الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قراءة في " شرخ الماء " للكاتب عبد الرحمن الخضر
الساعة 13:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)
                             
رواية "  شرخ الماء " هي جديد الكاتب اليمني عبد الرحمن الخضر والتي صدرت موخرا عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع والترجمة، جاءت الرواية 190 صفحة من القطع المتوسط ، وهي أول اعمال الكاتب الروائية.
 
 
الإطار الزمني للرواية يبدأ بمقتل المقدم إبراهيم الحمدي رئيس مجلس القيادة بالحمهورية العربية اليمنية حتى حرب 1994 الأهلية في الجمهورية اليمنية .
تتخلل ذلك أزمنة البناء الروائي وتسلسل الاحداث لتعود إلى الفترة الوجيزة قبل ثورة 1962 وإلى مشاهد من الوجود المصري باليمن عقب الثورة , وإلى المخرجات الأولى  بعد حرب 1994 .
تواجه الرواية الكثير من الاشكال السياسية والمجتعية والثقافية والاقتصادية القائمة خلال الفترة بعد اغتيال الحمدي الغامض والتفجير الشهير الذي تعرض له الرئيس الغشمي  ثم حيازة صالح للسلطة وسيطرته على مقاليد الحكم  .
سنكون بإزاء الحضور القوي للتيار القومي والماركسي في شمال الوطن وللهجمة الشرسة التي تلقاها من قبل السلطة في الشمال خلال الاعتقالات وعمليات الاخفاء والاعدامات والحرمان من الحق في الوظيفة وخلافها من العقوبات والمضايقات التي توقفت مع إعادة تحقيق الوحدة المينية . يتواكب ذلك مع موجة الاغتيالات والاعدامات والحروب الداخلية في الشطر الجنوبي من الوطن مرورا بإعدام سالمين عام 1978 على يد رفقاه عبد الفتاح اسماعيل وعنتر وعلي ناصر محمد والآخرين ,  وتصفية عبد الفتاح اسماعيل وكوكبة من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني عام 1986ببنادق حراسة رفيقهم على ناصر محمد وصولا إلى توقيع اتفاقية الوحدة وإعادة تحقيق الوحدة .
تعالج الرواية  وبوجه خاص العلاقة بين السلطة والحركة القومية والماركسية ( اليسار ) خلال فترة حكم الرئيس صالح , وتشتغل بقوة على عملية غسيل المخ التي مارستها السلطة بحق المنضوين في الاحزاب اليسارية وسياسة العصا والجزرة التي اتبعتها في التعامل ليس مع هؤلاء فحسب بل مع كل المجمتع , وكيف صار الولاء الوطني هو الولاء للحاكم , والخروج عليه هو الخيانة الوطنية العظمي . 
تذهب الرواية في تفاصيل الحياة اليمنية وعادات وتقاليد وفلكلور المجتمع اليمني على المستويين الفردي والجمعي وخلال العلاقات التي سادت بين أفراد المجتمع وبين المجتمع والسلطة الحاكمة .
 إعتنى الكاتب وحاول استحداث شكل للكتابة فيما سأمسيه بالبعد الثالث للإحاطة الحية والمستوفاة بالاحداث والشخوص وصولا إلى مايمكن مقاربته مع مكعب الشكل الرياضي لاستحضار كل مساحات الحدث بما فيه حضور الكاتب والقارئ والمجتمع , والدس بأحداث وشخوص فعلية في تشبيك من الصياغة بين الواقع والمجاز .
وهنا  فلعلنا سنستلهم في شخصية عبد الستار التي تظهر في السطر الأول من الرواية شخصا مركبا من شخوص  عدة عاشت خلال تلك الفترة ومثلت  ذلك المشروع الحضاري الذي بدأ مع قيام ثورة سبتمبر 1962 , لنتابع شخصية عبد الستار لاحقا كتجسيد يطل على الرواية بين حين وآخر للمستقبل, لنصل معه في النهاية إلى ذلك الغموض وحالة الاستلاب للمستقبل الذي أوصد الباب في وجه كاتب الرواية - هذا الذي يأتي دائما كشخص طارئ -  أدلى بشهادته لكنه سيكون بإزاء مسئولية غير واضحة تعززها بل وتكاد تسحقها تلك القصاصة التي تركها عبد الستار " المستقبل " في يد الكاتب وغادره فجأة ليفتحها في نهاية الرواية ويقرأ فيها : مزق كل ماكتبت ياعبد الرحمن , أشفق عليك في مجتمع لايقرأ اليوم وأشك أنه سيكتب غدا .
يظل المستقبل مركبا لم تنسج عناصره كمنظومة رغم مستواه الثقافي والمعرفي في جزئية من هذا المركب , ويبقى ركيكا دائما لايضع نفسه في صورته التامة التي يمكن التنبؤ بمخرجاتها , ويتعرض دائما للهزيمة .
تبدأ الرواية بحضور الكاتب كشخص ابتدائي لايسبق كل الشخوص بل ويضع نفسه كعلامة استفهام .
هذا الشخص المتمثل في كاتب الرواية هو أحد الشخوص من يكتب هذا النص , ويمثل هنا مايمكننا توصيفه بالدالة هذه التي تتطور رويدا رويدا لترمي بفرصة إثر أخرى للتخليق المجازي وليفتح المساحة كلها للنص ليس بمساحة العرض والطول بل وباستحضار البعد الثالث الذي سأسميه بالارتفاع وهو مايعني استحضار الشكل الروائي التام الذي لايذهب إلى مدرسة بذاتها بل يشتغل على سن القلم مباشرة بيد هذا الذي يكاد أنه غادر الاحداث ليصيغها في تجل من مقعده على قمة الزمن , وفرق كبير بين ان تكتب حين تعاشر الحدث وأن تكتبه بعد أن تفسرت لك أسبابه وضروراته ومغازيه.
يبدأ الكاتب في البحث عن عبد الستار حين لمحه في مركز البحوث والدراسات , ويزيح الكاتب منذ البدء هنا الستار عن مشهد التعليم الليبرالي الذي بدأ يسود في اليمن مع قيام ثورة سبتمبر .
في الآن مركز البحوث والدراسات يعج بالأدباء والمثقفقن والفنانين والموهوبين , هؤلاء هم المستقبل الذي يتجسد في عبد الستار الذي يغيب عن ناظر المؤلف حتى السطر الأخير في الرواية , ولايحضر في الاحداث غير مصادفة لبعض حين ليغيب دائما ليأتي أخيرا في نهاية الرواية ويوصد الباب على المؤلف ويطلب منه تمزيق كل ماسطره في الكتاب .
هذه هي خلاصة ما سنصل إليه هنا , ولنذهب وندع هذا العبد الستار الذي لم يعثر عليه كاتب الرواية وكادت أن تمزقه عجلات السيارات وهو يركض وراءه دون جدوى بعد أن غاص في جموع البشر . 
ليس غير أن يذهب عبد الرحمن إلى صنعاء القديمة ليخلي كل تبعاته في مساراتها التاريخية هناك , وليندسّ المستقبل في تلك البقعة الزمانية من سوق السمك بمنطقة القاع .
  وتهتن الرواية هنا بقطرات متفرقة كمقدمة موسيقية تحتوي نتفا من مطر الرواية الغزير القادم في المقاطع التالية على الموتيفة الرئيسة للّحن . 
وليبدأ المقطع الثاني كعاصفة رعدية بالفاجعة اليمانية في مقتل إبراهيم الحمدي , ويشتغل المؤلف هنا على تقنية البانوراما لتكثيف الاحداث الرومانتيكية لمقتل الحمدي بدءا ببيان العزاء الذي أصدره مجلس القيادة  في الجمهورية العربية اليمنية , حينها وتولي الغشمي لمقاليد الحكم , فمقتل الغشمي بتفجير الحقيبة التي كان يحملها مندوب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الملقب تفاريش , فإعدام سالم ريع على رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لينتهي هذا المقطع بتقدم القاضي عبد الكريم العرشي بترشيح  المقدم علي عبد الله صالح قائد لواء تعز سابقا إلى مجلس الشعب التأسيسي كرئيس للجمهورية العربية اليمنية , وهنا يتم اعتقال المواطن عبد الملك وهو الشخصية الرئيسية في الرواية .
