وهي بقدْر من التأمل، طبيعةُ مجتمع الثارات القبلي، ويتحول "الثأر" إلى ظاهرة عندما تغيب الدولة بمؤسساتها وقوانينها وأنظمتها الفاعلة، إذ تسود الفوضى وينتشر الاضطراب والفساد في الحياة العامة، حينها يشعر الفرد أنه في مجتمع غير منظم، مجتمع ما قبل الدولة، والذي يصفه المفكر الإنجليزي توماس هوبز بـ"الحالة الطبيعية". 
وهنا، بما أن حالة الثأر تكون هي السائدة في هذا المجتمع، فإن طرفاً ضعيفاً كشخصية مأمون، عليه أن يفكر في الطرق والوسائل التي تحميه، إذ يتسم محيطه الاجتماعي بالفوضوية والخوف والرعب وعدم الثقة والمنافسة والاقتتال وعدم الاستقرار، وتربص الناس بعضهم ببعض، والإنسان بطبيعته لابد أن يكون دائم الحذر والشك والتربص. 

 

وفي دكان الأسلحة يقول مأمون للبائع الذي هو أيضاً فرد من فئة البَيَع: "أريد قطعة سلاح عملاقة تناسب جسدي"، فيرد البائع: "أظن أفراد فئة البَيَع لا يحق لهم اقتناء قطعة سلاح، لأن القبيلة تحميهم". وهنا يصرخ مأمون ويجيب: "أنا أعطيك النقود وأنت تعطيني قطعة السلاح، لا شأن لك بأي شيء آخر"(35). وفي ذلك تعبير عن أن المجتمع يسلب أفراد الفئة المنتَقَصة حقَّهم في حماية أنفسهم. 
وبعد شراء مأمون السلاح، تبدأ التغيرات تظهر عليه، إذ يستنطق حاسة العنف لديه ويبدأ بضرب زوجته ومعاملتها بقسوة غير مسبوقة. وهي بدورها "من الآن وصاعداً لا ينبغي أن تخاطب الجزار الذي تعرفه في السوق، بل ذلك المحارب القاسي الذي سكن جسده الضخم"(36). 
وهذا التحوُّل بالطبع لا يمكن نعته إلا بالغرابة، إذ ليست وحدها زوجته التي تستغرب من هذا التحوُّل المقلق، بل إن مأمون نفسه يُفاجأ بهذه القوة الكامنة التي لديه: "لقد كان يستعملها لإسقاط الثيران الضخمة أرضاً، أما البشر فإنه ينظر إليهم بتهيب وخوف"(37). لكن التحوُّل الحتمي في نفسية الشخصية ليس إلا نتيجة قهرية للأسباب الاجتماعية السالفة الذكر. 
أما التحوُّل التالي والذي يحتل قدراً من الأهمية في نفسية شخصية مأمون، فهو تعيينه من قِبل زوجة أرحب "ناجية بنت أبو الحيد" وكيلاً لأعمال العائلة في العاصمة وأميناً على عقاراتها. لكن هذا العمل الجديد يستدعي أن تكون الشخصية الأمية على علم بالقراءة والكتابة، وهذا مؤشر لثالث التحولات الهامة في الشخصية. 

 

لكن وعي مأمون بأهمية هذه التحولات، لا يعدو كونه "وعياً طبقياً زائفاً" وفق المنظور الماركسي، إذ يعني هذا المفهوم توحُّد الفرد مع طبقة اجتماعية لا ينتمي إليها وتشرُّبه بتلقائيةٍ كل ما يتلقاه من المحيط الثقافي والاجتماعي، "إلا أنه يبقى أسير وعيه الزائف لأنه لا يُخضع ما يتلقَّاه للتحليل أو النقد"(38). 
ووسط هذه التحولات في الشخصية، يعود صراع الذات ليفرض نفسه عليها. يحس مأمون بالانكسار بعد أن ينتزع منه "النقيب ناجي" شقيق القتيل أرحب، أوراق وكالة العقارات، بوصفه غريباً عن القرية. يصف الكاتب هذا الصراع الذاتي بقوله: "واتته فكرة أن يكون طاغياً جباراً في منزله، ووديعاً مسالماً عندما يجتاز عتبة بابه نحو الخارج". ولا يمضي سوى القليل من الوقت حتى يقع مأمون في حيرة بفعل هذا التناقض الذي يعيشه: "احتار بين أن يعود إلى تمثيل دوره الأول، فيكون جزاراً ذليلاً مسالماً، أو يتقمص دور الرجل الطاغي المثقل بجسد عملاق، وربما يكون مجبراً على اقتراف جريمة ما أو يطلق النار على جسد أحدهم حتى يهابه الجميع!"(39). 

