الثلاثاء 16 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
ثيودور ومابيل بنت ورحلتهما في حضرموت سنة 1894 - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 14:41 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


بعد عودة الرحالة الألماني ليو هيرش إلى أوروبا ونشرِهِ تقرير أوليٍّ عن رحلته في حضرموت، قرّر الرحالة المؤرخ البريطاني ثيودور بنت وزوجته مابيل، اللذان سبق إن قاما برحلات استكشافية في اليونان والبحرين وشرق إفريقيا، بالقيام برحلة مشابهة إلى وادي حضرموت. وتؤكد مابيل بنت، التي قامت بتحرير سرد الرحلة ونشره في كتاب بعنوان (جنوبي الجزيرة العربية)*، عام 1900 أي بعد موت زوجها الذي توفي في لندن في ٥ مايو من عام1897، أن رحلتهما إلى حضرموت كانت بإيعاز من الحكومة البريطانية، فقد كتبت: "بعد رحلاتنا في جنوب إفريقيا والحبشة، طُرِح على زوجي اقتراح بأن القيام بمسح من قبل مسافر مستقل سيكون مفيدا للحكومة، لذلك عزمنا في شتاء 1893/1894 على بذل أقصى جهدنا لاختراق هذه المنطقة المجهولة التي كانت قديما مركز تجارة البخور والمر". ص105
لكن من اللافت أن الحاكم البريطاني في عدن، الذي وافق مباشرة على طلب المستعرب الألماني ليو هيرش التوغل في حضرموت، قد تردد في السماح لثيودور بنت وزوجته، اللذين لا يتكلمان العربية، بالتوجه إلى حضرموت الداخل بسبب المماحكات بين بريطانيا والدولة العثمانية التي كانت حينئذ تحكم في صنعاء، ولم يوافق على طلبهما إلا بعد أن أكدا أنه ليس لديهما نية السفر إلى اليمن أو الاقتراب منها، وبعد أن فرض عليهما تحويل رحلتهما الثنائية إلى بعثة كبيرة تضم عددا من الأفراد الذين اختارهم الحاكم البريطاني بنفسه؛ منهم المترجم صالح حسن التابع للحاكم نفسه، وعالم المساحة الهندي إمام بهادور شريف وعدد من مساعديه، وعالم الأحياء المصري محمود بيومي، وعالم نبات بريطاني يدعى وليام لنت ويحمل معه كميات كبيرة من المعدات. وقد تذمر ثيودور بنت كثيرا من تصرفات المترجم صالح، وكتبت مابيل: "تبيّن لنا أنه رجل متعصب، وهدفه الوحيد إعاقتنا وحشد الأعداء ضدنا ومنعنا من أن نطأ الأرض المقدسة، مهد الوحي، وخلال رحلتنا كان مصدرا مستمرا للمصاعب والخطر"ص107. وعبّرت مابيل بنت كذلك عن استيائهم من العالمين المصري والبريطاني اللذين فُرضا عليهم، لكثرة ما لديهم من معدات، وقد أشارت إلى ذلك قائلة: "إن الخطأ الكبير الذي يرتكبه المستكشفون في بلاد خطيرة هو اصطحابهم لجامعي الأشياء معهم، لأنهم يشكلون عائقا كبيرا ومصدر قلق إضافيا. إن التحضيرات التي يمكن أن يقوم بها هؤلاء الجامعون هي بضرورة نتيجة التخمين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يقرر ما الذي يمكن إيجاده في بلد مجهول. ليتنا علمنا بأنه لا يجب أن نحمل معنا أبدا مجرافا كبيرا ومذراة وهما الأداتان اللتان كرههما الجميع طوال الطريق، أو الحقائب التي تحتوي على كميات من النبيذ وأوعية للحيوانات الكبيرة ودستات من الأشراك والفخاخ والمصائد من كل نوع لمخلوقات لم نجدها أبدا" ص107.