المقطع الثالث يتحدث عن فترة الاعتقال الأولى لعبد الملك والتي يتعرض فيها للتحقيق الأوّلي وتعرضه للتعذيب النفسي والجسدي والاشتغال على تقنية غسيل المخ فهم من ينتشلونه من من الورطات التي يضعونه فيها وينقذونه حتى من الموت حين لايكون بمقدور احد فعل ذلك سواهم  .: 
" يجلس فوق مقعد صغير قبالة ضابط تفصله عنه طاولة مستطيلة, تدل ملامح بشرته على خمسة وعشرين عاما في لباسه العسكري, تعتلي هامته البريه البيج, يشمخ في مقدمتها نسر, وعلى جانبيه رسمان لعلم الجمهورية العربية اليمنية بالأحمر على يمينه, والأسود على شماله, وفي الوسط الأبيض تتنصّفه النجمة الخضراء. 
 هذا الضابط العشريني يعج بالحيوية والحماس, وكأنه يقلع على مسافة من مهبط مقعده.
 -  "هل ترى هذا؟" قال ضابط الأمن الوطني وهو يشير إلى مقدمة البريه الميري المتدلية فوق جبهته.
- نعم منذ أن قعدت هنا أشاهد عليها الشعار والعلم الوطني. رد عبد الملك.
- ماذا يعني الشعار؟
- اليمن في القمّة. 
- إلا أنتم أيها العملاء لا تحلقون مع اليمن, أنتم وطأة. وهذا ماذا يعني؟
- العلم الوطني. 
- ليس وطنكم, أنتم تهيمون في موسكو وبكين وعدن, وهذا فقط ما تعرفونه: الحزب, الثورة, الأممية, البروليتاريا, المنجل, المطرقة, التأميم, والفودكا.
أيها الوقحون, أيها السفلة, صوت الأنتونوف الروسية تقلع من مطار صنعاء إلى موسكو أشجى من حنجرة علي الآنسي بالسلام الوطني  إلى قلوبكم.
كان عنيفا في كلماته الأخيرة, وكاد أن يرتفع فوق مقعده ليهوى فوق رأس عبد الملك .
ها هو يحاول أن يترفع عن هذا المنزلق المعنوي الذي وضعه فيه الضابط بلباس عسكري حين انتبه أخيرا إلى الضابط بلباس مدني يلقي عليه سؤالا خاصا وحميميا في طلعته الأولي. التفت نحوه في شرود عميق.
- التفت نحوي نعم, دعك من هذه الحجرة المظلمة اللعينة, ومن تلك الأسلاك. أما زميلي فأنا من سأتولى أمرك معه, هو لم يذكر لك غير المطرقة والمنجل والثورة والبروليتاريا. دعنا من الفودكا. هو لا يعلم أنك تقرأ لبوشكين, وديستوفسكي, وغوركي, وتولوستوي. لم يشر إلى الشق الجمالي منك, هكذا هم العسكر, خشنون دائما وعنتريون.
يتوقف ليأخذ نفسا عميقا: أظن أنك تستمع إلى تشايكوفسكي يا وجيه, ما رأيك في كسارة البندق؟ أنا صاحبك هنا, فكثير مما يجري هنا لست براض عنه "
وهكذا يشعرونه دائما بأنهم من يقفون إلى جانبه هؤلاء الذين تسببوا له في كل القهر والتعذيب " حتى لأنهم يطعمون كلب الحراسة اللحم والبيض المقشور وليس غير قطعة من الخبز جافة بيد عبد الملك :
" لم ينم تلك الليلة عبد الملك. في الصباح نقلوه إلى المشفى مغميا عليه, كان لابد من غرفة الانعاش. 
- عثرت عليها في الفناء - قال سالم وهو يضع ورقتين في يد عبد الملك – بعد أن أخرجوك من المشفى وأين القلم؟ 
القلم في يد عبد الملك كمن بصدد أن يخط به على الأسطر ولايزال.
تناول ورقة بالفعل وبدأ سيكتب. يشعر في قرارة نفسه بأنهم قد أنقذوه من الموت. كان بإمكانهم تركه يموت في العزل الانفرادي. أن يلفقوا تقريرا بموته بكامل صحته وعافيته داخل المشفى. شيئا أسوأ من هذا أن لا أحد سينقله إلى المشفى لو أنه لم يكن هنا. في بيته مثلا, ذبحة صدرية, ولم يعتن به الأطباء هذا الاعتناء الذي أحاطوه به, كان ولاشك سيموت.
 لمرات عديدة شاهدهم في المشافي كيف يهملون المرضى. كيف يرصّونهم فوق رصيف المشفى في حالة حرجة دون أن يصلهم طبيب. أن يموت المريض تحت إجراءات الفحص الروتينية الطويلة. أن يموت حتى في غير أجل الله.
إلتقط إحدى الورقتين وتناول القلم وبدأ يكتب"
هذا المقطع هو مقدمة لمراحل من الاعتقال التي  يعيشها عبد الملك لاحقا وهنا يتم الاشتغال على تقنية الفلاش باك في المقاطع التالية بإسقاط مراحل من حياة عبد الملك ورفاق له آخرين وشخوص من الواقع والبيئة اليمانية ومشاهد ومعايشات مختلفة للمجتمع اليمني خلال الشخصيات الواردة بالرواية .
يعالج المقطع الرابع مرحلة الطفولة لعبد الملك مع قدوم الجيش المصري إلى اليمن لدعم ثورة سبتمبر 1962 :
" عاش صباه في القرية مع قدوم المصريين بجيشهم إلى اليمن للانتصار لثورة سبتمبر 1962. تأثّر عبد الملك كثيرا براديكالية المرحلة, وبحنجرة عبد الناصر تسيل لعاب الثائرين. كان في الثامنة من عمره عند قدوم المصريين.
وسط دهشة عبد الملك صغيرا, وكل الصغار والكبار والنساء والرجال, انتشر المصريون حول القرية ببزاتهم العسكرية, تلتحف أقدامهم أحذية ضخمة, وعلى رؤوسهم قدور من الحديد, من أين أتى هؤلاء؟ وكأنهم من قوم عاد. 
منذ اللحظة الأولى قال عبد الملك لعمته عندما عاد إلى المنزل: هؤلاء كفار يا عمّة, رأيتهم يخرجون قضبانهم من سراويلهم الطويلة, ويتبولون واقفين" 
في هذه المرحلة ينقل المصريون الطفل عبد الملك مع زملائه الآخرين من المعلامة بالمسجد إلى مدارس نظامية في الخيام التي أقامها المصريون حينها والتي استبدلوها لاحقا بمبنى مدرسي من ستة فصول لأول مرة في قرية من الريف اليمني  
" قال لهم المعلم المصري عبد الحميد: الناجح منكم بعد عامين سيحصل على شهادة مكتوبة بماء الذهب. علقت ماء الذهب هذه في أذهان التلاميذ. كم هم شغوفون بقراءة ماء الذهب في المستقبل.
منذ الآن يجلس التلميذ على مقعد وليس على حصيرة المسجد, ومنذ الآن عرف التلاميذ الدفتر, والسبورة, والقلم, والمسطرة, والسنتيمتر, والفرجار, ونصف القطر, والواجب المنزلي, والمنشور الثلاثي, والرقعة, والمفاعيل, والكسر العشري, والمثلث, والدورة الدموية, والربع الخالي, وفرديناند ديليسبس وقناة السويس, وكاكاو غانا. 
في هذه الاثناء شرع المصريون في إنشاء مشفى جنوب المدرسة, وجامعا جنوب المشفى, وملعبا رياضيا شرق المدرسة والمشفى, ودارا للسينما شمال الملعب, وهناك وفي الغرب بعيدا من هنا كان العمل يجري ليلاً بنهار وحثيثا لإنجاز المطار. وكلها أسموها بالثورة: مدرسة الثورة, مشفى الثورة, وجامع الثورة, وملعب الثورة.. والسينما والمطار." .