 

وفي نهاية الأمر يقرر مواصلة هذه الشدة التي هو عليها، إذ أن "عليه أن ينفش شاربيه وجسده ليبدو عنيفاً فتاكاً، إلا أنه يخشى أن يرتبك وتختلط عليه الأدوار، إن هذا صعب ومرهق، وتعوزه مقدرة هائلة على التمثيل والتقمص"(40)، لتسير الشخصية وفقاً لتناقضاتها. 
إذ الصراع هنا يتمثل في التناقض أو "ازدواج الشخصية"، وهي مفهوم نفسي وليس اجتماعياً، ويتم التعبير عنه في الطب النفسي بمفهوم "اضطراب الهوية الانشطاري"، ويملك المصاب به هويتين أو شخصيتين أو أكثر، لكل واحدة أسلوبها الخاص في السلوك والإدراك والتفكير والتاريخ الشخصي والعلاقة بالآخرين، ويحدث الانتقال من شخصية لأخرى عند وجود ضغط نفسي اجتماعي شديد (41). 
ولا تجد ناجية بُدَّاً من أخذ مأمون إلى المحافظة، حيث أرادت توكيله رسمياً على عقاراتها. تلك هي الصدمة الحضارية التي تهزُّ كيان ابن الريف الذي لم يعرف المدينة طوال حياته على الإطلاق. وبينما هو في غاية دهشته من مظاهر المدنية، وبينما عرَّفته ناجية على العقارات التي يجب عليه استلامها شهرياً، "حضر المؤجّرون وتعرفوا على الوكيل الذي يجب أن يدفعوا رسوم الإيجار إليه، وراقهم جهل ودماثة الرجل الآتي من أعماق القبيلة"(42). 

 

ويبقى مأمون في المدينة بعد أن تشده مظاهر المدنية، فيصول ويجول في المدينة ويواجه صراعه الجديد مع أهاليها: "صار يعترض المارة ويخبرهم أنه وكيل عقارات ويريد أن يتعلم القراءة، ثم يسألهم أين يمكنه أن يتعلم، وقابله البعض بالضحك والبعض بالاهتمام"(43). 
ومن مظاهر الصراع الجديد الذي يلحق الصدمة الحضارية، هو أن ابن الريف "مأمون" يتعرض للنشل في المدينة الواسعة والمزدحمة: "دخل في سوق مزدحم قريب، ورأى رجلاً يعانقه ويتشبث بثيابه وكأنه يعرفه من قبل، ثم اعتذر وادعى بأنه أخطأ، واختفى في الزحام، أخذ مأمون سيارة أجرة وأفلح في إرشاد السائق إلى مكان إقامته، ولما أراد أن ينقده المال، فتش ثيابه ولم يجد شيئاً"(44). 
فيدرك مأمون أنه وقع في فخ المدينة الذي لا أحد ينصبه في القرى. "عرف مأمون أن المدن ليست مقدسة كما يظن، ورأى أنه وقع في مأزق كبير، ولن يستطيع العيش دون مال"(45). 
فيذهب ويلتحق بمحل جزارة ليعمل لديه، وهناك يعترف مأمون بأحد أبرز أسباب الصراع الذي تدور في فُلكه الشخصية، وهو كراهيته للمهنة التي انبثق منها الصراع مع الذات: 

 

- لم أذبح أي حيوان إلا مكرهاً. 
- ولكنك جزار في النهاية.
- نعم، أكره ذلك الوضع، لكنها مهنتي، من الجميل ألا تظل بلا مهنة!(46). 
وهو ردٌّ يتضمن اعترافاً مقهوراً بأن المهنة ليست إلا لأكل العيش. 

 

وبعد أن يتعلم مأمون في مركز محو الأمية بالعاصمة، يصبح قادراً على القراءة، وعلى الكتابة أيضاً بشكل مبتدئ. ثم يعود إلى القرية وقد "عرف شيئاً بسيطاً من الدين والحساب والعلوم وبعض الأناشيد الصغيرة. وأصبح في كلامه لكنة غريبة مقتبسة من لهجة سكان العاصمة"(47)، وذلك بفعل المؤثرات المدنية. 
ويستمر الصراع بين مأمون وأهل قرية "كازم"، وخاصةً مع "النقيب ناجي"، ويعبِّر الأخير عن مقته لوجود ابن فئة "البَيَع" بين أبناء القبائل في القرية: "ما أنت سوى جزار من فئة البَيَع، ولا فخر لقريتنا في انضمامك إليها"(48). 
ويتلقَّى مأمون هذه الأحقاد رغم أنه يعيش في كنف أسرة النقيب القتيل، إذ أهدته زوجته شال زوجها النقيب كعلامة على القبول والرفعة، وكي يكون له شأن بين أوساط القبائل. ولكن رغم ذلك يرد مأمون بلكنة الاعتراف المقهورة: "نعم، أنا جزار لا أنكر ذلك، أنا الصغير وأنت الكبير، فافعل بي ما بدا لك"، فيكون رد النقيب: "لا أستطيع طردك وأنت تحمل شال أخي. ولكني سأدعو القبيلة إلى الاجتماع"(49). 
يحمّل الكاتب هؤلاء مسؤولية الحرب والتفنن فيها. فبعد استدعاء عشائر القبيلة من قِبل النقيب ناجي، "كانوا يتوقعون أن تكون الحرب قد استؤنفت، لذا كان في حركاتهم كثير من الحدة والحماس، فالحرب هي الموهبة التي يشعرون أنهم يجيدونها، لا سيما أن لديهم هدفاً يقاتلون من أجله وهو الانتقام لاغتيال النقيب أرحب"(50). 
وترفض العشائر الانجرار وراء رغبة النقيب ناجي والتمرد على جزار أنقذ ابن النقيب القتيل من الموت. فيعارضون النقيب ناجي، ويبادرون بإعطاء مأمون "شيلانهم" ليحظى بمكانة رفيعة. 
وتبدو التغيرات على شخصية مأمون بفعل تعلُّم القراءة والكتابة طارئةً على المفاهيم، إذ يرغب في تدريس ابنه الطفل جابر، وهي رغبة تنطوي على خبرة بأحوال المدينة الفائقة في جودتها أحوال الريف. يحدّث زوجته بذهول القروي الذي عاد من فردوس المدينة: "أنوي أن أبعث جابر ليدرس في القسم الداخلي بالمدرسة، لقد أدركت أن الذين يدرسون يصبحون بعد أعوام معلمين يتقاضون رواتب.. هل تصدقين ذلك؟"(51). 

