السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
رحلة روح لشروق عطيفة: السرد المرتحل في مواجهة أسئلة النفس والدين والفكر! - د. فارس البيل
الساعة 12:24 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


تمتطي هذه الرواية المتقنة للروائية اليمنية / شروق عطيفة ، تمتطي الزمن بإحكام بالغ محملة بكثير من الهموم الفكرية وخوالج النفس بغية تفكيكها لدى القارئ، معتمدة على شخوص وأحداث وزمكانات متعددة، تتداخل بين جغرافيا الكاتبة من صنعاء اليمن في الزمن الحاضر بدءاً، لترحل بشخصياتها بشكل عكسي إلى الزمن القديم بطريقة السفر الغرائبي الأسطوري، وإلى مصر تحديدًا في منتصف القرن السادس الهجري في رخاء الدولة الفاطمية مقتبسة من زمن النهوض الثقافي العربي في العصر العباسي والنهضة العلمية، وشيوع الفلسفة ومدارس العقل والمذاهب الكلامية، لتعالج عن طريق بطلها "آدم" والشخوص الثانوية المصاحبة قضايا الفكر والتدين، ولتعقد مقاربة جوهرية عبر هذا السفر المتداخل بين أشكال التدين اليوم ومفاهيمه وجمود الفكر الفلسفي..والحراك العقلي والعلمي والفلسفي وانفتاح الفكر قديماً، و كيف وصلتنا مسائل العقيدة والعبادات ومفاهيم الدين، بينما كان يجري التداول الفكري الثري في تلك الأزمنة بفضاءات وسقوف علمية وذهنية أرفع، ويعقد السرد مقاربات لهذا الاختلاف وهذه الفجوة السحيقة عبر مس الحوار لقضايا فائقة الحساسية من مثل الزنا والخمر والتبني وملك اليمين وقضايا عقائدية كاسماء الله الحسنى والرسل السابقين والكتب وقضايا شعورية كالحب والتعلق و الحالة الصوفية العامة وأغوارها وتفسيرات الحياة والعلاقات التعبدية من خلالها؛ كل هذه القوالب المتينة يفكفكها السرد هنا بطريقة أخاذة ميسورة عبر حوار أليق وهامس بين آدم المسافر عبر الأزمان آدم والأَمَة نفيسة.. وعبر حوارات أخرى وأحداث مسبوكة مع شخصيات غرائبية أو حاضرة في التاريخ، وغايتها من كل ذلك طلاء الروح بالمعاني الخلاقة والسلام النفسي وإزاحة تعقيد الزمن الحاضر، والابتعاد عن دواماته المفعمة بحمل كثيف من تشوهات النفس والتدين الزائف والصراع بين الطوائف والأديان.. وحمل النفس والفكر على مناقشة القضايا الجوهرية والنظر إليها بطريقة مشرعة المعاني بعيدة الدلالة غير منغلقة ولا منطفئة أو متعصبة.

إن هذا السرد الفاتن بقدرته الفائقه على الانتقال عبر أزمنة وأمكنة ثلاثة رئيسية: من الزمن الحاضر والمكان الفعلي من هذا الوقت الذي تشهد فيه اليمن حربًا، تحديداً من صنعاء ..إلى القرون السابقة وازدهار الحياة في الشرق والاندغام في تلك الحياة بثرائها الفكري وشكولها وطرائق الحياة فيها والنعيم، ومن ثم المغادرة ثالثاً إلى زمن المستقبل اللامرئي بتقانات التكنولوجيا الحديثة، إلى المكان خارج الأرض عبر سفينة فضائية لتكتمل دائرة الفضاء الزمكاني بالعودة إلى صنعاء من جديد .. في رحلة روحية أرادتها الكاتبة عبر الروح والعقل والنفس لتسبر أغوارها .. لكن بقوالب جسدية ونماذج حكائية بارعة الدهشة .

يمكن القول إن هذه الرحلة الروحية بتقنيات السرد المتمكنة بلغة رصينة سليمة ومتماسكة، وشخوصٍ مقتدرة مصنوعة بوعي وبراعة، وأحداثٍ محبوكةٍ بإجادة، وفضاءات الزمان والمكان المشوقة والمتعددة؛ تعد صوتاً سردياً يمنياً جديداً مائزًا، وإن كان يحسب على السرد النسوي من جهة الإبداع لكنه يفيض من جهة السرد العربي كله، الواعي لقضايا الروح والنفس، المتعمق في الذات المنهكة من صراعات الحياة والأفهام ، وأغلاط التدين وتحجره، وإشكالات الحضارات والأديان وتفسيرات الروح وانتكاسات الهوى والشعور.. غايتها السلام الداخلي في النفس وعلائقها في الهوى ومفهومات الدين، والسلام الخارجي بين الناس والطوائف والأفهام والحضارات والأديان .


ولعل هذا النص السردي المدهش بقوالبه الممزوجة بين التقليدية من حيث أعمدة السير السردي والحوار الحكائي ومتخيلات الفضاء المكاني والسفر عبر الازمان، والبناء الدرامي الذي يشبه الموروث الفني كألف ليلة وليلة وغيرها من الأشكال الحكائية الأسطورية الأخاذة، فإن هذا السرد أيضًا يندغم بتقانات العصر الحديثة واستعمالات الرقمنة والتقانة.. ليجعل الروح سبيل معالجته ومحور دورانه، الروح العابرة لكل الأزمان والأمكنة والفضاءات والتقانات.. المتجاوزة لكل حواجز الفيزياء والمعادلات المعقدة إلا من وهنها الداخلي وضمورها وما يفسد انتشاءها وقوتها وسلامها، أما الجسد المتنقل هنا فليس سوى إطار حسي يحمل الروح وينساب منها .

لقد قدمت الكاتبة الروائية/ شروق عُطيفة نصاً معجوناً بالفلسفة الواعية وترجيحات الأقوال في القضايا الفكرية وخلجات النفس، ويبدوان؛ الجهد الفكري والآخر السردي ممزوجان ببراعة هنا، وقد أخذا حظًا كثيفاً ومضنيًا وعناءً واضح النتيجة من الكاتبة.. مما يدعونا إلى جعل هذا النص السردي، بارع الوصف لكل عوالمه، ضمن قوائم الروايات المتينة والآخذة بممكنات التميز والإبداع والدهشة الوافرة.

ناقد ثقافي وأكاديمي يمني.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24