ويذهب عبد الملك خلسة من الفقيه مع الكبار ليشاهد السينما هذه التي يتحدث عنها أهل القرية بعحب لايوصف في معسكر المصريين :  
" في العادة كان صوت أم كلثوم يصدح من مكبر الصوت في الموقع الذي سيتم فيه العرض السينمائي في معسكر المصريين فتظل المجموعة تتتبّعه – بعد ما اطمّن عليك حيجيني نوم يا حبيبي - حتى يصلون.
ها هو عبد الملك قد عاد إلى كوخه, يتمدد خارجه في العراء كما هي العادة في ليل القرية المفتوح. عيناه تجولان في السماء بين أجرام جاليليو, مدهوشا بحياة تتمشى في معسكر المصريين على خرقة بيضاء مربوطة إلى هيكل ناقلة الجند الفيرجو الروسية. أين تكوَّن هؤلاء البشر؟ أين تخلقت هذه الحيوات لتنطلق على هذه الخرقة؟
 كيف تسع هذه الخرقة البشر, والمدن, والطائرات, والصحاري, والبحار, والأرض, والسموات, وماري منيب, وشكري سرحان, وهذا العبد الناصر بشحمه ولحمه يلوح بيديه للعسكر وللأمة وعلى لسانه القومية العربية أبدا, وسيرمي بإسرائيل في البحر, وما يفل الحديد إلا الحديد, وعمر الشريف يطبع قبلاته على شفتي فاتن حمامة, وتعزف الموسيقى المصاحبة روعات الكلاسيك العالمي وتلمس زغب أحاسيسه البكر.
 كل هذا مع طفل من ثمان سنوات, ليس في كوخه ما يضيء غير سراج الكيروسين  بفتيلته العارية ولونه الكابي وكربونه المترسب بالأسود.
صباحا, هناك من وشى بعبد الملك وبقية التلاميذ, أخذ الفقيه يلوح بشوط الخيزران في وجوههم: 
- رحتم السينما هههههه.... ويضرب على أكفهم وعلى أقدامهم.
- هاجرتم إلى الشيطان هههههه... ويضرب على ظهورهم. 
- من سيعود إلى هناك ثانية سأقطع لحمة منه, وأذهب بها إلى أبيه, وآكلها أمام عينيه "
في المقطع التالي سنعرف أن عبد الملك عاش يتيما فلقد توفي ابوه بالجدري وماتت امه على ولادتها بأخيه الثاني , ومات أخوه بالحصبة فيما نجى هو بعد أن أفرغوا في جوفه فضلات كلب من لكلاب , وقضت أخته بالسل , لتتولاه جارتهم مليحة هذه التي تعلمت للقبالة وضرب الإبر لدى المصريين واشتغلت معهم بالمشفى ولأنها كانت تحب اباه لكن النصيب أخطأها ليتزوج أبو عبد الملك أخرى .
في هذا المقطع يذهب بنا المؤلف إلى الحياة في القرية , وإلى قصص الحب البريئ التي تتجلي في قصة الحب المأساوية لزميله حسام " رفيقه لاحقا " :
" في نهاية يوم السوق الأسبوعي الكبير, حين يغادر المتسوقون, يكون الليل قد انعقد. بُعيد الفجر يأتي الحمام في جماعة ليلتقط حبوب الحنطة التي تخلفت متناثرة في المحناط . دائما ما يكون حسام هنا ليحظى بحمامة إلى منزله من هذه الحمامات, ويقترب رويدا رويدا ليمسك بها فيطير الحمام, ووحده لا يطير. كان يحلم أنه سيطير وسط جموع الحمام, لكنه في ذات اللحظة يصحو.
أتمَّ انتظاره إلى الليل, صعد على كتفي عبد الملك, وتسلق قطع الياجور  المكشوفة في الجدار الخلفي لتلك الحجرة. وحين شعر بصدره يحك بطرف السقف وقعت عيناه على الحمام يغط في نومه, وكل الفرص اجتمعت له الأن. وكطرفة عين طار كل الحمام, وكأنها تلمست نظراته. شعر بالعجز: لماذا لم يمسك بتلك الواحدة عند طرف يده؟ لماذا يده لا تطير؟ في تلك المرة التي شعر فيها بحضور المرأة في مشاعره, وبدأ قلبه يخفق بطريقة أخرى, كان عليه أن يهدي فتاته حمامة. في هذه المرة رآها وحدها وسط الحجرة, دخل وأمسك بطرف يدها نحو الجدار, وأسندها إليه, وقبض على كفها, ووضع في يدها الأخرى حمامة, طارت الحمامة, وظلت يدها تقبض على يده. 
لأيام كثيرة ظل يرغب أن يمسك بيدها ويتحدثان معا, حتى لأن ثوبها سيلمس بعض مكان منه, لكنه ظل يتهيب أن يقول بشيء لها, ويغنّي: "حيَّرْتِ قلبيْ معاكْ.. وانا بَداريْ وخَبِّيْ". وفعلها هذه المرة, قبضت شديدا على كفّه, وكأنه حنان الكون بين يديه. ضمّها إليه, ولأول مرة ها هو الآن يقبل خد أنثى. لأول مرة يلمس جسد أنثى لطيفا كماء يسيل "
لكن الشيخ زاهر يتسلط  على أسرة  الفتاة هديل هذه التي عشقت حسام زميل عبد الملك , ويطلب الشيخ يدها كزوجة خامسة لكنه سيطلق زوجته الصغيرة لأنه لن يقوى على شابتين في آن واحد مع شيختين هما الثالثة والرابعة , ولتهرب هديل مع حسام ويعاشرها أثناء هروبهما إلى بيت الشيخ عايض وتجرى لها عملية إجهاض سرية بعد هروبها وليظل حسام في السجن  يغادر حسام القرية بعد خروجه من الحبس إلى الحدود مع العربية السعودية ليشتغل في تهريب القات مع يمنيين آخرين هناك , ولتتزوج هديل أخيرا على الخنثى سليم  سائق ومرافق الشيخ زاهر  لتتعرض هديل لمضايقات الشيخ زاهر وعدوانه الجنسي : 
" عادت هديل وأصيبت بالمكرفس , وكادت أن تقضي, لم تكن لتستطيع الوقوف على قدميها, أو الذهاب إلى المرحاض إلا محمولة, وتآكلت ساقاها, فنقلوها إلى بيتها تحت عناية أمها. في هذه الأثناء تسلّم حارس السجن أمرا خطيا يقضي بإطلاق سراح حسام وإخلاء سبيله "
" تماثلت هديل للشفاء بعد شهر من المرض, وكان الشيخ زاهر على رأس المرافقين لسليم إلى بيت خالته لطلب يد ابنتها هديل. بعد شهر من الخطبة زُفَّتْ هديل إلى ابن خالتها سليم. وبعد عام ونصف العام وضعت هديل إبناً أسماه سليم: زاهر بن سليم. عادة ما يحمل سليم صغيره زاهر بن سليم ويضعه في حضن الشيخ زاهر قائلا في حبور: سبحان الخالق الناطق, اسمٌ على مسمى يا شيخ, إنه نسختك." 
    " غادرت هديل بيت زوجها سليم, كانت تشتكي من مضايقات الشيخ زاهر. عضلت عند أمّها, ولم تعد إلى سليم. ظلت تعاني من ضغوط نفسية, وظهرت عليها ابتداءا عوارض المنخوليا. طافت بها أمها مليحة على الفقهاء والسادة ومراكز الرقية الشرعية, لكن المرض ظل يتطور وحالتها النفسية تسوء, وتكاد تفقد الذاكرة تماما. وفي آخر رحلة علاجية وبعد أربع سنوات من المعاناة انقلبت بهما السيارة مع ركاب آخرين أثناء عودتهما, توفت هديل, وتم إسعاف أمها مليحة إلى الحديدة, كان عبد الملك هناك في المرحلة الثانوية من دراسته وبذل كل جهده ليصنع شيئا كي تظل على قيد الحياة, لكن عمّته مليحة كانت تموت. وبكت عليها صديقتها ميسون ورافقتها مع عبد الملك وزوجها سائق اللاندروفر إلى القرية ودفنوها هناك مع الآخرين جوار قبر ابنتها هديل."