 

وعندما تعبِّر الزوجة عن امتعاضها، يواجهها بالحقيقة الاجتماعية: "أتريدين أن نتعفن في هذه القرية يا زعفران؟ إننا من البَيَع، ونتعرض للازدراء من رجال القبيلة، ولو تعرفين مقدار اللذة التي أشعر بها لأني أستطيع أن أقرأ"(52).

 

____________

صراع ما قبل الثأر:

بعد تلقّيه تدريبات قاسية في قلعة جده لأمه النقيب محسن أبو الحيد، يحتفل "هزّام" بزواجه، وتتم دعوة مأمون لحضور العرس: "شذّب لحيته وسوّى بحذر أطراف شاربيه الكثين. كان المقص الصغير يرتعش بين أنامله، وهو يجتث شعرتين صغيرتين لا أكثر، فالشاربان لهما مكانة كبيرة عند القبائل"(53). وهو تعبير عن الرغبة في اقتحام هذا الجو القبلي ومحاكاة سلوك أبناء القبائل الذين يعتقدون برمزية الشاربين للرجولة والشهامة. 
ويستمر الصراع الأسري مع الزوجة المتبرمة التي لا تكفُّ عن تحريضه على الابتعاد عن إطار القبيلة واستشعار وضاعته: 

 

- أتظن نفسك عريساً حتى تقف هكذا تتأمل نفسك كالعاشق الولهان؟
- أنا في طريقي إلى كازم، الناس يتجمَّلون في الأعراس، إنها أعياد صغيرة. 
- أرجو أن تكفّ عن التصابي، رجال القبائل لا يحفلون كثيراً بالمظاهر. 
- نعم، لكن يجب أن نظهر بمظهر حسن، لا ينبغي أن نقتدي بهم وبمظاهرهم الرثة. أنا وكيل عقارات...
- لمَ لا تكون وضيعاً مثل كل البَيَع وتنأى بنفسك عن رجال القبائل؟ لم نلق منهم سوى المشاكل. 
- ستظلين متبرمة حتى لو عشنا في الفردوس. 

 

وانسحبت من أمامه حين رأت عرق الغضب يرف فوق أنفه الضخم، فترك المرآة ومضى يبحث عن زعفران ليفرغ فوق رأسها غضبه الشديد(54). وهي النزعة إلى تأكيد الذات على حساب الآخر. إذ من أسباب استضعاف الرجل للمرأة أنه ينزع تلقائياً إلى تأكيد قوته على أساس استضعاف سواه، بينما هو الآخر مستضعف من قِبل الغير. وما يعزز هذه النزعة لدى الرجل، هو قبول المرأة بدور المستضعفة. 
وبعد زواج النقيب هزام من ابنة خاله ناصر (سارية)، "صارت النساء في السوق يهمسن أن هناك ثمرة في رحم امرأة النقيب هزام، وأن جدته ناجية بنت أبو الحيد تأمل أن يكون ولداً ذكراً"(55). وبعدها يشق النقيب هزّام طريقه نحو الثأر لأبيه من آل شهوان، ويذهب إلى مأمون طالباً منه أن يدله إلى أوكار آل شهوان الجبلية، حيث اعتُقل مأمون لعام كامل. 
وقبل مغادرته منزله للذهاب مع النقيب هزام حيث القدر المجهول، يكتب مأمون وصية لزوجته زعفران وولده جابر "بعد غرقهما في السبات، وأشار إلى موضع ماله النقدي ومقداره. نظر إليهما بكثير من الحنين، لم يكن يتوقع أنه في يوم من الأيام سوف يتركهما ويذهب في مهمة خطيرة وقد لا يعود منها سالماً. خاطب جابر النائم موضحاً أسباب غيابه: "افخر بأبيك دائماً، لأنه أول قارئ في فئة البَيَع. ولا تلقِ عليه أي لوم لأنه مضطر إلى فعل ذلك، إنه القدر الذي ربط مصيرنا بمصير هذه العائلة المنكوبة"(56)، في إشارة منه إلى عائلة آل طعيم. 
وتتضمن وصية مأمون ثلاث نقاط أساسية يمكن أيضاً وصفها بالاعترافات الضمنية، الأولى هي استشعار مأمون للخطر الذي هو مُقبل عليه، ومع ذلك يلبّي نداء "هزّام" رغم ما ينتظرهم من خطر، والسبب يتمثل في النقطة الثانية: إدراكه أن مصيره ومصير أسرته ارتبط أو تم ربطه بأسرة آل طعيم الموصوفة بـ"المنكوبة"، ثم إنه، وهي النقطة الأخيرة والأهم، يحاول أن يبرّر كل ذلك لولده، ولا ينسى أن يوصيه بالاعتزاز بأبيه فقط لكونه أول قارئ من فئة البَيَع، وهي وصية من يدرك أن لا شيء آخر يجعله مصدراً للفخر. 
"لقد جعله حظه السيء يقف في قلب الأماكن التي وقعت فيها الأحداث المهولة التي عاشتها القبيلة، وكلما تنفس الصعداء إثر عناء سابق، أو أحس بالفرح بنجاته إثر حادث، سرعان ما يعصف به حدث جديد وخطر محدق"(57). 

