الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
ثانية: مع رواية الظل والعاشقة للدكتور أحمد السري انطباعات قارئ - محمد راوح القدسي
الساعة 13:09 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


هذه مجرد إنطباعات سريعة، وملاحظات أولية عن رواية "الظل والعاشقة" ، رواية تزخر بالمفردات الفنية المترابطة والتوصيفات الدقيقة المتحركة، تدور أحداثها في إحدى مناطق الريف التعزي وفي "الحجرية" تحديدآ ، ولأن المكان يصوغ أهله كما يقول الكاتب على لسان "الشيخ الأزهري" في حواره مع العاشقة "شجون" ، فمصداق ذلك يمكن ملاحظته بشكل عام في سمة أهالي المنطقة التي تدور فيها أحداث الرواية ، ومنهم المهندس أشرف، المثقف اليساري، وصديقه لقمان، الزوج الحكيم، والشيخ الأزهري والشيخ الصبري والكثير ممن تزخر بهم الرواية ، وبحواراتهم الفلسفية المدهشة، تلاقحت الأفكار في تلك اللقاءآت والإجتماعات في "ديوان" أشرف أوفي دكة "عزيزة" زوجة الفدائي الشهيد، أو في فناء "الأزهري" المطل على مساحات زراعية خضراء ووهاد متصلة بأرض الغمام تلك الناحية التي تتمركز أحداث الرواية الساخنة فيها ، وفيها قرية شجون ولقمان و"الصامت" و "عزيزة" وفيها شجرة "السقام" التي تقع في إحدى حقول العاشقة الأربعينية، ولعلها كانت شاهدة على اللحظة التي تم فيها "قدح زناد" هذا العشق الغير مألوف كما يبدو لي ، وتحت ظلالها المغري لعرض البضائع من أحتياجات أهل المنطقة بقراها العديدة المتفرقة يأتي بها على ظهر حماره صاحبنا "سليمان" هو أحد "الحمّارة" الذي وجد تحت ظلالها مكانآ صالحآ لافتراش بضاعته ومتلائمآ مع إستقطاب زبائنه من أهل القرى ومعظمهم من النساء . ولعل "شجون" كانت الأجمل بين نساء أرض الغمام .. بشهادة النساء أنفسهن ، رغم أنها قد بلغت من العمر ثلثيه تقريبآ ، بتقدير نسبي لمستوى أعمار اليمنيين . غير أن مكمن سحرها ينطلق من إبتسامتها الآسرة ، وكلامها المعسول والدال على حصولها على ثقافة متنوعة إبتداء من "عدن" المدينة التي إحتضنت طفولتها وحتى سن المراهقة تقريبآ ، وهي ثقافة أستطاعت امتلاك زمامها من بعض كتب الثقافة الإسلامية والفقهية وبعض أفكار المتصوفة من مكتبة أبيها ومن حواراتها المستمرة مع عمها المتصوف وتشجيعه لها ، ولعل كلامها الأنثوي ونغم ضحكاتها بين الحين والآخر مع قدرتها على صوغ العبارات عند الحديث مع الجنس الآخر "كصاحبنا سليمان الخضري" لابد أن ذلك قد زلزل كيانه وأحبها ، فمثلها بكل ما تحمله من صفات آسرة أخرى كالمال والدار والحقول لابد أن تلتصق في جمجمة شاب بسيط وفقير وإن كان يدرك أنها بعيدة المنال، غير أن تكرار زياراته مكنته من معرفة كل شيئ عن الفاتنة شجون تقريبآ، من نقاط الضعف إلى نقاط القوة ، فسهل عليه اختراق قلبها وشُغفت هي بشبابه ورجولته وأمانته و و و، لكن نداء الطبيعة المتمكن فيها كإنسانة كان أكثر لضى واضطراما.. لولا تقواها وإحترامها للقيم المتوارثه في إحترام عش الزوجية إلى درجة التقديس تقريبآ ، وكان هذا هو العائق الوحيد الذي يمنعها من الاستسلام لغوايات العشق والغرام. تحت السماء الفسيحة ، وفي كل لقاء معه تتراكم كل تلك المشاعر النوعية رويدآ رويدآ ، وتجترها مع نسمات الليل وهي منفردة وفي فترة غياب زوجها الطويل وصمت أبيها أولآ ووفاته ثانيآ واستطاعت بكل ما تحمله من براءة أهل الريف وعواطفهم ان تحبك علاقة "عشق" قوية وصادقة وعفيفة أيضآ ، تحولت فيما بعد إلى التلبس بها بشكل كلي تقريبآ ، ولعل كل تلك المشاعر الجديدة التي ستبدو ظاهرة بالتأكيد لسليمان من دون إفصاح ، ولعله إلتقط اللحظة واستطاع إستثمار رجولته ووسامته وقليلآ من حكايات الحب التي قرأها في الصحف أو المجلات ، وأناخ !! بعد أن أدرك أنها قد شغفت به حبآ وعشقته حتى الثمالة.