في المقطع السابع سنكون مع دخول عبد الملك إلى المدينة للمرة الأولى في حياته وانبهاره بالحياة وسلوك الناس هناك :
" في مرته الأولى حين غادر قريته عبد الملك- لدراسة المتوسطة- إلى مدينة الحديدة, للمرة الأولى يرتاد مدينة. حين دنا من المدينة وكأن نجما يتلألأ هناك على كف البحر في الليل.
- تلك هي الحديدة. قال أحدهم. 
شعر عبد الملك أنه يغادر كوكب الأرض, لم يكن يعرف حينها أن بالإمكان السفر إلى الفضاء لكنه شعر بأنه عما قليل سيكون هناك . أحس وكأن أنثى تداعب مفاصله حين داست عجلات السيارة على أسفلت الطريق لأول مرة في حياته بعد العناء الذي كابده لست ساعات في الطريق الرملي من حفر ورسوبات رملية خلّفتها الأمطار. تفاجأ بالحديدة, من الذي رصّ هذه الأبنية على طرفي الأسفلت كفرقتي رقص تتقابلان وستبدءان في الرقص حالا, وكأنه يسمع طبولا تقرغ من مكان ما.
ولماذا لا تكفّ هذه السيارات عن الدوران؟ ألا يستريحون بعد قضاء حاجاتهم كما نحن في القرية حين نصل بيوتنا على ظهر الحمار ونربطها إلى مأسرها هناك, هل تسير على مزاجها؟ وهؤلاء الذين لا يكفّون عن ارتياد المتاجر والمحلات والمطاعم, وكأن النقود تتساقط إلى جيوبهم من السماء. وهؤلاء الذين لا يتوقفون عن السير غادين رائحين. لا شأن لأحد بنظام المدينة إذن, هي من تدير نفسها. 
فتنته هذه الصورة: (الحديدة لعبة جميلة لا تكفّ عن الدوران) " .
وهنا يبدأ ذهن عبد الملك يتفتح على مجريات الاحداث الوطنية بدءا من سنتة الأولى الدراسية باحداث الخلاف بين حسن العمري وعبد الرقيب عبد الوهاب , والقصف بقذائف الدبابة الذي تعرض له كل من مقر المقاومة الشعبية ونقابة العمال بمدينة الحديدة .
ونذهب مع المؤلف لنتابع كيف تطورت حياة عبد الملك في المدينة منذ التحاقه بالتعليم المتوسط فيها وحتى انضمامه لإحدى الاحزاب الماركسية وكيف اكتفي بحصوله على الثانوية العامة وغاص في الأدبيات الماركسية باعبتارها تحتوي كل العلوم :
" لم يكمل عبد الملك دراسته الجامعية, كان قد التحق بأحد التنظيمات الماركسية بعد حصوله على البكالوريا أثناء أدائه لخدمة التدريس مع مجموعة من المدرسين الذين سبقوه كأعضاء في هذه التنظيمات السرية. ظل يطالع الأدبيات الماركسية بحفاوة بالغة, وبدأ يشعر أنها العقيدة التي ستنهي كل المظالم التي حلت بالعالم خلال التاريخ. انتابه حماس عظيم, وبلغ درجة الإيمان, وظل على يقين بأن الماركسي وحده من يجوز أن يحمل صفة الثوري على وجه هذه الأرض, وليس في اليمن فحسب. 
نذر نفسه لخدمة التنظيم, وأن التعلم ممكن ليس بالضرورة في الالتحاق بالتعليم الجامعي, بل أنه يستطيع خلال نشاطه الحزبي وبواسطة تلك الكتب والنشرات والتي توزع على الرفاق أن يتعلم أفضل من طلاب الجامعات, وأن النظرية الماركسية قد تضمنت كل العلوم, ولديها القدرة المحيطة بنقد وتفنيد كل النظريات المخالفة, والسيطرة عليها " 
سنعلم هنا بأن حسام قد عاد من الحدود إلى مدينة الحديدة ليشتغل سائقا على عربة لنقل البضائع من الميناء إلى المتاجر بالمدينة , وليستقطبه عبد الملك إلى التنظيم ويشتغل حارسا بالمؤسسة التي كان قد عبد الملك قد التحق للعمل فيها .
سنكون بصدد حضور عبد الستار هذا الذي ابتدأ به المؤلف روايته في الفصل الأول  في تلك الليلة التي استضاف فيها علي عبد الله صالح الأدباء العرب في الحفلة الصاخبة التي أقامها لهم بفندق شيراتون في صنعاء بعد ختام مهرجان الشعر العربي في عدن , وكيف بعبد الستار ثملا ينتقد في سخرية بالغة النظام الشيوعي الذي وصل مرحلة الهرم ويتخلف بمراحل عن النظام الرأسمالي : 
" حين عاد إلى الفندق المخصص لإقامة الأدباء والفنانين اليمنيين ظل يردد : 
"لقد نفق زعيمنا العظيم. إنه يتناول المخدرات. لا يستطيع السباحة, وكاد أن يتقلب بسيارته على نهر الفولجا وهو يقود سيارته متأثرا بالمخدر. المناضل الكبير لم يعد جديرا بالحكم, إنه يموت على منصة الحزب العظيم. لقد أمسكوا به وهو يترنح قبل أن يسقط على الأرض وهو يلقي خطابه وسط الجمهور الشيوعي العظيم." 
- كيف حصل هذا يا رفيق؟
- كان قد تناول حبوبا مخدرة قبل ساعتين علي يد عشيقته وممرضته الشابة, هذه التي أهداها شقة من ثلاث غرف في مبنى اللجنة المركزية, ولكن كل شيء قد تم على ما يرام, لقد انتهى الاحتفال بالنشيد الأممي والكل يرفعون الشارة الحمراء, هات لي كأسا أيها الرفيق الكبير) 
- لقد شربت حتى لتكاد أن تصير أمريكيا يا رفيق.
في تلك الليلة ربت عبد الستار على كتف الرفيق الكبير: 
يا رفيق نحن لا نناقش شيئا من أمرنا. إنهم لا يشربون العصير في عدن. ولم تتمكن موسكو من صناعة الكولا, فيما تصنع سيارة الزل العجوز بعشرة أضعاف من الحديد لسيارة أمريكية أو يابانية هذه التي تشبه مراهقة في الرابعة عشرة. هل سمعت عن اتفاقية الفودكا كولا؟ إنهم يصدرّون الفودكا إلى أمريكا كي يحصلوا منها على قارورة الكولا. ويتعطل الباص بالبلوريتاريا في الطريق إلى المصنع في ليننجراد, في حين يركب العامل الأمريكي سيارته الفورد الخاصة في طريقه إلى المصنع في نيويورك. 
يقال إن أحدا تحدث عن عبد الستار لدى جهاز أمن الدولة في عدن, وأنهم قبضوا عليه في طريقه إلى عدن, وأنهم يضربونه ليل نهار, ويطفؤون السجائر في خصيتيه, وأنهم غلوا قدر ماء وسكبوه على صدره حتى تقشرت جلدته وبانت عظامه للعيان, ويسمعون أنينه كل ليلة عند الفجر بأبلغ من أي وقت مضى "
في نهاية الفصل سينلتقي هنا بمراد عبد الحي هذاالذي استقطبه عبد الملك إلى التنظيم في بيت الرفيق الكبير الذي لايلتقي فيه أعضاء التنظيم فحسب بل وكثير من الادباء والمثقفين والهواة الذين يتداولون في نتاجاتهم الادبية من شعر وقص وخلافها من الكتابات :
" عادة مايلتقي الرفاق في بيت الزعيم الكبير. الزعيم الكبير هو الأب الروحي لكل الرفاق. أكثر استقطابات التنظيم بمراحلها المختلفة تتم في بيته, بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ستجد نفسك كزائر غير مرة وقد أصبحت شغوفا بل مؤمنا بما يقوله هؤلاء الرفاق. كانوا يتداولون في الفن والأدب وليس في السياسة فحسب. يحضر مساءا سياسيون وأدباء وفنانون, وإليهم الهواة من يتوفرون على الموهبة ليختبروها هنا وليذهبوا بعيدا بها إلى الأمام. لا يختلفون أبدا حول أدبيات التنظيم والنظرية الماركسية, لكنهم يتناقشون فيما يكتبون من قصّ أو قصيد, وسيتفقون, وسيختلفون إلى درجة أن يرمي أحدهم الآخر بما في يده, أكان قلما أم كتابا أم كأساً من الفودكا." .