 

أما هزَّام، فقد "قرر أن يفعل ما يفعله الرجال في القبيلة، حين يمضون في طريقهم نحو الحرب دون أن يقولوا لأهلهم وداعاً"(58). وقبل ذهابه، يمنع هزام نفسه من تبادل أي مشاعر مع زوجته عند وداعها، لأن ذلك يُعتبر أحد العيوب الاجتماعية لدى القبيلة: "انتابه بعض الشجن وأراد أن يبدي بعض الود من قبيل الوداع، إلا أن هذه المشاعر غريبة ومستهجنة في هذه المجتمعات الجافة العواطف، بل تعتبر عيباً من عيوب الرجال"(59). وتضاف هذه إلى سمات المجتمع القبلي التي تناولناها آنفاً. 
يذهب الاثنان ويطلق هزام النار من مكان بعيد على من كان متواجداً في عرس تحييه قبيلة آل شهوان، ويقتل اثنين من قتلة "أرحب"، ويصيب النقيب حسّون بطلقة في رأسه، وتكون فاتحةً لنشوب حرب أخرى. يستطيع مأمون النجاة بنفسه بمساعدة هزام الذي يحامي عنه أثناء هربه من جهة، ويواصل- من جهة أخرى- قتال آل شهوان الذين تداعوا من كل مكان، ويُقضى عليه. 
"وعادت بوادر الحرب تحوم في الأفق، لكنها لم تقع، لأن القبيلة المعادية (آل شهوان) كانت في حالة إحباط، ففي هذا الحادث أصيب قادتها، وجُرح قرابة عشرين من محاربيها، ولم يتحدث أحد عن فقدان حياة النقيب هزّام، بل زغردت ناجية بنت أبو الحيد بفرح، وكأن ذلك اليوم هو يوم زفافه الحقيقي. وخرجت إلى وسط قرية كازم مرفوعة الرأس، تتحدث إلى الناس، وما زالت تنتظر خبر موت القاتل لتخلع ملابس حدادها السوداء، وتمارس حياتها بشكل طبيعي كما كانت من قبل"(60).

 

____________

صراع ما بعد الثأر: 
تربّي "ناجية بنت أبو الحيد" حفيدها (منتصر)، وتذهب به إلى امرأة قحطانية انتشر صيتها على أنها تتنبأ للمواليد عن طريق الأحلام. وبعد ذلك، تتنبأ هذه بأن الحفيد لن يكون- عندما يكبر- نقيباً، وسيكون مشرداً في الشوارع ويعشق ابنة أحد البَيَع ضخم الجثة. فتصاب بالهلع، وتستدعي "مأمون" الذي لا وجود لضخم الجثة مثله في سوق الربوع، وتستفسر عن وجود ابنة لديه من عدمه، فينفي. وفي وقت لاحق، يُفاجأ بأن زوجته "زعفران" حامل في هذا السن، فيتجهم وجهه، ويبقى خائفاً من المجهول. 
وفي ذلك إفادة بأن المجتمع القبلي يقدس المعتقد ويتمسك به، إذ يدخل سلوك "قراءة المستقبل" ضمن المعتقدات الثقافية التي تؤثر على البنى الاجتماعية وعلى سلوكيات الأفراد، ولا مناص من تغيير ما جرت عليه العادة إذ تتحول إلى ثقافة. 
وينجب مأمون ابنته "هند"، وبعد أن تبلغ سناً يؤهلها لدخول المدرسة "بدأ جسده يحمل التغيرات المصاحبة للشيخوخة"(61). 
وبعد مرور سنوات، تطلب ناجية من مأمون أن يذهب بحفيدها إلى أخيها "ناصر" ليتلقى التأهيل، وعندما يستغرب مأمون، ترد عليه ناجية: "لن أتخلى عن هذا العُرف"(62). 
"أليس من الأنفع لو يسجل في المدرسة؟"، يقول مأمون، وكأنه يريد استعظام سلوكه إزاء ولده الذي أرسله للدراسة في المدينة وهو من فئة البَيَع، أمام جهل هؤلاء القبائل. 
فتقول له ناجية وقد "تلبد وجهها بالسواد وصرخت بغضب: هل أتخلى عن الأعراف في آخر المطاف؟ لابد أن يلقى تدريباً شاقاً، أريد أن أرى على جسده كدمة أو علامة ما كالنقباء، ينبغي أن يتحول بياض جسده إلى سمرة شديدة. هيا اذهب والفتى الأبيض، لا أريد أن يعود ليطارد النساء، أو يعشق بنات البَيَع"(63). 