ورغم هذا "التلبس" إلا أن "شجون" تمسكت بقيمة العفاف، واستطاعت كبح رغباتها الجامحة تجاه الشاب الوسيم سليمان "الحمّار" "الخضري" "البسيط" والمفعم بالرجولة والحيوية ، واستعذبت ما طرأ عليها من تحولات مختلفة في كيانها كأنثى ، وفي الوقت نفسه إحتفظت بتلك المشاعر لنفسها ، ولكن هيهات لمشاعر كهذه أن تظل كماهي ، مجرد مشاعر تتآكلها مع مرور الوقت ، ووجدت أن لا سبيل لحسم هذا الأمر إلا بالاستسلام للعشق والإيغال فيه من دون التفريط بشرفها وشرف زوجها الطيب ، وفي غمرة هذا الإشتباك الداخلي ، وجدت أن الخلاص يكمن في إظهار هذا العشق العفيف ، وعدم الإهتمام بالألسن الحداد التي ستتناولها، سواء في قريتها أو في القرى المجاورة ، ثقتها بزوجها ومعرفتها بحكمته وهدوئه وما يكنه من إحترام وحب لها، لربما يكون عاملآ مساعدآ لها في الخلاص ، ورويدآ رويدا، استمرأت التعايش مع تلك الألسن ، وقد ساعدها في ذلك سمو شخصيتها واستقامتها التي يعرفها القاصي والداني في "أرض الغمام" وكان لهذا القرار تداعياته بالطبع ، وقد أسهب كاتب الرواية وبصياغة أدبية رفيعة ، واصفآ تلك الفترة التي عاشتها في "مكابرة" قل نظيرها في عوالم العشق العذري بكل مكابداته ومعاناته "تزول منها الجبال" ، ولأنها "شجون" الجميلة والذكية وبحسب قراءآتها البسيطة المختزلة في وعيها ، رأت أن "الطلاق هو الحل الأمثل لتتمكن من ممارسة هذا العشق بحقيقته كما أحله الله وبلا معصية أوخيانه للزوج ، وقد ظهرت في لحظات كثيرة تشفق على لقمان "الحكيم" حمله الثقيل بعد أن "يحصحص الحق" ويتضح الأمر ، ولكن هل سيتفهم الأمر ، حسنآ إنه يثق بها وبرجاحة عقلها أيضآ، ولكنه رجل أيضآ على الرغم من بروده الشديد ، وقد كان لعمّها دورآ في تهدئتها من ذلك الإضطراب الذي تعانيه وكان "لفريدالدين العطار" في "منطق الطير" شأنآ في التأثير عليها من خلال "الشيخ صنعان ولم تكن بعد قد عرفت الحكمة مما قاله "الشيخ الصبري" لها " قليل من ماء العقل يطفئ نار العشق"، وعلى الرغم من محاولات عمها إبراءها مما هي فيه من خلال حكاية الشيخ صنعان في ( منطق الطير) شفقة بها مما تعانية ، لم يلق نصحه لها مكانآ ، إذ أنه مافتئ يردد مقولة "إن العشق حالة فوق الكفر والإيمان" ، وقد رأت ما فعله "الشيخ صنعان" في عشقه وإلى أين إنحدر ..وهي العاشقة العفيفة التي لم تصل بعد إلى ماوصله الشيخ صنعان ، ومطالبتها بالطلاق كحق مشروع هو ما تسعى إليه كهدف يحميها من السقوط !!