منذ الفصل التاسع سنكون مع شخصية مراد عبد الحي هذه التي تضيء لنا على ملابسات وظروف العمل التنظيمي في الحياة العامة وسنكون بصدد أربع قضايا رئيسية هي :
1- فصل كل الموظفين والعكسر المنضوين في الاحزاب القومية واليسارية من وظائفهم الحكومية ولدى القطاع العام .
2- العقبة الكاداء التي كانت تمثلها شهادة السيرة والسلوك التي يصدرها الجهاز المركزي للأمن الوطني " المخابرات " والذي بدونها لايمكن قبول أحد في أية وظيفة أو عمل لدى القطاع الحكومي أوالقطاع العام .
3- ملابسات وظروف تكوين المؤتمر الشعبي العام وصياغة الاخوان المسلمون للميثاق الوطني للمؤتمر 
4- وتسيد الفساد لكل مظاهر الحياة في اليمن على المستويين الشعبي والرسمي
" قال الرفيق الكبير:
- وتوطّدت منظومة الفساد منذ المواطن الجاهل الذي استمرأ هذا السلوك واستحسنه, ثم ها هو يدافع عنه, ولقد ارتبط جميعهم بشبكة الفساد وتحددت مصلحتهم فيه, وسيدافعون وسيستميتون في الدفاع عنه. 
وتذكرون ولا شك بأنا كنا نعيش أحداث الانقلابات المتوالية, لكن الأمر قد حسم, فعلبة فول واحدة من كل كرتون يوزع على المعسكرات في السهول والجبال كفيل بإثراء هذا القائد العسكري في صفقة واحدة, فعلى ماذا سينقلب؟ ولماذا؟ بل إنه سيستبسل في الحفاظ على النظام القائم, ليحافظ على هذا المورد العظيم. حتى لأنه قد أتم إفساد المثقفين, إقرؤوا ماذا يكتبون في صحيفتي الثورة والجمهورية, لقد تحولوا إلى مطبّلين, وسكرتارية, وتوجيه معنوي.
ولم يكن المؤهل أو كفاءة الأداء من الشروط الحاسمة كما هو الولاء لرئيس العمل, بما يعنيه هذا من ممارسة السرقة جهرا تحت حماية هذا الرئيس, ولم تعد من معنى للوظيفة غير توظيفها في سرقة المال العام, سواءًا تلك إلى خزينة الدولة من دافعي الزكاة والضرائب ورسوم وثمن الخدمات, أم تلك من خزينة الدولة خلال الانتقاص والسرقة من المشاريع تحت التنفيذ.
 وسيتعرض الموظف الشريف إلى المضايقات, وسيصل الأمر إلى تلفيق التهم بحقه, وستجد المواطنون يشهدون عليه, ويوقعون تحت أي دعوى يرفعها ضده المسئول المرتشي كشرط كي تتحقق مصالحهم أو تنجز معاملاتهم, أو بمبلغ من المال لا يتعدى تخزينة يوم واحد, وبعض الزملاء سيتواطؤون عليه كي يحوزوا على رضا رئيسهم وكي تمتلئ جيوبهم من السرقات , فهذا هو معيار الرضا كي تستمر, والترقية كي تتطور, ولا تربط حمارك بجانب حمار المدبر- ومن تولّى على بيضة أكل منها . 
وسنرى أن الاخلاص للعمل سيكون وبالًا على صاحبه, فلقد أدمن الجميع الإرشاء والارتشاء, وسيصنفون هذا المخلص للأنظمة واللوائح كمعرقل لمصالح الناس, وضدا عليها حين لا يقبل الرشوة كي ينجز معاملاتهم, فلا معاملة تنجز أو مصلحة تتحقق غير بالرشوة. ولم تكن لتمر عملية أو يتم أي إجراء إلا بسلسلة من الرشوات في كل مرحلة من مراحلها. ومعها الهدايا – من المرؤوس إلى الرئيس - وحزم القات, وكباش العيد وأقراص العسل في المناسبات, وفي نهاية كل شهر هناك مبلغ من المال يتعهد به كل مسئول أدنى إلى المسئول أعلا منه, وستكون الفرصة سانحة للبديل من سيدفع أكثر. وتخلق جيش كبير من المنتفعين والذين أضافوا زخما لشبكة الفساد, وكانوا اللازمة الرئيسة لها من مقاولين ووسطاء وغيرهم. وانخرط الجميع في الفساد فلم يعد ممكنا لأحد العيش خارجه. والمرتبات ثابتة ومنحى التضخم في تصاعد على الدوام دون أي تدخل من الدولة التي لم يكن يهمها غير كسب الولاءات. وصار الولاء لرأس السلطة هو الولاء الوطني, وصارت بطاقة المؤتمر الشعبي العام من تمنحك الحصانة, وفي هذا فلقد اتجهت جماعة الإخوان المسلمون إلى الانخراط في المؤتمر الشعبي العام, وصاغوا ميثاقه الوطني " 
بعد توفر مراد على كل متطلبات التوظيف لدى البنك المركزي بالحديدة  .
عقب عودته من القاهرة بشهادة البكالريوس في العلوم المالية والإدارية إلا أنه يظل لسنتين في انتظار صدور شهادة حسن السيرة والسلكوك من الجهاز المركزي للأمن الوطني , وذهب ليعمل لدى أحد التجار لكنه ترك العمل بعد ماتبينت له المغالطات التي كان يمارسها رب العمل مع الجهات الرسمية ذات العلاقة كالضرائب , وفي مصادفة في بيت الزعيم الكبير يتعرف مراد على أحد العناصر في أحد التنظيمات الناصرية والذي يتدخل لدى رفاق له لازالوا يشتغلون في الأمن الوطني بعد ان التحقوا به في فترة حكم المقدم إبراهيم الحمدي ليستخرج له هذه الشهادة .
( نهض أخيرا مهيوب ليودع رفاقه, وليأخذ بيد مراد ويخرجان, ويستقلان السيارة: ستأتي يوم غد إلى هنا لتستلم شهادة السيرة والسلوك. وربت على كتفه: مبروك.
في صباح اليوم التالي وعند التاسعة, كان مراد يقف بمواجهة البوابة الرئيسة لمقر الأمن الوطني. سأله أحد الحراس هناك على الفور: من أنت؟
- مراد عبد الحيّ.
أشار عليه الحارس بالتحرك إلى طرف الجدار نحو غرفة صغيرة: ستجد أحدهم على مكتبه هناك, قل له من أنت فوراً, ولا تزد.
تحرّك مراد نحو الغرفة الصغيرة, وأحس أن أحدا يحركه وليس هو من يسير. 
- صباح الخير, أنا.... (لم يأمرني الحارس بصباح الخير هذه لكن..) أنا مراد عبد الحيّ.
تفرّس الموظف في وجهه وهو يفتشه: من أرسلك؟
- مهيوب. قالها وكأنها سقطت منه.
أدار الحارس بكرة مفاتيح جهاز التليفون فوق المكتب الصغير واتصل على جهة ما: إنه مراد وأرسله مهيوب, وانتظر لنصف دقيقة يستمع للتوجيهات ثم أعاد السماعة. قام الحارس وخرج من ذات الباب الذي دخل منه مراد: انتظر هنا.