 

ويتضمن هذا التنديد سمات الأعراف التي تحاول ناجية الحفاظ عليها، كجزء لا يتجزأ من حياتهم: التدريب الشاق- الكدمة (العلامة) على الجسد- السمرة الشديدة بدلاً من البياض- عدم الاهتمام بالنساء- عدم الانخراط في مجتمع البَيَع.. وكلها- من المنظور القبلي الخاص- سمات الرجولة، أو ما يجب أن يكون عليه الرجل. 
وما كان من مأمون إلا أن "خرج مندحراً منكمشاً، وهو يحسُّ بخجل كبير من التلميح، ورغم ذلك قام بالمهمة على أحسن ما يجب"(64). 
لكن "منتصر" الحفيد يعود إلى قرية كازم، دون أن يكون قد تلقَّى تأهيلاً قاسياً، ويبدو غير صالح للنقابة، ويفضّل الركض خلف رعاة الإبل والمواشي في النهار، والصدح في المساء "بالأغاني الشعبية التي يمارسها الأخدام، والعزف على الشُبَّابة (آلة موسيقية تنفخ بالفم وتصدر عنها أنغام الحِداء الحزينة)"(65). 
وفي ذلك تجسيد للتمرد عن مذهب القبيلة وأعرافها، بالشكل الذي يمس سيادتها. فمنتصر- حفيد النقيب القتيل- لا يخرج فقط عن حكم القبيلة، بل يقع في حب "هند" ابنة الجزار، ويلتحق بالمدرسة ليكون قادراً على رؤيتها، "وشاع الخبر بأنه يعشق بنت الجزار، ويغزو أكواخ البَيَع والأخدام من أجل المتعة والمبيت"(66). 

 

وذلك يعني أن نبوءة السيدة التي تقرأ مستقبل المواليد قد صدقت، وكأن الكاتب أراد تبرير انجرار أفراد القبائل نحو هذه المقدسات الثقافية، لكونها تتحقق بالفعل. 
وتستدعي ناجية مأمون الجزار إليها: 

 

- هل أسأت إليك يوماً؟ 
- (أجاب بانكسار): لا، حاشاك من أي إساءة، وسأظل خادمك الأمين. 
- أرجو ألا تدع ابنتك تقترب من حفيدي الطائش، أنت تفهم ما أعنيه، هذا مخالف للأعراف.
- نعم، نحن من فئة البَيَع، ويجب على هذين الطائشين أن يدركا ذلك. 
- افعل ذلك من أجلي. 
- أنا خادمك(67). 

 

وأن يحب ابنُ القبيلة فتاة أدنى منه شأناً في المراكز الاجتماعية، فذلك يعني اختراقاً للأعراف هو الأكبر والأكثر خطورةً على الإطلاق. هنا تطغى الفوارق الاجتماعية التي أحدثتها الأعراف، في مجتمع ليس ممكناً فيه أن يتقارب اثنان من بعضهما وهما ينتميان إلى فئتين مختلفتين، وهذا التعنيف الذي وجده مأمون من ناجية كان دافعاً إلى صراع ذاتي أولاً: "كان يحزُّ في نفسه أن يظل آل طعيم يذكرونه بوضاعة فئته". ثم دافعاً إلى صراع مستحدث بينه وبين ابنته، في محاولة منكسرة لمنع هذا التقارب، فيخاطب ابنته: 
 

- لقد استدعتني ناجية بنت أبو الحيد، لأنها ترفض أن يقال إن حفيدها مهتم بابنة جزار وضيع. 
- وهل أنت كذلك؟ 
- نحن وجهاء لدى أنفسنا، وسنظل كذلك، لا يهم ما يقوله الناس عن فئة البَيَع، إنهم يحترمونني كثيراً كإنسان طيب، لكني على رغم أنفي أنتمي لفئة البَيَع. لا أدري لماذا تنتهك الأعراف الحسنة، وتبقى الأعراف السيئة دون مساس(68). 

 

هذا الاحتجاج يكنّه مأمون دائماً في ضميره، إلا أنه أمام ابنته يظهر بأقصى درجات الضعف والرغبة في الانفجار، إذ لا يقبل بانتهاك الأعراف التي لا ينتمي إليها وليست له ولأسرته، وفي الوقت ذاته لا يرضى عن هذه الأعراف من الأساس. 
تستنكر هند ضعف والدها أمام هذه العائلة، وتحثه على تركها إذ "يظنون أن بوسعهم إذلالنا في أي وقت يحلو لهم ذلك"، لكن والدها يبرر تمسكه بالعائلة بلهجة مازوشية: "لقد عشت طويلاً في خدمتهم، وقد تغلغلت أفضالهم في أجسادنا، وكذلك أتت مشاكلنا وأحزاننا معهم، إننا على ما يبدو مرتبطون وإياهم بخيوط لا نراها، ولا نستطيع أن نقطعها دون سبب بارز"(69). 
إن الحب يأخذ شكله الدراماتيكي القاسي من جانب العاشقين، في المقطع الذي يقول إن مأمون "أحاط منزله بالأشواك وبقطع صغيرة من الزجاج المكسور" ليمنع منتصر من الاقتراب للقاء هند خلسة في الليل أمام نافذتها كما جرت عادتهما سراً، "وفي الصباح كانت آثار الدماء على الأرض، ممتدةً بشكل متعرج من جوار النافذة التي يتناجيان عندها إلى سور الفناء. رأى لطخات من الدم على أحجار السور، وأحس بالرهبة، ربما تكون ابنته قدر رأت فتاها ينزف متألماً، ثم يفارق المكان مترنحاً، بينما لا تستطيع أن تفعل شيئاً لمساعدته"(70). 