وعلى الرغم من أن ليو هيرش لم يخف هويته كما فعل أدولف فون فريده، فمابيل بنت تؤكد أنهما كانا أول من وصل إلى حضرموت الداخل دون تنكر، وعبّرت عن فخرها بذلك قائلة: "كنت أنا وزوجي أول من قام، أواخر عام 1893 وأوائل عام 1894، بالرحلة إلى وادي حضرموت دون أي تخف مع عدد كبير من التابعين. وأعتقد أننا، لهذا السبب- أي لقيامنا بالرحلة علانية- تركنا انطباعا أكبر تأثيرا لدى السكان المحليين، واستطعنا أن نبقى هناك لوقت أطول، وأن نشاهد أشياء أكثر مما لو كنا قد اتبعنا أسلوب التنكر لنصل إلى الوادي. واستطعنا كذلك أن نقيم علاقات طيبة مع السكان المحليين أتمنى أن ينجم عنها نتائج مرضية في المستقبل".ص6
وفي الحقيقة، سلك ثيودور بنت وبعثته المسار نفسه الذي تبعه ليو هيرش للوصول إلى وديان حضرموت، سواء في الذهاب أو العودة، باستثناء الرحلة القصيرة التي قاموا بها من القطن إلى وادي سر لمشاهدة قبر نبي الله صالح، بعد أن تعذّر عليهم الوصول إلى قبر نبي الله هود وبئر برهوت. كما أنهم لم يستطيعوا كذلك الوصول إلى المدن الخاضعة للسلاطين الكثيريين: سيؤن وتاربة وشبام.
عادة ما تبدأ مابيل بنت في تدوين رحلاتها بسرد إجراءات الاستعداد للرحلة، ونقطة انطلاقها، والطريق الذي سلكته، وتسجل جميع الأحداث المشاهدات بشكل تفصيلي. إضافة إلى ذلك ضمنت مابيل كتابها كثيرا من الاستطرادات والاجتهادات العلمية، بدءا من تفسير تسمية حضرموت. وعن اسم المكلا كتبت: "اسم المكلا بحد ذاته يعني مرفأ، ولا يمكن استخدام المرفأ أثناء هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية، حيث تتوجه المراكب جميعها إلى رأس بروم المعروف برأس البازلت". ص108
ومثلما يفعل فان دن بيرخ وليو هيرش، تتحدث مابيل بنت هي أيضا عن التركيبة الاجتماعية التقليدية في حضرموت؛ وتقدم عرضا تقريبيا ومقتضبا لما كانت عليه في ذلك الحين. (انظر صفحتي 114 و115)
وفي الحقيقة يتبيّن لنا أن موقف سكان وداي دوعن ووادي حضرموت كان في الغالب متحفظا وسلبيا تجاه البريطانيّين ثيودور بنت وزوجته على الرغم من قول مابيل انهما تمكنا من ٌامة علاقات طيبة مع السكان المحليين، وقد عبرت مابيل عن ذلك ضمنيا في وصف تعامل سكان بلدة صيف في وادي دوعن (لأيسر)، حيث كتبت: "كان الناس في صيف سيئي الطباع جدا إلى درجة أنني قلت لصالح إن يذكرهم بأن ملكتنا لو أرادت بلدهم لكانت استحوذت عليها قبل ولادتنا، وأنهم حمقى جدا ليخافوا من عصبة صغيرة عزلاء أتت فقط لتقضي الشتاء في بلد أدفأ من بلدهم". ص133 
وتؤكد هي أيضا أن موقف السادة من الغربيين في القرن التاسع عشر كان سلبيا للغاية، وتؤكد أن السيد طاهر بن عبد الله بن سميط قام بالتحريض ضدهم بعد صلاة الجمعة، وأنه طلب ان يجلب الماء لتطهير المدينة من الكفار. ص167

بالمقابل، تشيد مابيل بنت بشخصية السلطان صلاح القعيطي، الذي استقبلهم في قصوره في القطن وشبام، وتكرس عدة صفحات لتقديم آرائه التي تختلف عن آراء رعاياه، حيث تقول: "يشتكي السلطان صلاح من تعصب وحماقة رجال بلده، وبشكل خاص فئة المشايخ التي تعارض دائما جميع محاولاته لإدخال التحسينات القادمة من الدول المتحضرة إلى حضرموت. كما أن السادة والفقهاء يكرهونه. والسادة (الذين ينحدرون من بنت الرسول محمد يشكلون فئة مبجلة في الهرم الاجتماعي في هذه المنطقة. وفي حالات متعددة لُعِن السلطان علنا في المساجد ككافر وصديق للكفار. لكن السلطان يمتلك ثروة جمعها في الهند وله ممتلكات. في الهند، ونتيجة لذلك فهو يمتلك أكثر الأسلحة أهميةً للسيطرة مقارنة مع ما يمتلكه أي شخص في دولة مماثلة". ص155 "وليس لدى السلطان صلاح رأيا نبيلا عن أبناء بلده، وقد أخبرنا بعضا من القصص عن سمعتهم لم يتم تأكيدها. وقال لنا أنه قبل أن يذهب إلى الهند كان "وغدا حراميا كهؤلاء الرجال هنا". وكان يقسم باستمرار أن حبه للأشياء الهندية والإنجليزية غير محدود. ويقول "فقط لو إن الحكومة الهندية ترسل لي طبيبا إسلاميا كنت سأدفع نفقاته. ويؤكد أن نفوذه السياسي والاجتماعي سيكون الأنفع للحكومة الهندية".