كان هذا قرارها والتزمت به مصارحة زوجها الذي عاد في إجازة قصيرة ، صارحته ولم يغضب .. اقترح عليها التأني ..أقترح عليها عدم مقابلة "سليمان الخضري" ، ودارت بينهما حوارات صامتة أحيانآ وأخرى مجاهرة ،صاغها كاتب الرواية بأسلوب درامي غير مكتض بما يكتنف هذه الأوقات في العادة من منغصات فجة !! بين الزوجين تصل إلى الضرب أو الإعتداء وأحيانآ أخرى إلى "الطلاق" ، ومثل هذا لا يتساوق مع هذين "الزوجين" ولذلك أشيد كثيرآ بأسلوب الكاتب حين أختار لغة درامية خفيفة وغير صاخبة تتناسب ومقام هاتين الشخصيتين من دون أن يحدث جلبة ، ولذلك فإن المرحلة الأخيرة من أحداث الرواية وهي الأهم كما أرى ..قد إنتقل إليها بسلاسة .

* هانحن الآن في خضم الرواية ومركز ثقلها وهاهي توافق أخيرآ على زيارة "شجرة الغريب" أوصلتهم السيارة إلى حيث تبدأ رحلة أخرى صعودآ ، ولكن بالحمير هذه المرة .
وهي رحلة عشتُ لحظاتها ومشاهدها المتحركة أولآ بأول ، ومن حين ينطلق فيها لقمان وشجون في صعودهم حتى قمة "الجبل" وباتجاه تلك الشجرة المباركة التي سوف تخلص زوجته من هذا التلبس ! وفي المقابل كانت "شجون" تضمر رغبة في إحداث طلاق سلس بمباركة هذه الشجرة .
واستطاع الكاتب أن يشدنا معه في تلك الرحلة الجبلية لنجد أنفسنا مع الركب صاعدين وراكبين على الحمير في ذاك "النقيل" الشاهق المؤدي للقمة ، نشاركهم الحديث ونلمح شخصية "لقمان" الطيبة على الطبيعة ، كما نرى بطلتنا "شجون" وهي تتمايل على ظهر حمارها الذي يسوسه أحدهم مما نطلق عليهم "الحمّارة" بتشديد الميم ، وتدرك على التو من خلال هيئتها العامة أنها بالفعل كما وصفتها الرواية التي نحن بصدد تفحصها الآن ، فهي لا تتحرج من الحديث مع "الحمّار" أو "السائس" إذا شئت .. وتبادر بالحديث مع عبدالسلام النجار الذي تعرفت عليه وزوجته في السيارة قبل صعود الجبل .
أجد نفسي أسيرآ بالفعل في شباك التوصيفات الساحرة التي أبدعها "الكاتب" وقد أخذتني مع أبطال الرواية إلى منزل صديقه "أشرف" وهناك وجدت "جميل عبدالرب" و "عبدالسلام"النجار والشيخ الأزهري" صاحب مقولة "إن المكان يصوغ أهله" و "الخلطة الخماسية" والرباعية وسيدرك القارئ الحصيف أبعاد تلك العبارات وإلى أي حد قد أثرت على بطلتنا "شجون" فهناك عبارة "فقه المكان الطيب الفواح بالرفق والرقة" وهناك عبارة "غزو الآفات الفقهية" أو "فقه البيئآت الأقسى والعقول الأوعر!!! ويا لها من عبارات عميقة أوردها كاتب الرواية الفذ على لسان "الشيخ الأزهري" في لحظة صفاء منفردآ "بشجون" في إطلالتهما على السفوح الخضراء المتصلة "بأرض الغمام" .