 ذهب الحارس بعد أن أقفل الباب جهة الشارع. لاحظ مراد أن ليس من باب يصل بين هذه الغرفة والداخل من مبنى الأمن الوطني. هو الآن لا داخل الجهار ولا عرض الشارع وكأنهم يقولون له: أنت وحدك الآن, وإلى أجل غير مسمى. مرت إلى الآن ثلاث ساعات وهو ينتظر: لعلهم سيتناولون الغداء ثم يأتون نحوي. تخيل شهدي عطية يلف على العنابر بعد أن ضربوه وحطموا نفسيته حتى فارق الحياة بنوبة قلبية كما يقول الطبيب الذي كتب تقريره داخل أبو زعبل.
 كل شيء سيكتبونه عن مراد عبد الحي هنا داخل مبنى الأمن الوطني. هل يعدون شهادة الطبيب الآن؟ هاااااه؟!!!!! شهادة السيرة والسلوك؟ 
في الواحدة بعد الظهر سمع كمن يفتح عليه الباب من الخارج, بل لعلها حشرة كانت تتحشرج في أذنه. بعد نصف ساعة شاهد الباب ينفتح من الداخل, وكأنه سيُلقي بأحد ما على الأرض, بل شخص بالزيّ الرسمي يمد إليه ظرفا كاكياً نصف متوسط: لقد منحوك شهادة حسن سيرة وسلوك.
شعر مراد بكل أبواب الدنيا المغلقة تنفتح للتو, وخطى نحو الباب المطل على الشارع. لم يفعل شيئا غير أن دفعه فانفتح. وكأن النهار جاء بعد سنوات من الظلام. أراد أن يغني لكنه انتظر حتى مائة خطوة عدّها كما يجب, وأطلق صافرا طويلا وغنّى: 
"جَدِدْتْ حُبَّكْ ليه.. بعد الفؤاد ما ارتاح 
حرام عليك.. 
خلّيه غافل عن اللي راح ) . 
في الفصل العاشر يطل علينا المؤلف بذاته هو ليستعيد المشهد الذي تركنا فيه في أول الرواية حيث ياقته معلقة هناك , وكتاب القرآن وعلومة للصف الثالث ابتدائي مفتوحا على يدي ابنته , وسنعلم أن هذه الواقعة مع ابنته حين حين كان المؤلف يكتب روايته وليأخذنا معه في ذلك الضنك المدرسي الذي يعانيه التلاميذ من المنهج الممتلئ بما لايرتبط بأية علاقة مع العلم وضرورات العصر .                               
بعد فترة من مباشرة مراد عبد الحي  للعمل بالبنك المركزي يقوم الأمن الوطني بحملة كبرى لاعتقال كافة الحزبيين العاملين بالبنك المركزي من الذكور , إلا أنه ولسبب أو آخر لم يكن مراد متواجدا بالعمل في ذلك اليوم .
كان مراد قد عاش قصة حب مع زميلته الفاتنة سامية وتزوجها بعد عامين من عمله بالبنك المركزي  :
" حين وضعت الفرّاشة كأس الشاي فوق مكتبه وضعت أيضا شفتيها عند أذنه:
- وأنا قادمة بالشاي إليك أمسكتْ بيدي سامية وهمست في أذني: إذهبي أولا بكل الشاي إلى الموظفين حتى لا تخطئين في كأسه لدى أحد منهم, وعودي إليّ بكأس مراد قبل أن تذهبي إليه, هكذا قالت سامية "مراد" ولم تقل "المدير", وها هي غمست ورقة نعناع في كأسك, كأسك وحدك بالنعناع. عفوا يا مدير, لابد أن أكون مخلصة, هكذا أنا دائما في عملي هنا منذ توظفت قبل عامين من الآن. 
حين تبسط المرأة حنينها فكل الرجال سبّاحون, حتى أولئك الذين لم يتعلموا السباحة قبل الآن سيبدؤون في الطرف من ساحلها. شاع خبر علاقتهما, لم يشاهدهما أحد معاً, فالإشاعة دائما تكون كاسحة, وليس بالضرورة بحجم مادتها.
كان الجميع ينتظرون اليوم كله, كل يوم, حين تعزف خطواتها سامية على الطريق نحو مكتب المدير, وكأن فرقة تتوزع أعطافها وتعزف, كأنك حين تراها أحد العازفين, كل زميل كان يعزف وصلته اللحنية على تلك القِطَع.
 (سامية سيمفونية البنك المركزي).
" مرّ ت على التحاقه بالبنك المركزي عامان واقترن بسامية. ويغنّي للقمندان: 
"ذا هندي الأجفان.. طلياني البنيان.. أمريكي النهدين..... لا وين أنا لا وين".
- سامية, متى رآك القمندان؟  أنت هجينة الزمان والمكان, قالها وهو يزيل لباس العرس عن جسدها, وراح يتمتم في أعماقه: 
لو أن سامية تتصدق من حنانها على البشر أجمعين ما نقصت منه حنّة واحدة. (سامية تربي الحنان).
ويرن جرس التليفون. عبد الملك من يتصل الآن: 
- غدا عصرا سنكون معاً فوق السطوح, الاجتماع هام, لا تتأخر أيّاً كانت الأسباب " 
لعبت سامية دورا أساسيا في ترتيب شأن البيت باستغلالها ماتتوفر عليه من ثروة خاصة تتمثل في جمالها الفائق : 
" وحين تخطر فهي متبرجة, ليس لأنها تلبس خلاف ما يلبسنه أو أنها تظهر من جسدها ما لا يظهرنه, لا شيء من هذا أو ذاك غير أن أنوثتها صارخة كمناسبة احتفالية. تشعر وكأنك تشارك في حفلة راقصة حين تراها, في حين الباقيات وكأنك تنصرف. كأنك تقضم تفاحة بأسنانك أو تفقأ حبّة عنب ذات جسد مرتوٍ في ليلة مطيرة, وتتدفق غزيرا حين تسير, كرأس الشلال.
أشيع أخيرا بأنها تركب السيارة برفقة السائق في حين يبقى مراد داخل المنزل في مقيل أو سمر مع الزملاء والأصدقاء وتذهب. يبقى السائق على مقود السيارة ينتظرها لساعة, لساعتين, لثلاث, وأحيانا إلى ما قبل منتصف الليل بدقائق, وتنفق حين تجف يدا مراد, وتملأ كل الأشياء الفارغة. ونامت لدى زوجة صديق دسم لمراد بعد ليلة من خصومة معه. في الصباح طلبت زوجة صديقه أن تغادر سامية بيتها فورا, لمحت شيئا في الليل وتداركته كي لا يتم. يملك صديقه أن يبرر الأمر بأنه تقدير سيِّء, وتمت تسوية الأمر. اجتهدت زوجة صديقه كثيرا كي ترجح أقوال زوجها. هكذا تتم تسوية الأمور حين نريد أن نحسمها– كي لا تتفاقم- في المنتصف." 
 ساهمت سامية بشكل كبير ومؤثر في التسويق لمراد لدى السلطة ليشارك في فعاليات الاعداد للتأسيس للمؤتمر الشعبي العام , وتخلى مراد عن التنظيم الماركسي وبدأ يشارك في الفعاليات التحضيرية للتأسيس للمؤتمر وترشح لعضوية المؤتمر التأسيسي المنعقد في أغسطس 1982 وشارك فيه  ضمن الألف عضو المؤسسين , وليترقى في درجاته داخل المؤتمر حتى أنه شارك في المراجعة لرفاقه القدامي الماركسيين الذين تم إقصاؤهم من وظائفهم وصارت تفتح أمامه كل الأبواب العليا , وانتقل مع سامية إلى صنعاء للعيش قريبا من صفقات السلطة هناك  : 
" كان يعلم أنها ستكون غالبا خارج البيت, وأحيانا بل – يدرك ذلك على العموم – كل اليوم, نهاره وليله. بعد عودتهما من صنعاء وحين أفصح لها عن توجسّه من أمر غيابها عن البيت وربما لأيام, همست في أذنه:
- سيتدبرون لنا منزلا في صنعاء, وستكون لديك سيارة فاخرة, لا يرتبط بها أحد سواك, سيسلمونك وثيقة الملكية, لقد اتفقت معهم على كل شيء, وسنكون في العاصمة, وهناك سنرتب طريقة حياتنا, لن نحتفظ بطريقة قديمة, هذه كانت هنا, لن يعتاد أحد في العاصمة على رتم معين لحياتنا, سنبدأ هناك, ولدينا من النقود ما سيتيح لنا أن نشرع فورا في بناء بيتنا الخاص, سنسكن في العاصمة يا مراد ككل المسئولين, وهناك سنتناول الحلوى من مصنعها طازجة ساخنة وممتلئة, وحسب الطلب." .
