الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
منثور الحكم تمهيد (مقدمة التحقيق) - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 16:24 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

للصوفية حالات روحية لا تمكن مقاربتها بالمنطق، ولا دخل للعقل بها، ذلك أنها حالات تتسم باللاموصوفية على حد تعبير وليم جيمس، واللاموصوفية ضرب من الإدراكات يصعب التعبير عنها بالكلام، وهي ترتبط بخصيصتين تؤثران كثيراً في رؤيتهم للأشياء، وطرائق الحكم عليها والتعامل معها، وأولها المعرفية فرغم أن اللاموصوفية حالة تتمركز في اللا شعور إلا أنها مع ذلك حالة معرفية يتمكن خلالها الصوفي من النفاذ إلى أعماق لا يمكن للعقل النفاذ إليها وهو ما عبَّر عنه الغزالي واضع أسس المنهج العرفاني الصوفي بقوله "أقبلت بهمتي" على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليّ من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم... وحصَّلت ما يمكن أن يحصّل من طريقهم بالتعلم والسماع، فظهر لي أن أخَصّ خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات" أما ثانيتهما فهي الانفعالية، والانفعالية ليست حالاً واحداً. بل هي أحوال كثيرة تمر بهم لا تكاد تنشأ حتى يشعر صاحبها بأنه مأخوذ بقوة لا يستطيع مقاومتها، أو التغلب عليها، هذه الحالات يمكن تتبعها في رفض ما يسعى الناس بكل ما في وسعهم للحصول عليه، مثل المال والوظائف العليا والوجاهة الاجتماعية، كما تتمثل تارة في المحو وهو ضرب من الانخطاف وفقدان الحواس، أوالانزواء وعدم الرغبة في الظهور، وتارة أخرى في تدفق الواردات التي تأتي أكثر ما تأتي في صيغة كلام إشاري أو كشوفات ذات طبيعة خارقة.
اللاموصوفية ومتلازماتها من عرفانية وانفعالية سوف تُضَمّنُ نفسها في حياة المتصوفة اليمنيين منزاحة من دلالات اشتغالاتها الأساسية إلى ساحات وميادين أخرى كانت تؤثر في نواح كثيرة على رأسها القضاء والفتوى. متخالطة بما تراكم من تراث الزهاد والنساك الأوائل، وكان ذلك يحدث في ظل انعدام الحدود الفاصلة بين الاشتغال بالتصوف والاشتغال بالعلم، وهو ما فطن له الشرجي في كتابه "طبقات الخواص" حين قال:" غالب علماء اليمن أهل صلاح وزهد وولاية، كالفقيه إبراهيم الفشلي والفقيه أحمد بن موسى بن عجيل، والقفيه أبي بكر الحداد، والفقيه إسماعيل الحضرمي، وغيرهم، ولا تنافي بين أهل العلم والتصوف عند من له أدنى معرفة وعقل، إذ لا تصوف إلا بعلم، ولا علم إلا بعمل، وهو حقيقة التصوف، وقد كان أكابر الصوفية أصحاب علوم وتصانيف وغير ذلك، مثل الشيخ الجنيد والإمام المحاسبي والشيخ أبي طالب المكي، ومثل الشيخ أبي القاسم القشيري، والشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ عبد الله أسعد اليافعي، وغيرهم من الأكابر، فلا فرق حينئذ بين العالم والصوفي، ولا يلتفت إلى ظهور الرسوم فإنما الشأن في القلوب.
هذا توضيح لابد من طرحه قبل الولوج إلى عوالم الصوفي الكبير محمد بن عمر حشيبر وسلوكه الإنساني والمعرفي ومنتجه الكتابي، حيث جعل من التفرغ للعبادة والتأمل الصوفي الفلسفي والتفسير الإشاري للقرآن منهجاً لحياته، كما يتبيّن من سيرته التي رصدها المؤرخون وكتاب الطبقات والتراجم، وكما سنكتشف من خلال تجلياته المذهلة في (منثور الحكم)، الذي يتضمن خلاصة تجربته الصوفية وطرائق تعبيره عنها، وإشكالات التعبير نفسه حين يتمزق الحرف، وتتلكأ العبارة مرتبكة في خضم أحوال وواردات ومنازلات يشتجر فيها المعرفي باللاموصوف، كما يتضمن مواقفه من جملة قضايا حياتية ودينية أبرزها موقفه من فقهاء ومتصوفة زمنه، الذين كان يوجه إليهم سهام نقده اللاذعة بسبب ما كان يعتبره مخالفات لما يجب أن يكون عليه الفقيه والصوفي.
