الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
شاعرية الطائر العربي ( بين البردوني والجواهري ) - طارق السكري
الساعة 14:48 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



لقد تم منذ سنوات بعيدة اغتيال مشروع المثقف العربي التنويري لعوامل كثيرة ومختلفة ، وتتداعى ذلك العالم الذي كانت تنشده الأقلام منذ نشأة الوعي الإبداعي ذلك الفردوس الذي تحكمه المعرفة ، ويسوده العدل ، ويعيش أبناؤه في رخاء ورحمة . كان لذلك الارتداد الحضاري جراحات عميقة ، وآثار نفسية وخيمة .. نعم لقد تأثر المثقف العربي كثيرا .. لكن الشاعر كان تأثيره من نوع خاص! رأينا ذلك في انعزاله إلى الطبيعة يبثه رياحها شكواه ، ويلقي على نجومها قصة سهده ، فتلألأتْ على أجنحة خيالاته الجبارة الكثير من الانفعالات والخواطر والأفكار والرؤى التي تغلي في أعماق النفس ، فأخذت تلك التصورات والانفعالات تبحث عن صورة شعرية تتجسد من خلالها على هيئةٍ مرئية أو سمعية أو نفسية لتبلغ الغاية المنشودة من التأثير في المتلقي . 
بين آيدينا الآن قصيدتان لشاعرين عربيين كبيرين .. عاش كل منهما في بلد .. باعدت بينهما السياسة ، وقربت بينهما العربية الشاعرة والحزن الدائم ، في وحدة تامة وانسجام .
عبدالله البردوني في قصيدة : طائر الربيع ، ومحمد الجواهري في قصيدة : أرِحْ ركابكْ .
وسبب اختياري لتينك القصيدتين هو رمز : الطير . فقد اتخذ كل من الشاعرين الطير رمزا شعرياً عبَّرا من خلاله عن تجربته الخاصة ، ووجدا فيه اتساعاً وشمولاً
فالطير هاجس عند الإنسان العربي بالذات . كثيرا ما تزخر كتب الأدب العربي ودواوين الشعر بذكره والاهتمام به ، فهو يشبه الإنسان في حبه التغني ، والسفر من مكان لآخر ، والحنين اللامتناهي إلى الأوطان ، وهو رسول محبة ، وأيضاً هو يشبه الإنسان في تعرضه للنكبات ، ومواجهة التحديات .. تحديات العواصف والأمطار ، سواء كانت عواصف بفعل الطبيعة أم عواصف بفعل السياسة والمتغيرات .
طائر البردوني

طائر الربيع .. هل رأيتم طائر الربيع ؟ الدنيا تعبق بالخضرة ، ومياه السواقي كأنها آلات موسيقية تعزف بأعذب الألحان .. والطائر يزهو في هذا المهرجان الغنائي الكبير . إن البردوني - الذي قعد به فقدان البصر فكان دوما محاصراً بالمكان- قد وجد في الطائر الذي أمام حديقة منزله ذات يوم صديقا حقيقيا جاء لزيارته! وما أروع لقاءات الأصدقاء عندما تفرض الوحدة على الإنسان طوقا نفسيا خانقا .
طائر الربيع قصيدة للبردوني يبتسم فيها خاطره لهذا الطير فيستقبله بهذا النداء :
ياشاعر الأزهار والأغصانِ
هل أنت ملتهب الحشا أو هاني ؟
إن البردوني الذي أنضجته الآلام وعركته الظروف المضنية يتحول إلى فيلسوف يتأمل ويحاور الأشياء من حوله ليصل بها إلى الغاية .. الغاية من الوجود أو يلتمس بين يديها حلّاً للخروج من مأزق الحياة المفروضة على الشاعر .
فنراه في حالته تلك يبث الحياة في كل من حوله ، فهو يجعل من الأزهار والأغصان والأشجار جمهورا يتذوق الشعر ويطرب للكلمة المنغَّمة الجميلة .. إنه يؤنسن الطبيعة بواسطة تقنية التشخيص إحدى خصائص الصورة الشعرية ويلهب فيها حرارة الوجدان الإنساني . إني لأتخيل الخطوات الثقيلة التي يخطوها البردوني أمام البيت.. وأستشعر في ذاته غرابة الأشياء التي يتحسسها بقدميه ، والخوف من السقوط أو التعثر بأفعى وأتخيل الرغبة بتحقق المعجزة بعودة نعمة النظر :