وإلى ديوان مضيفه وصديقه "أشرف" مضينا مع لقمان بعد أن انضمت "شجون" إلى النسوة في إحدى غرف المنزل .
بدأ ت نشوة "القات" تسري بينهم من خلال حوارات راقية في هذا المنزل القابع على منتصف الجبل في قرية جل أهلها من الزراع ومن رعاة الغنم وسائسي الحمير ، حوارات فكرية مشبعة بالأمل والتفاؤل توقاً لبناء دولة ذات حكم رشيد تحقق العدالة الإجتماعية ، حوارات ثقافية وسياسية وإنسانية وزراعية وسياحية وفلسفية وحتى فنون النجارة لم تهمل، وهذا يشير بالتأكيد إلى ما يختزنه كاتب الرواية من ثروة ثقافية متنوعة في مختلف فروع العلم وهو قارئ نهم كما أعرفه وباحث نشط مجتهد كما إنه أديب متمرس بشهادة روايته هذه ( الظل والعاشقة) .
وتصل الرواية إلى نهايتها .. فبعد زيارتها للشجرة المباركة وبعد لقائها بالشيخ الصبري تحت ظلها الملهم وحواراتها مع الشيخ الأزهري ، وسماعها من النسوة ومن أخت "سليمان" بالتحديد وصفاً لساحرة شريرة ستأخذ أخاها بعيداً !! كل ذلك كان له أثر في تغيير مشاعرها قبل أن تعرف حقيقة من كانت تعتبره عشيقها .
لكن تقلب مشاعرها بين مد وجزر، بقي حاضرا، وقد وصف الكاتب كيف أنها تحت تأثير أجواء الرحلة في ناحية جبل الظل أعدت ليلة حمراء مع زوجها في لحظة فريدة لتتأكد بعدها بالرغم من عبق "البخور العدني" وضوء "النوارة" الناعس بأن هذا الزوج لا يمكن أن تستمر معه، هذا الزوج الحكيم المخلص الطيب الذي يحبه كل من يعرفه...إلخ لكنه لا يمتلك زمام مهرة "كشجون" .

* رواية أشهد لكاتبها بالتمكن والربط بين عشق الصورة وعشق الأصل ، إذ أن عشق شجون كان مؤقتاً، على عكس عشق "صنعان" الذي لم ينتهي بماء العقل" ولكنه إستمر إبتداء من عشق الصورة إلى عشق الأصل ، ومن أوقعه في عشق الصورة "كمقام" هو من رفعه إلى عشق الأصل كمقام أعلى" ..وعبر واسطة روحية أيضآ بدعاء أصحابه ومريديه ومحبيه ، بحيث أن ما حصل معه هو "إنتقالة كبرى"في الطريق إلى "السيمرغ" الذي يمثل "الإله" في منطق الطير

والآن ونحن على مشارف النهاية لهذه الرواية التي أخذتنا من قرية إلى قرية ومن "نقيل" إلى "نقيل" ركبنا الحمير مع بطلي الرواية وعشنا معهم لحظات من المتعه، ومن العشق شجون إلى عشق الصورة أو الظل وحتى عشق الأصل المقدس الذي عاشه الشيخ صنعان .
ولعمري، لقد كان قرارها الأخير الذي تنتهي به الرواية "قاسيآ" بعد أن جعلت لقمان في حل من عهده لأبيها "الصامت" برعايتها واحتمالها في كل الظروف،.. وهاهو يقرأ عليها العهد الذي قطعه مع والدها عبدالعزيز الصامت في الحفاظ عليها...إلخ لكنها استمسكت بقرار قاس ضد لقمان وكان القرار هو "إما طلاقها من لقمان أو القبول ببقائه زوجآ بالإسم فقط إذا لم يرد الطلاق".
نهاية مزلزله بذل فيها كاتبنا الرائع جهدآ كبيرآ في تشبيك وحبك موضوع غير مألوف من العشق العذري العفيف بحيث خلق إتجاها مختلفآ بحيث يمكن أن يمثل إصافة جديدة للرواية العربية .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24