 

ويبدو الكاتب تقليدياً في هذه الناحية، إذ يصوّر مشهداً غرامياً ورد في كثير من الروايات الرومانسية، إلا أنه يُسقط قضية الحب في هذا المشهد على المجتمع القبلي المتعصب بطريقة تجعل من هذا الحب حقيقةً، ومشكلةً نفسية اجتماعية تُلحُّ على حل. 
وهند هي فاعل أول في الصراع الناشئ في أسرة مأمون، أما الفاعل الثاني فهو جابر، ولده، الذي يصبح شاباً مشهوراً بذكائه وينال درجة تعليمية رفيعة، ويحصد المراكز الأولى على مستوى المحافظة حتى نال في الصف الأخير من المرحلة الثانوية المركز الرابع على مستوى الجمهورية. 
ردة الفعل التي صدرت عن أبناء الأرياف عكست مقدار النظرة الدونية تجاه أبناء البَيَع: "هذا الأمر ترك صدى واسعاً في المديرية، وإن كان غريباً وغير مفهوم. ورغم ابتهاجهم بأي إنجاز يُحسب للقبيلة، إلا أنهم يفضلون ألا يُحسب هذا المجد لأحد البَيَع"(71). 
وبعد مرور أربعة أعوام، ينال جابر حظوةً رفيعة في الأرجاء، إذ "تخرج من كلية الشرطة وحصل على المركز الأول في دفعته ومُنح وساماً ونيشاناً على صدره قلده إياه وزير الداخلية"(72)، وقد أراد الكاتب بذلك أن يشهد على أن التقدم الذي يحققه ابن فئة البَيَع قد لا يستطيع أحد من أبناء القبائل تحقيقه.

 

تنقلب الأحوال في العزلة، ويتحوَّل "الملازم جابر مأمون" إليها ليخدم فيها، "وبات والده يشهر العكاز في وجوه رجال القبائل أكثر من السابق، وصار هناك من يتودد إليه ويناديه بالكنية "يا أبو جابر"، وفي هذه الأثناء "أدركت ناجية أنها باتت أقل شأناً بعدما خسرت عائلتها مركز النقيب"(73). لكنها، وبعد أن ماتت "الجدة جمرة" التي كانت حكيمة الأعراف لدى قبيلة آل طعيم في كازم، نُصّبت خليفة لها، لكون ناجية أكثر من يفهم في الأعراف، "وهذا ما أعاد إليها بعض النفوذ"(74). 
إلا أن جابر، وبعد أن يتبوأ منصب مدير الأمن، يتغيَّر نحو أبيه ويستعرُّ منه، ويطرده من مكتبه لكونه "جزَّاراً". ومن هنا يبدأ صراع- آخر- مع الابن الذي يرى نفسه قد تفوق في أوساط المجتمع، ونال مكانة لا يجدر الاعتراف بالبَيَع بعد نيلها. 

 

وفي حياة الحرب التي لا تنتهي، إذ لا تهدأ حرب إلا لتُقرع طبول أخرى، يُستحدث صراع قبلي آخر. 
إذ ينتشر خبر سقوط سيارة النقيب "ناجي آل طعيم" أسفل منحدر مخيف وموت كل من فيها. ثم يُعلم أن الفاعلين من آل شهوان، وقبل أن يصعد آل طعيم إلى الجبال لأخذ الثأر، تبعث "ناجية" الداعي القبلي إلى رؤساء آل شهوان، ويُفسّر الكاتب "الداعي القبلي" بأنه رسالة احتجاج واحتكام إلى الأعراف تُبعث من قبيلة أو فرد إلى قبيلة أو عشيرة أخرى، ويأتي هذا لرغبة الطرف المعتدى عليه للحوار والخروج بحلٍّ يرضي الطرفين. وتنتظر ناجية ورجال قبيلتها رد آل شهوان. 
بعد أيام، تُرتكب جريمة أخرى في السوق، ويقُتل رجل خمسيني هو "عاطف شرهان" أحد وجهاء آل شهوان، ويحقق "جابر مأمون" في القضية، ويتبيَّن أن النقيب حسّون نقيب آل شهوان، هو الذي يقف وراء حادثة القتل. 
إذ كان عاطف شرهان قد اعترض على عزيمة حسّون على شن الحرب ضد آل طعيم، وقال حسون إنه وعشيرته لا يفخر بالقتال في صف حسّون الذي "يقاتل في الأسواق وينصب الكمائن في الطرقات، وأيد رجال العشائر أقواله"(75). حينها لم يكن من حسّون إلا الانتقام من العشائر وبدأ بـ"شرهان"، لكن العشائر تداعت وقررت عزل حسون وأعلنت البراءة منه، وصار ملاحقاً من قِبلهم ومن قِبل آل طعيم، لقتله، وفرَّ وأعوانه إلى الجبال. وهناك، دخل حسّون وأعوانه في صراع مع رجال الأمن الذين أرسلهم "جابر مأمون" للقبض على حسون. وبعد مدة، تم القبض على حسون بواسطة "مأمون" الذي تمت ملاحقته من قِبل أعوان حسون ليستدرجهم بدوره إلى مخفر الشرطة. 