إن تقديم كتاب (منثور الحكم) اليوم للقارىء في اليمن والعالم كله يعدّ حدثاً استثائياً من وجهة نظري، لأهميته من جهة، ولكونه نموذجاً مميزاً للكتابة الإشارية في التصوف اليمني من جهة أخرى، ثم هو من جهة ثالثة ردٌ آخر على سؤال طرحته عليّ مجموعة من الكتاب والمثقفين اليمنيين بعد صدور (جدي على ثدي) وهو مختارات نثرية صوفية قدمها أدونيس في العدد (74) من كتاب في جريدة (أكتوبر 2004م).
وكان السؤال: لماذا لم يختر أدونيس شيئاً من شذور المتصوفة اليمنيين ؟
كان ردي يومها بكل بساطة: لأن التراث الصوفي اليمني قد ظلم وهمّش ولم يتم الاشتغال به تحقيقاً ودرساً وتقديماً، ولأنه بقي حبيس أدراجه ومعتماً عليه، ناهيك عن الحرب الشعواء التي طالته ولا تزال تطاله، فإنه لم يصل إليكم أنتم هنا كمثقفين يمنيين فكيف سيصل إلى أدونيس أو غيره، في البلاد العربية والعالم.
بعد ثلاثة أعوام من ذلك السؤال قدمت محاضرة في الجمعية الفلسفية اليمنية بصنعاء، حضرتها مجموعة من أساتذة الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والأدب إلى جانب مجموعة من الكتاب والمثقفين وكان موضوع المحاضرة (شذرات صوفية يمنية)، ما فاجأني يومها أن كل الحاضرين دون استثناء كانوا إما متفاجئين بما يسمعون، وإما متسائلين: من أين جئت بهذا ؟. 
وكانت ردة فعلهم جميعاً تعبر عما حاق بهذا التراث من تهميش واستبعاد، كما تعبر عن جهل أجيال المثقفين اليمنيين عند مطلع القرن الواحد والعشرين بالتصوف اليمني وتاريخه، فعند إطلالة هذا القرن كان العارفون بهذا التراث -حتى في الحدود الدنيا- يعدون على أصابع اليد بين دوائر النخب اليمنية المثقفة.. وكان لذلك أسباب كثيرة غير التي ذكرتها هنا، وهي أسباب بينتها بوضوح في مقدمة كتابي (بنو حشيبر.. إرث العلم وبذخ الولاية) و مقدمة دراستي عن العارف الكبير(أحمد بن موسى عجيل).
إن تقديم كتاب (منثور الحكم) للقارىء اليوم على الخلفية التي ذكرتها، هو تدشين ليقظة إزاء هذا التراث لا أظنها ستقف عند حد، وهي من جانب آخر دعم لجهود مشكورة قدمها المؤرخ عبدالله الحبشي والمحقق عبد العزيز المنصوب، إضافة إلى جهود بحثية تحاول الولوج بجدية إلى هذا المناخ المكتنز بالمفاجآت، أقصد هنا ما يجترحه الباحث الشاب علي إبراهيم العقيلي من اشتغالات أنتظر ثمارها بشوق وشغف كبيرين.
لقد كانت رحلتي مع ابن حشيبر في (منثور الحكم) من أمتع تجارب الكتابة والتحقيق التي عرفتها حتى الآن، ولن أتحدث هنا عما فعلته أثناء اشتغالي عليه فكل ذلك سيجده القارىء في الصفحات التالية حيث عرّفتْ الدراسة بالمؤلف وأسرته وتكوينه ومكانته وشيوخه وعصره، وعرّفتْ بالكتاب وطبيعة مادته وسمات أسلوبه، وتناولتْ بعض قضاياه، ووضَّحت منهج التحقيق الذي اتّبعته فيه ...الخ.
بقي أن أعترف بأن سعادتي لا حدود لها بهذا الإنجاز الذي أعتقد أنه سيسهم بفعالية في الدفع باتجاه تفاعل إيجابي أفضل مع التراث الصوفي اليمني الذي يشكِّل أهم مفردات الهوية اليمنية، والذي صار محتماً أن نعيد اكتشافه وإعادة الاعتبار له.


القاهرة 8 أغسطس 2018م.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24