السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قصة قصيرة..
ابنة الحصادة - علي جعبور
الساعة 12:39 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

كانت شمس الحصاد الصيفي الحارقة تلفح الأرض وتنشر وهجا لاهبا، يبدو متماوجا، منتصف النهار فوق محيط لا متناهٍ من سنابل الذرة الرفيعة البيضاء. 
وقف جدي فوق الحاجز الترابي لأول ترعة قدّر أن وقت حصادها قد حان، وقال، آمرا النسوة الحصادات: ابدأن من هنا..  وأشار للزروع اليابسة التي تهدلت أوراقها الصفراء فوق سيقانها وانحنت سنابلها مثقلة بالحبوب. 
وفي لحظة وجيزة كان مهرجان الحصاد قد بدأ بالفعل وراحت المناجل الجديدة ذات الشفرات البيضاء تجتز القصب الكثيف المتشابك بأسنانها المنشارية الحادة فيتهاوى على أرض صلبة محدثا نشنشة شجية وحفيفا بهيجا، وأخذت النسوة يهزجن بمهاجل عتيقة وقد فاضت قلوبهن حبورا وبهجة بالمحصول الوفير الذي جادت به السواقي هذا العام حيث بإمكانهن أن يعملن أياما إضافية ويجمعن أكبر قدر ممكن من الحبوب والقصب. 

كنت أرقب حركتهن باهتمام وأجلس القرفصاء جوار أبي تحت سدرة معمرة تتوسط الحاجز الترابي الفاصل بين حقل جدي وحقل رجل آخر. 

"صباح الخير"... كان هذا صوت امرأة ظهرت فجأة من ورائنا، فالتفتنا نحوها سويا بحركة آلية. 
- صباح النور والعافية، رد والدي باهتمام واضح. 
- هل تحتاجون حصادة أخرى؟ سألت المرأة بينما تهم بالجلوس فوق العشب الأخضر الفاصل بيني وبين أبي، وبجوارها وقفت صبية سمراء مليحة وضئيلة الحجم، ترتدي "زنة" صفراء تصل لمنتصف الساق تاركة للبنطال الوردي حرية الاعلان عن نفسه في المسافة الباقية الى الكعبين. كانت تقف في وضعية متمايلة كأنما النسائم تراقصها، ترفع رأسها الصغير محملقة بدهشة طفولية في أغصان الشجرة العالية فتنحسر "المقرمة" الزهرية كاشفة عن أجمل ظفيرتين بنيتين مرسلتين حتى أسفل الخصر. كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وكنت في العمر ذاته تقريبا. وقفت قريبا منها تاركا مسافة آمنة، وكان ثمة شامة سوداء صغيرة تنام بطمأنينة على خدها الايسر، بدا لي من ذلك القرب أنها وحيدة جدا وحزينة، وقد عنّ لروحي الضامئة منذ ألف عام، أن تتضاءل حتى تصير بحجم شامة؛ شامة سوداء غريبة كخطيئة ملقية في ساحة الفردوس. اختفى العالم كله من حولي في لحظة، وكانت هي وحدها العالم المدهش الرهيف الذي تخلق أمامي بالصدفة. كانت لمعة سحرية تبرق من عينيها تقذفني بعيدا ثم تجذبني بحركة بطيئة كما لو أنني أتأرجح في فراغ سحيق وأحلم بحورية ذات تكوين خارق وإلاهي؛ دانية لعيني حد العناق، ونائية لقلبي حد الإستحالة.

وبينما كانت تلهو بمنجلها الصغير في قطف البراعم المتدلية من الشجرة، كان ثغرها البديع يفتر عن ابتسامة فاتنة من حين لآخر.. ابتسامة للعصافير النشوانة، للبراعم الندية، للهواء النقي، كانت تبتسم وحسب، فيغدو كل شيء باسما، كل شيء بما في ذلك الموت والجحيم والشيطان. 

كان الحديث الدائر بجوارنا يقطع عليّ عبادة التأمل:
- سأمنحك قطعة الارض هذه مقابل أن تزوجيه ابنتك
- حسنا، لكنك لن تفعل، أنتم أيها الفلاحون يموت أحدكم وفي يده قبضة من تراب الارض
- هههه تقصدين يموت أحدنا وفي يده امرأة حلوة مثلك
- يالك من شيطان ملعون، ألا ترى كم ألهيتني عن عملي.. قالت ذلك ونهضت بخفة لتلحق بالحصادات وتبعتها الفاتنة الصغيرة. 

ذهب أبي لشأنه. غط جدي في نوم عميق تحت ظل شجرة أخرى وبقيت وحدي ألاحق الملاك الجميل. 
كانت قد أدركت بفطرتها أن قربي لم يعد بريئا، فبدأ الخوف يعتريها، تغيرت نظراتها اليّ وأخذت تلتصق بثوب أمها الفضفاض كما لو أنها تحتمي بها من وحش همجي. 
لم يمض وقت طويل حتى انتبهت الأم لما يجري، رمقتني بنظرة ذهول وقهقهت بأعلى صوتها. 
- هئ هئ هئ إبنك شيطان مثلك يا رجل، تعال لترى كيف يطارد ابنتي .. صرخت بقوة ليسمعها والدي من بعيد
- أطفال.. أطفال يا حُرمة، لا تفسدي لهو الأطفال.
ضحكت بتغنج مبالغ فيه وأقبلت نحوي شاهرة منجلها:
- هيه أنت يا ولد، دع ابنتي وشأنها، هيا اذهب والا ضربتك على رأسك. 
لم يخيفني تهديدها وبقيت جامدا في مكاني وعيني ثابتتان لا ترمشان. 
وتعالت قهقهات نسائية ساخرة في الجوار، كانت النساء الحصادات قد توقفن كلهن لينظرن اليّ. 

في أصيل ذلك اليوم، حملت أم الصبية كيسا محشوا بالسنابل ومضت مع طفلتها باتجاه الغروب. وقفت أشيعهما بنظرات وداع بائسة، وباحساس كامل بالهزيمة حتى توارتا وسط الحقول. 
،،

في العام التالي كنت قد عرفت أسرارا كثيرة عن عالم النساء الغامض، وكنت أنتظر الحصاد لأخوض تجاربي. 

..مرة أخرى قرفصت تحت الشجرة المعمرة ذاتها وانتظرت فتاتي، كنت قد جهزت لها كلاما هذه المرة، فالنظرات وحدها لا تكفي. انتظرت وانتظرت، جئن كل نسوة العام الماضي، جاء النسيم البارد والطيور وجاءت السحب الرمادية الممطرة ولم تأت هي.

موسم حصاد آخر، مواسم كثيرة تالية وانتظار يائس وشغوف. 
هممت بالبحث عنها، بالسؤال في كل مكان، لكنني تذكرت.. ويا لفداحة الذكرى.. تذكرت كيف أنني لا أعرف اسمها حتى، ولم أخاطبها بكلمة واحدة قط أو تخاطبني. 
فكرت لحظتها: عليّ إذن أن أضع لها إسما الآن وأناديها، ربما تكون بالجوار، ربما في السماء، في الوديان الخصيبة، في الأرض أو أي كوكب آخر، من يدري، ربما تسمع النداء فتجيب بلهفة وشوق.. 
،،

بعد سنوات طويلة، كنت وحيدا تماما، أتلفت وسط حقل جدباء، رافعا عقيرتي بنداءات غير مفهومة، وكان ثمة شابة تحمل طفلا رضيعا، تمضي في الطريق نحو الغروب وتبتسم.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24