 

وقبلها كان مأمون قد فكَّر في الانتحار وإيقاع نفسه في بئر نتيجة المعاملة السيئة التي يلقاها من ولده جابر، إذ لم يكن مسموحاً لمأمون الدخول إلى مخفر الشرطة بتوجيهات من ولده. 
تختفي هند، ويفطن مأمون إلى أنها "فرَّت وحبيبها منتصر. لا ريب أن الناس سيجدون من موضوع فرار ابنته ومنتصر الموضوع الأبرز الذي يتحدثون عنه. لن يجد ما يفخر به بعد اليوم"(76). 
ويحاكَم النقيب حسّون في المحكمة في المدينة، ويقترب النطق بالحكم عليه، وهو ما لا تريده حكيمة الأعراف "ناجية"، التي تريد الثأر لمقتل زوجها "أرحب"، فمحاكمة حسّون تقتصر على قتله "عاطف شرهان" ومحاولة قتل "مأمون". 
لذا فهي تلجأ إلى عشائر قبيلتها آل طعيم، وتقوم بالعادة القبلية التي تثير حميَّة أبناء القبائل، وهي قص الشعر. "ورآها المئات من محاربي القبيلة وهي تقص خصلات شعرها البيضاء، حتى لم تترك شيئاً يغطي جمجمتها الكروية، ثم جعلت تنثرها أمامهم كصوف الخروف، وهنا ثار الجميع"(77).
ورغبةً منهم في انتزاع الغريم من أيدي الحكومة، وتخطي حواجز مدينة صنعاء المحصَّنة، اقترح أحدهم- وهو ساعي القبيلة- القيام "بنزهة عائلية إلى المدينة، ففي هذه الحالة سوف يُفتَّش الرجال، ويسمح بمرور ما عداهم، ففي أعراف الشرطة لا يتم تفتيش العائلات المؤلفة من الوالدين والأطفال"(78). 

 

ويقصد الكاتب إقحام "الأعراف" حتى في المنظومة العسكرية الحكومية المسماة بـ"الشرطة"، وفي ذلك إشارة إلى أن الأعراف لابد أن تدخل في تفاصيل الحياة الاجتماعية بحكم أن اليمن هي تجمُّع بشري للقبائل الذين لا يخرجون عن طوق العُرف والسائد، على صعيد الدولة والمجتمع على حد سواء. 
في الطريق يعترضهم الملازم جابر مأمون، "ولاحظ ارتباك وقلق النساء وانتفاش أثوابهن، وانكسار نظراتهن للأسفل"، وبينما موكب خمسين سيارة متوقف بشكل قسري، وبينما جابر يعتقد أنهم يخططون لشيء، صاحت حكيمة الأعراف ناجية: "ماذا تريد يا ابن زعفران؟ لماذا تحتجز نساء القبيلة وأطفالها؟ سيلصق بك العار كما لصق بوجوه منتهكي الأعراف"(79). 
بعدها يفتح رجال الأمن الحاجز من أمام الموكب ليسمحوا له بالتحرك صوب المدينة، ويصيح جابر: "ماذا تفعلون أيها الحمقى؟ في حوزتهم سلاح، إنهم ينقلون الحرب إلى العاصمة، لأنها أهملتهم طويلاً، لم تتحولوا إلى جنود أمن بعد، مازالت أعراف القبيلة تسري في عروقكم"(80). في استعراضٍ لملامح الهوية القبلية، التي تنتمي إلى الدولة لكنها لا تقضي على مبادئها العرفية. 
وبدخول الموكب إلى المدينة، يكون دور مأمون قد انتهى في الرواية، إذ كان "جابر" قد عمد إلى إقصاء والديه من الموكب وإبقائهما في قسم الشرطة. 

 

وتحدث في المدينة حالة استنفار أمني من جميع الجهات المعنية، ورغم ذلك يستطيع الموكب القبلي الولوج إلى العاصمة والعبور إلى شارع السجن المركزي، وهناك تقع مجزرة، ويصل جابر متأخراً بعد وقوعها، وقد تكالبت دوريات الشرطة والحواجز حول المكان. وبعد ذلك، تتفشى رائحة لاذعة مخدّرة في كل أرجاء المبنى نشرتها السلطات التي "لن تتردد في قتل كتيبة من جنودها لتبرر للعالم أنها تكبدت خسائر، ولم تجد حلاً آخر سوى تصفية المهاجمين"(81). فيضطر جابر للهرب على إثر ذلك الغاز السام. 
وبينما هو هارب بحالة سيئة، يمرق جابر من حي قذر يسهب الكاتب في وصف قاذوراته وبيئته العشوائية، وعند باب منزل وضيع، بحسب وصف الكاتب، يرى جابر أخته هند وهي حامل، ثم يرى زوجها منتصر، ويريد اللجوء إليهما ويقترب مترنحاً إلى شقيقته بتوسُّل، ثم يقع على الأرض فاقداً الوعي أمامهما، ويهبّان لإنقاذه، ويستعينان بالجيران الخائفين: "فخرجوا كالنمل من أبواب الأقبية والمنازل الصغيرة، وحملوا الضابط المريض بعيداً عن الحي القذر". وتلك كانت العبارة الأخيرة في الرواية.