" سعى مراد كثيرا وبإخلاص في تمثيل المؤتمر في وحدته الإدارية على أكمل وأمثل وجه وفق ما تضمنته برامج وأدبيات المؤتمر, ليكتشف أخيرا ذلك التماهي الجاري بين العسكر والقبيلة وتنظيم الإخوان المسلمون الذي طغى وسيطر على التوجهات الأخرى التي افتُرض أن المؤتمر قد تبناها في مرحلة التأسيس. وفي آخر قراءة له للميثاق الوطني, شعر أنه يقرأ أدبيات تنظيم الإخوان المسلمون بكل وضوح ودقة وتفصيل, وهاله أن يكون أحد من الماركسيين قد شارك في فعل شيء كهذا يتعلق بمستقبل البلد "
في تلك الفصول التي مررنا بها يظل مراد " وقبل التحاقه المؤتمر"  رفيقا لعبد الملك والآخرين ويشارك في الاجتماعات الحزبية والمناسباتية الاخرى في بيت الرفيق الكبير أو في الخلية الحزبية بالغرفة التي أعدها التنظيم لهذا الغرض وكسكن لعبد الملك .
منذ الفصل ال14 يبدأ المؤلف العودة بنا إلى عبد الملك داخل المعتقل لكن المشهد هنا يختلف عن المشاهد السابقة وعن وسائل التعذيب الجسدي والقهر النفسي , كانوا سابقا قد غطسوا بوجهه في بركة مثلجة لمرات , واستخدموا تقنية حبات البرد يسقطوها عليه عار من ملابسة  لتبدأ في السيلان حين تلامس حرارة جسده,  وكبلوا قدميه بالقيود , وادخلوه في بناء من مكعب بأبعاد مثر واحد وليس به غير فتحتين كعيني الأسد حين تسترخيان .
 وهنا يبدؤون في استحداث وسائل جديدة : 
"  حين دخل كانا يتبادلان حديثا مرحا, وسمع قهقهة كتلك التي يسمعها في الأفلام السينمائية والتي تأتي ليس بالضرورة متسقة مع مضمون الحديث, كردة فعل فحسب. وقف قبالتهما. لم يجلس, كان ينتظر الأمر بما يفعله, أشار عليه أحد الضابطين بالجلوس دون أن يلتفت إليه.
جلس وانتظر حتى يشير عليه أحدهما بشيء ما, راحا يتبادلان الحديث وبشفافية عن المناخ السياسي وآثاره على مختلف جوانب الحياة. كان مندهشا أن يكون لهما رأي مثل هذا حول ما يجري في البلد, إنهما مستاءان مما يجري. أثناء حديثهما ينفتح الباب الذي كان قد دخل منه عبد الملك, ويدلف شاب تدل هيئته وملامحه وحركتة بأنه أبله, يتجه صوب عبد الملك مباشرة, يرفع العصا ويهوي بها فوق رأسه, وبغريزته عبد الملك أحس بأنه ينطوي على أسفله, وينحني جانبا, ويرفع كفيه ليحتمي بها من الضربة التي تهوي الآن فوق رأسه. في هذه اللحظة وفي مشهد كاريكاتوري, راحت يد الضابط الأول تضغط على رأسه إلى الأسفل, ويد الضابط الثاني تمسك بالعصا من يد الشاب المعتوه. كان لايزال يلهث من أثر المفاجأة بنسبة تفوق أثر الجهد الذي تفجر غريزيا ليحتمي من الضربة النازلة فوق هامته. الهامة نرمز بها إلى علونا وشموخنا, فهامتنا عالية حتى في أسوأ الظروف والمراحل. أن تسحق هامتك بضربة من أبله في مكان رسمي فإنهم يسحقونك سحقا. و"كطرفة" ليس إلا.
إنهم يتولون أمره, وأمره كله. وفي أريحية " .
ويعيدونه إلى المعتقل .
منذ الآن يمارس الأمن الوطني أسلوبا جديدا مع عبد الملك , وكأننا بصدد منظومة لغسيل المخ يتم الاشتغال عليها بعناية جد خاصة وبكفاءة عالية :
" بعد سنة جاؤوا إليه في معتقله الانفرادي. 
أمره شخص ما كان يقعد مسترخيا في الصف الثاني من سيارة المرسيدس بالخروج إليه. فوق قمة الجبل انفرجت أمامهم البوابة الكبرى كتلك أمام حصان طروادة العظيم في إلياذة هوميروس. يبدأ المنحدر في الاستواء رويدا رويدا أمام المرسيدس الفارهة, وسط غابة تلتف على كل الطريق حتى ظهور مدخل القصر التي تتذيّله تشكيلات من الزهور وسط دائرة من الأشجار تنحني أطرافها وتكاد تحضن الزهر كما تفعل الأمهات.
أدخلوه صالة في القصر. السقف بعيد نحو السماء, والجدران تذهب أبدا وتكاد لا تقف.
ناوله أحد ما لفافة من قماش, وأشار على باب في طرف ممر جانبي من الصالة, وعاد أدراجه إلى خارج الصالة. تناول عبد الملك اللفافة ومشى نحو الباب.
لن أدخل كثيرا في انطباعاته وهو يجتاز الممر, لكنه واضح لي كل الوضوح ما يديره الآن في ذهنه: 
"الحريم يختبئن في كل ركن هنا. إنهن يسترقن النظر. فقط إعقف سبابتك وسيأتين إليك متسابقات مكتنزات بالمتعة".
 فوق التباب حول الفيلا تحتشد الآليات العسكرية, ترصد أنفاس البشر في شوارع وأزقة ومدارس وجامعات وأندية ومساكن وساحات صنعاء, وستعصف بالحياة فيها إن تعرض أمن واستقرار الوطن للخطر حسب رواية النظام. 
ويلحّ عليه السؤال: 
هل في كل معسكر حول العاصمة مثل هذا المكان؟ ثم أين يقع هذا المعسكر؟ 
حقا هو لا يعلم في قمة أي جبل حول العاصمة صنعاء يقع هذا المكان, فهذا ليس بالمعسكر الوحيد فوق هامات صنعاء. لم يكن معصوب العينين, لكنه لم يميّز شيئا أو يقس حدودا في أزقة وشوارع صنعاء في طريقه وحتى دخوله إلى هنا, ولم يكن يحيط بالجهات الأربع, ولا يستطيع أن يجزم بالاتجاه الذي كان يسير نحوه في كل مرة, بل هو غير يقين بأي مكان أو زمان قبل هذا وصنعاء في الأسفل تلهج بضوء متهدج يتمزق إربا.
في ترتيب أليف للمقاعد الثلاثة حول طاولة متوسطة وأنيقة على مسافات متقاربة يوحي بشيء ما سيشرع فيه ثلاثتهم حالا.
ثلاثة؟ بالتأكيد فالمقاعد ثلاثة, هل هو أحدهم؟
يشعر عبد الملك بأنه محيّد ولا شأن له بشيء غير ما يريدونه هم بالتحديد. يجلس وعيناه تطوف حينا وتغوص حينا في تلك اللمسات التي ارتسمت هنا وهناك من الصالة, وخلال دراسته وبعدها استطاع الآن فحسب أن يترجم كلمة palace, فلطالما ظلت هذه الكلمة توحي له بفخامة لم يتهيأ له استيعابها غير الآن.                         
ملفوفة في قماشة زرقاء, على قدمين تقبل الشابة الهندية بكرتون صغير مكتوب عليه بأحرف إنجليزية منحوتة كتمثال وتضعه في جانب من الطاولة. تذهب وتعود ثانية بصحن صغير به حبّات ثلج مربعة صغيرة وثلاث كؤوس زجاجية تضعها على طرف الطاولة وتلتفت إليه.