ماذا تغني ؟ من تناجي في الغِنا
ولمن تبوح بكامن الوجدانِ ؟

ثم ها هو يستفز الطير بالحديث والاسترسال والاستطراد ، لتعميق التجربة وَإضفاء نوع من الدراما المثيرة . يقول له :

هذا نشيدك يستفيض صبابةً
حرّى كأشواق المحب العاني

فلماذا تسكت ؟ تكلم . تحدث . تُرى هل كان البردوني يخفي شيئا يخشى الإفصاح عنه في تلك الفترة التي تعج بالأحداث السياسية المتقلبة ؟
إن في شجوك أيها الطير سمة من سمات العشاق ! ولولا أن الطائر الوديع قد نجح في اخترق أعماق البردوني فحرك الدفين من الصبابة ، وأثار الفضول لما كتب البردوني هذه القصيدة . لقد وجد فيه صوتا يلامس أشجانه ويهز أوتار أشواقه .. إنه صوت الحب ! نعم لقد كان البردوني محبا متطلعاً .. محبا للإنسانية التي تفيض بها أعماله الشعرية كلها في رفع الظلم والتهكم بالمفسدين ، ومدعين الثقافة .

في صوتك الرقراق فنٌ مترفٌ
لكن وراء الصوت فنٌ ثاني !

كم ترسل الألحان بِيضاً إنما
خلف اللحون البيضِ دمعٌ قاني

وللوهلة الأولى يظن القارئ أن البردوني في توهج انفعالاته حال كتابة القصيدة قد تحول إلى طير حقيقي وفتنته تقنيات الصورة الشعرية وألوانها وتشكيلاتها البديعة ونسي أصل الموضوع !!! فكيف يقرر أن الطير الذي بالقرب منه على شجرة يبكي بدمع قاني ثم في البيت الذي يليه يسأله : هل أنت أيها الطائر تبكي ؟ لكن الحقيقة أن جو القصيدة العام أعطانا مفارقة صادمة تتجلى حين نعلم أن طائر الربيع المسرور بالطبيعة الفاتنة من حوله الذي جاء ليشدو وينشد الأشعار ، يجد البردوني منزويا وحيداً يعتصر الهم قلبه ! إن تلك الربكة في المشهد العام جعلنا نتفاعل مع الشاعر ، ونتأثر لحالة الحزن العميقة التي كان يمر بها . كأنه يقول لطير الربيع : إن غنائك البديع الحلو إنما هو قناع تخفي وراءه حقيقة أحزانك القاتلة ، لكن لا عليك فأنا أشعر بك! لأني أحيانا أغني مثلك .. أغني كي يراني الناس سعيداً !!
فعلى جمال قصيدة طائر الربيع والافتنان في وصف الطبيعة وورود الكثير من عناصرها إلا أن هناك مسحة من كآبة الخريف الوجداني نلمسها في صوت النص مختفيا وراء تلك الأقنعة الفنية من الصور الشعرية .
وكيف لا يكون كذلك من تعاقبت الحكومات عليه فلم تحدث تغييرا ولم تحقق الحلم المنشود .. حلم المثقف بمدنية الإنسان الحقيقية ، بل زادت فجوة المأساة وانتشرت الأمية حتى كادت الأمية أن تكون قانوناً !

طائر الجواهري
ولمحمد محمود الجواهري قصيدة طويلة ورد في ثناياها أبيات تتناول ذكر الطير في تماهي بديع ، ومقابلة مؤثرة .
وكأن الجواهري في هذه القصيدة يجسد في روحه المعذبة المضطربة التي لا تعرف الاستقرار: معنى الطير .. الطير الذي لايستقر على شجرة
ولئن كان البردوني قد شَخَّص الطير فجعل منه صديقا جاء يوماً يطرق باب بيته للزيارة ، فإن الجواهري هو الطائر بنفسه ! لكنه ليس طائر الربيع !

ويا أخا الطير في ورْد ٍ وفي صَدَرٍ
في كلَّ يومٍ له عشٌ على شجرِ

ورود الماء هو الذهاب إلى الآبار والمنابع والأنهار لجلب الماء أو للشرب ، والصدور هو العودة بالماء إلى البيوت أو العودة بعد الإرتواء .
غير أن الطير في هذا النصّ الشعري ، وهو في وروده إلى الماء بسرعة وصدوره عنه بسرعة يوحي لنا باضطراب نفسي في المشهد ، فكأن خطباً ما وراء هذا الطير! لقد كان الشاعر الجواهري يعيش تجربة قاسية ورياح السلطة تلاحقه وهو يخف بسرعة من بلد إلى بلد متخفيا .. خائفا .. بلا زاد ، متخففا من كل شيء لا ينشد إلا السلامة !

