الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
شهادة عن الشاعر زياد القحم - إبراهيم أبوطالب
الساعة 13:25 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

زياد القحم
حين يُذكرُ هذا الاسمُ يتدفَّق الضوءُ شلالاتٍ من المحبة، والخُلق الكريم، والإبداع المتجدد المتنوع، إنه أنموذج لليمني الأصيل القادم بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات من بيئة ريفية تكوَّن فيها، فكانت لشمس (يريم) نقوشها على تكوينه، وكان لقمرها بصماتٌ خاصَّةٌ ظهرتْ في (تكاسير شعره) وتجلَّت واضحةً على روحه المتعطشة للجمال النابضة بروح القمح ومزارع الصفاء وألحان الحياة. متناغمةً بين أصوات طبيعتها الفاتنة وأصداء نغماتها الشجية ما بين مغارد الرجال ومهايدهم، وبين أغاني النساء وأشجانهن، فنشأت تجربته الشعرية تتداخل فيها هذه المعطيات وتنداح بين جنباتها هذه الأصوات المتعددة. وحيثُ أنَّ للتكوين دوره الذي يشكِّل بصمته الخاصَّة، فلا تستغرب أن يتعدَّد هذا القادم من بيئة خصبة خضراء بفطرة الريفي وجمال طبعه وصدق محبته، وبروح المدنيِّ بأناقة عباراته ولياقة تعاملاته؛ إذ لا يملك مراوغةً في المشاعر، ولا يحملُ وجوهًا متعددةً في التعامل، فهو يملك صوته الصادق الصدوق الواحد، ومحبته التي تشبه الضوء وتعلق في النفس كجمال الطبيعة الأخَّاذ ونداها البراق.

 

من تلك البيئة المكتنزة بالتعدد المليئة بالوضوح أتى زياد القحم وحين انتقل إلى بيئة جديدة وعالم المدينة الذي هو متجذِّر في روحه بالطبع لمدنيته لم تخدعه المدينة بمراياها المتعددة ولا بزواياها التي تتلاشى فيها – إلى حدٍّ كبير- براءة الروح الأولى ونقاء الطبع الأصيل. لذا ظل محافظًا على تلك الروح لكي تظهر في تعاملاته مع ما اختاره طريقًا لنفسه وهو النص بنوعيه: (المكتوب، والمعيش)، ونقصد بالنص المعيش الإنسان نفسه بوصفه نصًّا متحركًا؛ إذ لا يراه إلا كذلك يتعامل معه بكل محبَّة وبفيض من الصدق في قراءته ومحاورته. ولهذا توجَّهت روحه إلى النص عمومًا ووجد فيه ضالته المنشودة، فمضى ينمِّي رصيدَهُ في هذا الاتجاه بالقراءة تارةً وبالشعر تاراتٍ، الشعرُ بنوعيه الفصيح – وهو يملك فيه صوته الخاص- والشعبي الذي يحاول فيه أن يمزج بين ثقافة الصورة الشاعرة البعيدة عن الأغراض الشعبية المباشرة والحادَّة، وبين تكوينه الشعري الحَكَمِي (كما يسميه المثقف اليمني في مقابل الحُميني الراسخ بتاريخه البعيد) فأتى ما يكتبه مزيجًا فريدًا في هذا الباب.
ومن هنا حين سمعتُه لأوَّل مرة وبادئ الرأي، في البرنامج الجماهيري المعروف (صدى القوافي) الذي كنتُ أحد محكميه أدركتُ أن وراء هذا الصوت المختلف الذي يدهشك تاريخًا طويلا من الثقافة والقراءة، يحدوه محاولة جادَّة من التجديد إنَّه يتشكَّل ليكون صوتًا عابقًا متميزًا، لذا كان أخذه اللقب من المحطات المهمة في تقديمه كشاعر غنائي حُميني لا لأنه اختلف في صوره وتعالقاته المهمة مع الموروث الشعبي بكل مدارسه فحسب، ولكن لأنَّ جذوة التجديد والصورة المفارقة والروح الشعرية المتعطِّشة للتفرد تكمن وراء تلكم التجربة.. وقد كان ما كان.

 

الشاعر (زياد القحم) يتعاملُ مع الحياة من حوله بكثير من الصدق والوضوح والمحبة، ومن هنا فهو لا يملك مراوغةً في مشاعره، ولا كذبًا في نصِّه، ولا حزنًا في حياته، ولا يستطيع أن يتخلَّص من براءة الريفي الذي يتعامل مع الكون بمنتهى الجدِّية والبساطة، ومن هنا كان زياد صاحبَ صوتٍ لا يشبهه غيره، يحمل براءة الريف وجمال الحَضَر.
 

وحين يتعامل مع النص المكتوب لا يتلمَّس فيه إلا ما هو مختلفٌ مدهش كما يتعامل المزارع مع زنابق الزرع حين تفتُّحها البكر، أو كروح الطفل التي تدهشها ألوان الفراشات، أو أشكال القواقع وألوانها فيمضي في جمعها والفرح بها والحديث عنها. وأمَّا تعامله مع النص المعيش (الإنسان) فهو تعامل الخبير بأدواء الناس الطبيب بأهوائهم، يدركُ ملامح كل شخصية وخصوصيتها فيعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، مع الاحتفاظ بمسافة كافية بينه وبين هذه النصوص البشرية. الإنسان لديه نصٌّ معقد ولكن رغم هذا التعقيد يملك شفرات خاصَّة للولوج إليه، ويجد بحنكته مفاتيح تلك النصوص التي تختلف لديه وتتعدَّد بتعدد أصحابها، ومن هنا استحقَّ أن يكون حاضرًا معها في حياتها، وفي نشاطاتها على الرغم مما قد يكلِّفه ذلك من تعبٍ هو تعبُ الدفاع عن قيمٍ راسخةٍ في روحه، وثوابتَ عالقةٍ في نفسِه فأنَّى له أن يتخلَّص منها أو يهرب عنها أو تحوّل دونها.
تحية له.
وتحية للمحتفِي والمحتَفَى به.
وتحية لهذا المكان الذي يشعلُ فينا مصابيح الحياة، وفوانيس البحث عن الأمل، ويعطينا في كل أسبوع وجبة روحية تمدنا بالجمال، وتغسل أرواحنا من الكدر والدرن والجروح التي تخالطنا كلَّ يوم. وتتفاقم من حولنا كلَّ لحظة.
(المقة) رئةُ المثقف الحقيقي النقي الخالي من أدران التحزُّب، وشلليات التثاقف، وأمراض الادِّعاء.
إنها رئةُ اليمن ببساطتها وصدقها ونقائها، وتميزها.
دامت هذه الرئةُ ودام تنفُّسها الذي يملأُ الأروح حياةً، ويبعثها تحدِّيًا واستمرارًا عابقًا بالجمال والتجدُّد والصَّباح.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24