الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
"محمود" الدرويش الأخير - أنور العنسي
الساعة 15:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

كنّا ثلاثة في انتظار مصعد الفندق الذي أقام فيه خلال زيارة نادرة له إلى صنعاء ، هو ، أنا ، وشابة يمنية ، مثقفة ، وجميلة أعربت له عن إعجابها بـ " محمود درويش" الذي يشبهه ، قال لها "أنا محمود درويش نفسه بشحمه ولحمه" !
قال لها محمود :"إعملي لك شي غزوة".
قالت له يبدو "إن الفلسطينيين اعتادوا على الغزوات" ثم أدارت له ظهرها ، ومضت حين لم يعجبها سؤاله ، وهو الذي كان الرمز العظيم في وجدانها ، وسألت نفسي لحظتها من يحمي محموداً منه؟ من يدفعه عن حماقاته وأخطائه وتهوره؟ لكن هذا كان محمودٌ لمن عرفه واقترب منه.
يمكننا أن نفهم درويش في اطار القضية التي أخلص لها ، ومنحها جل نضاله الإبداعي ، لكننا لم نكن نفهم محموداً الإنسان كصديق حتى في هذا السياق.
كتب إليه صديقه "إدوارد سعيد" متسائلاً إن كان محمود يدرك دلالات ومعنى أن تكون له عشيقة "يهودية" على رمزية قضيته كفلسطيني.
لم أطلع على رد محمود لكنني توقعت ان يقول لصديقه إن هذا هو الحب الذي يجب أن ينصب في "جوهر" الصراع مع اسرائيل الدولة لا الديانة.
وبالفعل لم أذهب بعيداً ، فعندما التقيته لاحقاً سمعت منه إجابة متقاربة.
أكثر ما كان يشغلني في العلاقة مع محمود هو كيف يمكنني الانسحاب منه إلي ، ولقد قلت له ذلك صراحة عند لقائي به في تونس.
سألته هل يتعين على أحدنا الانتظار عقوداً حتى يتحرر منه ويتقدم إلى صوته الخاص بدونه؟ ‏

شكوت لمحمود أنني أتنفسه بعمقٍ ، وأريد أن أن أتوقف عن ذلك ، أن أصدر عني وليس عنه ، فأجاب أنه عانى الكثير مثلي قبل أن يذيب نزار قباني في مناخه ، وينتج محموده الخاص ، فتذكرت أنه ما كان لطاغور أن يرسم عصفوره الخاص لولا أنه تعرَّف إلى عصافير أخرى!

عصف محمود باللغة كما لم يفعل أحد قبله باللغة ، كل اللغات ، استطاع تطويعها إلى ما يمكن أن يشبه لعبة سهلة بيد طفل ذكي.
كلنا درس اللغة ، وأمضى سنوات في فهم قواعدها ، ودلالات استخدامها ، لكنها لم تركع صاغرة مثلما فعلت أمام الجبروت الشعري لمحمود.
لم يكن محمود كما بدى لي يبذل أي جهد ليقول ما يقول بل كانت اللغة تنساب بين يديه مثل سيلٍ أعمى ، تتقولب في شعره طيعةً كعاشقةٍ فاتنة كما يشاء!

قبل سنوات طوال من وفاته إلتقيته في باريس وسألني "إلى متى ستظل ناحلاً؟" قلت له "عندما تتوقف أنت عن الشعر"!

ثم التقينا في جلسة أخرى على البحر في تونس ضمت شعراء عرباً أخرين قرأت أمامهم ديوانه "مديح الظل العالي" كله كاملاً دون تكلؤ ٍ أو تردد ، بل أضفت على قراءاتي حنيناً لبيروت ، بكاءًا على الجبل ، ومطراً غزيراً على ضمير درويش.

آخر وقت جمعنا كان في باريس حيث قال لي إن "الأطباء أخبروه أن قلبه لم يعد يعمل كما يرام". عندما أدرك صدمتي بالخبر قال لي "يجب أن تهتم بالطعام ، أنت تهتم بالشعر أكثر من جسدك" ثم طلب سلطةً يونانية وقال لي أرجوك أن لا تسألني عن "كازنتزاكيس".

مرَّ عامٌ بعد عام كنت أعرف خلال كل منها أن محمود كان خارج كل قيد صحيٍ أو غدائيٍ وغيره ، كان طائشاً بما يكفي لجعل قلبه بحاجة إلى طبيب رقيب ، لكن الطب تأخر عنه كثيراً ثم مات محمود ، لكنه في الحقيقة لم يمت ، فقد ترك في حياتنا صخباً لن يهدأ إلى الأبد!

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24