وتذكر مابيل بنت "أن السلطان صلاح المسكين كان متزوجا من اثنتي عشرة امرأة، وقد أكد لنا أن نزاعاتهن وغيبتهن جعلنه يكبر قبل أوانه، لابد أن مظهره العجوز جدا يعود إلى قلق تعدد الزوجات. وفي القطن كان لدى السلطان في ذلك الوقت وزوجتان لائقتان معترف بهما، ويحافظ على إبقائهن متباعدتين..." ص154 وكان عليه أن يختلق الأعذار للذهاب إلى شبام ليرى زوجته الأخرى.. 
ولا شك أن السلطان صلاح قد استقبل بحفاوة كبيرة البريطانيين في قصوره في شبام والقطن، ووفر لهم كل ما يحتاجونه، بما في ذلك المرشدين والخيول، بل أنه اصطحبهم بنفسه إلى بعض المواقع الأثرية القريبة من القطن، وسجلت مابيل ذلك قائلة: "بذل السلطان صلاح قصارى جهده ليؤمن سلاماتنا وراحتنا وبنزاهة تامة. ورفض بشدة أخذ أي مبلغ من المال، قائلا: لا أريد شيئا، لدي الكثير. وعندما اعتزمنا على تذويب بعض النقود وصنع هدية فضية مطلية بالذهب له سمع عن بحثنا عن صائغ مجوهرات وتوسل إلينا بجدية ألا نقوم بمثل هذا العمل؛ لقد أحب السلطان صلاح الإنجليز وطلب من زوحي فقط بأن يثني عليه أمام الحكومة الإنجليزية. ولا شك أنه لم يجن شيئا من ذلك الثناء".
ومن أهم القضايا التي أثارتها مابيل بنت في كتابها (جنوبي الجزيرة العربية): الجو الهندي الذي كان يسود في بعض مناحي الحياة في مدينة المكلا في نهاية القرن التاسع. ونود أن نذكر هنا أننا في كتابنا (عدن وجدة ومسقط في كتابات دي جوبينو) قد تحدثنا عن عدن الهندية وعن مسقط التي كانت الأبقار تقدس في شوارعها وتجد ما تأكله في كل الأركان. وبالنسبة للمكلا، تؤكد مابيل بنت أن أصحاب النفوذ في المكلا هم من الهنود، وإن اللغة الأردية تستخدم في المدينة مثل اللغة العربية. وتبرر ذلك بارتباط السلاطين القعطة بحيدر أباد وبالتالي بحكومة الهند البريطانية، فهم يتقنون اللغة الانجليزية واللغة الأردية إلى جانب اللغة العربية. وتكتب: "يحكم المكلا سلطان من آل القعيطي. وقد جعلت صلة هذه العائلة بالهند منها إنجليزية جدا في حالاتها الوجدانية، ويميل شكل فخامته العام بسترته المخملية وخناجره المرصعة بالجواهر إلى أن يكون هنديا أكثر منه عربيا. وفي الواقع يعتبر أكثر الأشخاص نفوذا في البلدة أولئك السارقون للنقود العابرون من بومباي، وهي تشكل أحد المراكز التجارية الأساسية التي يتم التحدث فيها باللغة الهندوستانية على نطاق واسع بشكل يقارب اللغة العربية" ص109. وتضيف: "أمضينا في المكلا ستة أيام ونحن نقوم بتحضير الجمال والمسار الآمن للرحلة، متسائلين عن توقيت مغادرتنا المكلا، لهذا كان لدينا الكثير من الوقت لنتعرف على المدينة، التي يسود بعض أجزائها، حسب شهادة الهنود البارسيين، جو هندي" ص112.
يتيع ثيودور ومابيل بنت ورحلتهما في أبين سنة 1894

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24