الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
أحمد الجبلي وصحيفة المدينة - عبد الباري طاهر
الساعة 13:57 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

أحمد الجبلي باحث مهم. واضح الرؤية، وعميق التفكير. يقرأ النص بذهن متفتح، وبصيرة عارفة وناقدة. قرأت كتابه «صحيفة المدينة أول دستور مدني في الإسلام» وأُعجبت به؛ لأنه يتناول خصائص مشتركة بين البيئة التي قرأ فيها ومنطقتنا في تهامة.

كتابه المهم من أهم المباحث؛ لأنه يقرأ الجانب الأكثر إضاءة واستنارة في مطلع التاريخ الذي طغى عليه زيف القداسة والتدين الكاذب، ومسخته سنوات طوال عجاف من الطغيان والاستبداد.

أدهشني الباحث بمقدرته على دقة اختيار الجوانب الأساسية في بيئة المدينة حينذاك، وتركيبتها القبلية، وفحص وتمحيص الخبر، ودقة المعلومة، فتلكم الركائز الأساس لمدماك بناء التحليل، وصواب الاستنتاج.

يقع الكتاب المتوسط الحجم في 365 صفحة من مطبوعات مركز الدراسات والبحوث اليمني، ويشتمل على مقدمة، وتمهيد وبعض قضايا الشكل، ومضمون الصحيفة، ومقدمتها المحتوية على خمس فقرات التي يقف عندها طويلاً وعميقاً وبروح مسئولية عالية وذهنية نقدية مدركة، ويتضمن الكتاب الخاتمة والهوامش والمصادر والمراجع والملاحق.

في التمهيد يركز الباحث على استخلاص العبر الاجتماعية والسياسية، ويتعمق في قراءة الصعوبة الواصلة تخوم الاستحالة للغوص في القيم والتقاليد السائدة في طول وعرض الجزيرة آنذاك؛ وذلكم شاهد الإدراك والتواضع في آن. وهو مفتاحه الأول أو ومبضعه لتشخيص النص والغوص في أعماقه.

يقرأ كل جملة، بل كل كلمة، مستنبطاً الدلالات المتعددة والمختلفة في الزمان والمكان، وينتقل بروحه وأدواته التحليلية إلى زمن الصحيفة – لحظة الصدور-؛ ليدرك- بذكاء- البواكر الأولى، أو فلنقل صرخات طلق ولادة الدولة التي امتدت إلى زوايا الأرض في كل الاتجاهات، محاذراً الوقوع في شرك وهم وقوع الرسول في الخطأ، وهو المحذور الذي تفرضه ترسانة الترهيب والترغيب.

يبدأ بتوصيف الصحيفة، وهي المدماك الأساس لأي باحث أو دارس جاد، قارئاً الآراء المختلفة- حد التباين- في التسمية: دستور، حلف، عقد جوار، معاهدة سياسية، أو موادعة أو ... إلخ.

يقرأ إسناد الصحيفة، ومكانتها، وزمن الصدور مع مقارنتها بعهود أخرى. يدرس التبويب والشكل. والأهم دراسة أطراف العقد، والحالة الاجتماعية للأطراف ذاتها: المسلمون، والمؤمنون، واليهود، وهم من المؤمنين طبعاً؛ مميزاً بدقة بين دلالتي "يهود"، و"اليهود"؛ فالأول مرتبط بالقبيلة، أما الثاني، فله ارتباط بالقبيلة والديانة معاً، وقد تشمل تسمية اليهود منتمين من قبائل أخرى.

التدقيق المتابع والمتأني للألفاظ والمصطلحات، وتعدد دلالات اللفظ والمصطلح ميزة رائعة للباحث؛ للوصول إلى استنتاجات بحثية علمية مقنعة.

الكتاب- المبحث المهم- يتناول المدماك الأساس في التنوع والتعدد، والقبول بالمختلف والمغاير، واحترام التعدد القبلي، والاختلاف المعتقدي، وهي القضية التي جرى طمسها منذ البدء في تحويل الدعوة إلى دولة؛ فقد حُصِر الأمر في قريش كقبيلة، واستُبعِدت الأطراف الأخرى حتى لو لم تكن معارضة؛ ومن هنا يأتي تغييب النص (الصحيفة) من المراجع التأسيسية، وهو ما فطن وأشار إليه الباحث.

منذ البدء حرم التنوع والتعدد والاختلاف، وتحول مفهوم الوحدة من توحيد الخالق إلى تقديس المخلوق، ووحدانية الحاكم، وتأليه الفرد، وهو ما ساد في التاريخ والثقافة والسياسة العربية والإسلامية.

يرى الباحث بنور المعرفة والدقة أن هدف بناء الدولة الإسلامية يتضمن تكوين الأمة الجديدة. أمة فوق القبيلة. أمة فوق الراهن من الأديان توحيديةً كانت أو وثنية. يناقش الباحث المجتهد ذات الموضوع بتعمق واستقصاء قل نظيره، مستنداً بالأساس على الصيغة وحجر الزاوية فيها، والمدماك الأساس "أمة واحدة من دون الناس". فهذه الجملة الجامعة المانعة- كما يقول المناطقة- هي ما أرسى حجر الأساس لبناء الأمة الجديدة ، وتجاوز الأسرة، والعشيرة، والقبيلة، والدين توحيدياً كان أو وثنياً.

يستقصى الباحث المراجع حول الصحيفة، ويدرس النص فقرةً فقرة، وجملةً جملة، وقبل ذلك كله كلمةً كلمة، عائداً إلى مراجع النص هنا وهناك.

يدرس بتتبع ودقة التبويب، متمنياً أن يشكل بحثه المهم إضافة نوعية، ولكن بتواضع العالم يتمنى أن تضيء"الملاحظات"- كما يسميها - بعضاً مما حف بالصحيفة من آراء واجتهادات.

يقف عند بعض قضايا الشكل، ويأتي على ذكر البسملة -الإشكال في صلح الحديبية-، راجعاً إلى مثالها في فاتحة العهود والمواثيق في التاريخ القديم.

يقرأ أطراف العقد ومكانه، ونظرة الصحيفة لأطراف العقد كونها حالة انتقالية تعترف بواقع، وتعمل على تغييره، دارساً – بعمق- التنوع والتعدد والاختلاف والتغاير بين كل هذه الأطراف المنتمية إلى قُبُل وعشائر وأماكن وديانات واعتقادات مختلفة ومتباينة، والأهم في المبحث دراسة المفردات والمصطلحات بأبعادها اللغوية والمجازية والمعرفية، والتطور الحاصل فيها.

الكتاب المهم بحاجة إلى دراسة أوسع، وما كتبته ليس أكثر من تحية لبحث جديرة بالقراءة والتعمق.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24