 

____________

نتيجة:

1- تضمنت رواية نزهة عائلية جملة من الصراعات النفسية والاجتماعية، تقدَّمتها الحرب والثارات القبلية، التي تُعتبر الشكل الأفدح من أشكال الصراع. 
2- واجهت شخصية مأمون ثلاث حالات من الصراع: الصراع مع الذات، الصراع مع المجتمع المصغر (الأسرة)، والصراع مع المجتمع الكبير. وواجهت الشخصية خلال هذه الصراعات عقبات غير محلولة. 
3- أبرز أسباب الصراع بين المجتمع والشخصية في الرواية، هو انتماء شخصية مأمون إلى فئة البَيَع الأقل شأناً في المجتمع، وخوضها غمار علاقة غير متكافئة مع أبناء القبائل. 
4- يبرز "انتهاك الأعراف" كسبب رئيسي لاستمرار الصراعات على اختلافها في الرواية. 
5- الانتماء إلى فئة البَيَع، أو أي فئة منتقص منها اجتماعياً، لا يعني عدم القدرة على الوصول إلى المراتب العليا في شتى نواحي الحياة. 
6- لم يعالج الروائي بسام شمس الدين الصراع بين المجتمع والشخصية، ولم يقدّم حلاً للمشكلة الاجتماعية "الانتقاص من أبناء فئة البَيَع" في المجتمع اليمني، واكتفى بتقديم صورة جزئية عن واقع الصراع الاجتماعي الطبقي في اليمن. 
7- الرواية، وإن كانت من وحي خيال الروائي، إلا أن أحداثها سارت وفق معطيات واقعية، لذا فقد قدَّمت صورةً مقاربة للواقع لم يتحيَّز فيها الروائي لأي طرف ضد الآخر.

 

خاتمة:

في الختام نشير إلى أهمية إجراء دراسات معمقة على "فئة البَيَع" كجزء فاعل من المجتمع اليمني تُرتكب بحقه جريمة الانتقاص، كما نشير إلى ضرورة إجراء دراسات حديثة حول المشكلات الاجتماعية الناجمة عن الصراعات القبلية في اليمن.

 

____________

الهوامش:

1. الرواية، ص12. 
2. الرواية، ص12. 
3. الرواية، ص13. 
4. الرواية، ص13. 
5. الرواية، ص89. 
6. الرواية، ص90.
7. الرواية، ص13. 
8. الرواية، ص15. 
9. الرواية، ص15. 
10. منى صفوان، الوجع اليمني صراع اجتماعي لا سياسي، مقال منشور في جريدة الأخبار اللبنانية، 3 يناير/ كانون الثاني 2014. 
11. منى صفوان، المرجع نفسه. 
12. منى صفوان، المرجع نفسه. 
13. أنتوني غِدِنْز، علم الاجتماع، ترجمة الدكتور فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط4، ص69. 
14. الرواية، ص14. 
15. الرواية، ص18. 
16. الرواية، ص18. 
17. الرواية، ص28. 
18. الرواية، ص26. 
19. الرواية، ص34. 
20. الرواية، ص47. 
21. الرواية، ص36. 
22. الرواية، ص36. 
23. الرواية، ص37. 
24. الرواية، ص37. 
25. الرواية، ص37. 
26. الرواية، ص38. 
27. الرواية، ص39. 
28. الرواية، ص41. 
29. الرواية، ص42. 
30. الرواية، ص52. 
31. الرواية، ص52. 
32. الرواية، ص53. 
33. الرواية، ص54. 
34. الرواية، ص55. 
35. الرواية، ص57. 
36. الرواية، ص59. 
37. الرواية، ص59. 
38. محمد بوبكري، الوعي الزائف يحول دون الإبداع والتحوُّل والتقدم، مدونة اليوم 24 الإلكترونية.
39. الرواية، ص65. 
40. الرواية، ص66. 
41. سلاهب طالب الغرابي، تناقضات الشخصية الازدواجية بين علمي النفس والاجتماع، مقال منشور في موقع الزمان، 13 أغسطس/ آب 2016. 
42. الرواية، ص69. 
43. الرواية، ص71. 
44. الرواية، ص71. 
45. الرواية، ص72. 
46. الرواية، ص72. 
47. الرواية، ص73. 
48. الرواية، ص73. 
49. الرواية، ص74. 
50. الرواية، ص74. 
51. الرواية، ص75. 
52. الرواية، ص76. 
53. الرواية، ص145. 
54. الرواية، ص146. 
55. الرواية، ص147. 
56. الرواية، ص148. 
57. الرواية، ص149. 
58. الرواية، ص150. 
59. الرواية، ص150. 
60. الرواية، ص155. 
61. الرواية، ص164. 
62. الرواية، ص165. 
63. الرواية، ص165. 
64. الرواية، ص165. 
65. الرواية، ص167. 
66. الرواية، ص167. 
67. الرواية، ص168. 
68. الرواية، ص168. 
69. الرواية، ص169. 
70. الرواية، ص171. 
71. الرواية، ص172. 
72. الرواية، ص173. 
73. الرواية، ص174. 
74. الرواية، ص175. 
75. الرواية، ص182. 
76. الرواية، ص189. 
77. الرواية، ص193. 
78. الرواية، ص194. 
79. الرواية، ص197. 
80. الرواية، ص198. 
81. الرواية، ص204.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24