ويا أخا الطير في ورْد ٍ وفي صَدَرٍ
في كلَّ يومٍ له عشٌ على شجرِ

عريانَ يحمل مِنقاراً وأجنحةً
أخفَّ مَا لَمَّ من زادٍ أخو سَفَرِ

يا أخا الطير ! فهو أخوها في الخوف والضعف وعدم الاستقرار ! إنها قسوة الأحداث ، وضربات الفراق عن الأهل والأبناء ، حين يكون أفق الأمل مسدوداً فلا تدري عاقبة المصير :
بِحسْبِ نَفسكَ ما تعيا النفوسُ به
من فرط منطلق ٍ أو فرط منحدر

يخاطب ذاته الطير : ماذا تطلب أنت في تنقلك من مكان إلى مكان ؟ عبر البحار المائجة ، والرمال العاصفة ، والطرق الشائكة ، والبلدان البعيدة هل تريد الموت ؟ أم أنه قد جاءك من القدر صكُّ نجاة من الموت فأنت مغتر بالمخاطر ولا تبالي ؟!
أناشدٌ أنت حتفاً صُنعَ منتحرِ؟
أم شابكٌ أنت مغترَّاً يدَ القدر

وما إن تأخذ هذا الطير لحظة صمت وتأمل كأنه يتهيأ للإجابة على السؤال حتى يفاجئ بصوت الحكمة والمنطق يرتفع كسحابة سوداء زاجراً عن الغي ، ناهيا عن المقاومة الضعيفة :
خفِّضْ جَناحيكَ لا تهزأ بعاصفةٍ
طوى لها النسر كشحيه فلم يطرِ

إن النسر الذي هو أقوى منك شكيمة ، وأشد عزيمة ، وأطول منقارا ، وأقتل مخلباً لا يقدر على مقاومة هذه العواصف فلماذا لا تزال تقاوم أيها الطائر الصغير ؟
لكأن هناك مسحة تشاؤم : إنك لاتستطيع أن تواجه المجتمع بأكمله بأحلامك ، ولا تستطيع أن تواجه الدولة وجيوشها بنقدك وصراحتك وصدقك ، فانكسرْ أمام عواصف التغريب ، وتواضع أمام الغزو الصهيوني واستسلم ! بالفعل ! إن هذا مايبدو للناظر أول وهلة ، وليس هو بالعجز ولا بالاستسلام بقدر ماهو تأنيباً لضمير المجتمع ، وعتاباً موجعاً لأمة آل حالها من الذل والهوان والاستعباد والتبعية إلى أبعد مدى ! علَّها تصحو وتنتبه .
إن لغة الجواهري الفخمة ، وتراكيبه الجزلة ، وصوره البلاغية الصحراوية ، شكلت وحدة وانسجاما متيناً في بناء الصورة الشعرية لمناسبتها جو التجربة العام : الغربة العاتية .

أخيرا
لقد لعبت البيئة في تشكيل معجم كل شاعر في صوره الفنية ولغته الشعرية ، واستطاع مخزون الذاكرة الثقافية لكل شاعر أن يمد التجربة بالطاقة والحيوية .
لقد كان البردوني في تلك المقطوعة من قصيدة : طائر الربيع منصهرا بجمال الطبيعة اليمنية ، مشدوهاً بإحساس الجبال الخضراء ، فكأنه كان رساما على سحابة أو عازفا يمشي على مياه الساقية بل لا أبالغ إن قلت : لقد كان البردوني ماسترو ينظم فوضى الطبيعة .
أما الجواهري فهو ابن الفصحى ومدارس النحو ، وهو ابن مربد الشعر ووارث أرض الخلافة العربية التي كانت مركز الحضارة الأدبية والعلمية المشعة ومركز الأحداث العظام والصراعات التي لا زالت ممتدة بعرامة حتى اليوم لذا نرى في مستوى القصيدة جزالة وعرامة لا سيما وموضوع القصيدة في الغربة وما يشهده الشاعر في خضمها من أحداث .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24