قرأ شيئا في عينيها حاول أن يفسره كوعد, تمَنّى أن ليس أحدا سيأتي الآن أو بعد قليل, وأنها وحدها من ستكون إليه, كان في جوع عظيم للأنثى, ولعلّ شيئا من هذا قد فكر فيه هؤلاء. هم بشر أيضا, وحتى أن سيعدمونك فلابد من أمنية يحققونها لك, وليس سواها في نفسه الأنثى. هو يعلم أن أمرين اثنين يمثلان خطين أحمرين في ثقافة المجتمع هما فرض الصلاة وتحريم الخمور وماعدا ذلك يمكن التفاوض عليه.
فتحتُ الكرتون وأخرجت منه ثلاث علب إسطوانية صغيرة.
في الأثناء يدخل اثنان في لباس رياضي: سروال إلى الركبة, وصديرية, وكانا قد خلعا حذاءيهما الرياضيين طرف الباب. وتنصرف الفتاة. تناولها من يد أحدهما, فتحها ورفعها إلى فمه لينبّه عليه هذا أن يصب شراب البيرة في الكأس التي لازالت فارغة قبالته فوق الطاولة.
- ما الفرق بين أن أشربها مباشرة, أو أن أسكبها في الكأس أولاً؟ حتى ذائقتك يقررها هؤلاء. 
يشاهد أحدهم يتناولها من الإسطوانة مباشرة, فيما الآخر يصبها في الكأس. 
الكأس الفاتحة كانت ذات يوم مع الرفاق, حين هو حديث عهد بالتنظيم, لاحظ عبد الملك أن المقولات تأتي أكثر حماسة وأبلغ في المعنى, وتكاد تضيء حين تخرج مكحولة من أفواه الرفاق. في الأثناء وبعد الكأس الأولى ولم يلحقوا بها أخرى إليه يدخل أحد الجنود, ويطلب من عبد الملك الذهاب إلى الحمام ليخلع البدلة التي ارتداها قبل قليل, وأن يتركها معلقة هناك.
قذف أحدهما نحوه بالمفتاح. خلع ألبستهم كيفما اتفق الحال, وأعاد لباسه القديم. حين خرج من الحمام كانت تلك الفتاة الهندية تحمل في يدها قنينة نحو الطاولة, وصحن طعام. اقتاده الجندي نحو سيارة جيب نيسان على مقربة من مدخل الصالة, يفتح باب السيارة الخلفي ويطلب من عبدالملك الصعود, ويغادرون القصر. يشاهد الآن كل شيء وفي وضوح تام, حتى أنه يرى دبابة وطائرة مروحية ومضاد للطائرات وكل ما هو مختلف هنا مع كائنات القصر هناك. وها هو منذ تجاوزه لبوابة المعسكر يشاهد معالم صنعاء واضحة, حتى أنّه سيشير من مقعده في الجيب الياباني إلى كل معلم من معالم صنعاء ويسمّيه " 
في الفصل الخامس عشر سنرى أنه قد تم إحالة عبد الملك على الإقامة الجبرية في مبنى من دور واحد لازال كخامة دون تشطيب  ,
في الإقامة الجبرية يستعيد عبد الملك بعضا من ذكرياته ليملأ الفراغ الذي يغوص فيه والذي يكاد أن يكون تجسيدا لبيت المتنبي : 
أوحدنني ووجدن حزنا واحدا .. متناهيا ..  فجعلنه لي صاحبا 
سنواجه أيضا وفي اللحظة الأخيرة موقفا إنسانيا من الحارس سالم - قبل أن يستبدلوه بحارس آخر هو شعيب - بسبب من العيش والملح كما هي عادة اليمنيين , إذ كان قد ناوله كسرة خبز من يده لم يتوفر لعبد الملك غيرها ليتناولها كغذاء فيما ذهب الحارس بعد أن مد بكسرة الخبز لعبد الملك إلى هناك ليقدم وجبة العشاء لكلب الحراسة : لحما مكبوسا وقشر بيض وبعض فاكهة ظلت تعصف رائحتها على منخري عبد الملك وتغوص كتقلصات في معدته الخاوية .
عبد الملك يخاف الكلاب منذ أن علم ذات مرة أن احدهم في القرية مات بسبب عضة كلب :
" أغلق سالم باب العمارة الخارجي وذهب. شعر عبد الملك بجفاف في بطنه, ولعلّهم – ظن عبد الملك – سيأتونه بفضل من طعام وبعض فاكهة بعد أن تمتلئ معدة كلب الحراسة. لم يعد سالم, كل ما فعله أنه كان قد أوصد خلفه الباب وذهب. عبد الملك يكره الكلاب كثيرا, أحدهم مات بعضّة كلب في قريته ذات مرة. كان لازال صغيرا ولمّا يذهب إلى المسجد لدى الفقيه.
سأل أمه: أين حسن؟ 
- لقد مات حسن يا عبد الملك, عضّه الكلب ولم يذهبوا به إلى مزار "المناجي".
- من هو المناجي يا أماه؟
- السيد يا عبد الملك السيد, يذهبون بالمريض إلى هناك, ويمسحون على جسده من تربة قبر المناجي, ويرشون عليه من بركته فيعود ويشفى, شريطة ألا يغتسل تحت المطر أبدا, هناك منارة عالية للمناجي يا عبد الملك يشاهدونها من وسط البحر وبها يهتدون.
سمع أكثر من مرة: لقد ذهبوا بأحدهم إلى المناجي, لقد عضّه الكلب, إنه يأكل نفسه, إنه مشبوق. لكن عبد الملك لم يعد يذكر لاحقا هل فعلا تعافي هؤلاء المرضى بعد عودتهم من المناجي, ومن هم هؤلاء الذين ذهبوا بهم إلى المناجي؟ لماذا لم أحفظ كل هذا وأتأكد منه, سأذهب إليهم. وليس لأي غرض غير هذا سافر إلى القرية: من هم الذين عضتهم الكلاب؟ من ذهب إلى المناجي ومن الذي لم يذهب؟ هل تعافي أولئك ومات هؤلاء؟
لم يجد إجابة شافية, ولم يكن أقرانه ليضيفوا إليه بأكثر مما يعلمه, ويبدو أنه تأخر كثيرا, فالأجداد يذهبون سريعا بكل حكاياتنا إلى الآخرة. لم ينم تلك الليلة عبد الملك. في الصباح نقلوه إلى المشفى مغميا عليه, كان لابد من غرفة الانعاش " .
وحين حلت مناسبة العيد وهو في الإقامة الجبرية يتفضل عليه الحارس حسام بقائمة مما يمكن أن يرغب فيها عبد الملك بمناسبة العيد , لكن عبد الملك لايستسيغ شيئا من ذلك , فللعيد أجواؤه وضروراته ومتطلباته المختلفة .
وتاكيدا على القهر الذي يمارسونه بحقه سنرى ثلاثة من الضباط يأتون ليحتفلوا بالعيد على مقربة منه , ويفتحون ثغرة إليه في مكانه المنعزل ليشاهد احتفالهم الصاخب :
"  - عيد سعيد وكل عام وأنتم بخير يا عبد الملك, أي شيء تريده سآتيك به, أحتفظ بقائمة من الطلبات التي صرحوا لي بجلبها إليك متى طلبتها. أنا هنا مأمور بخدمتك. 
فهم عبد الملك كل شيء. لم يسأله هل سيخرج إذا أراد.
ما الذي يدور الآن بذهن عبد الملك؟ إنهم يقررون كل ما يتعلق بي, حتى ما سأطلبه قد تم تحديده في قائمة, حتى العيد هم من يقررون ما تريد.
- ماذا في القائمة؟ 
بدأ سالم يسرد دون العودة إلى أية قائمة, كمن يدخل السوق المركزي ويرى كل البضاعة أمامه.
- ألم تَفُتْكَ مفردة؟ 
- لا أظن. يرد سالم 
 لم يتحرج عبد الملك: 
- يا سالم, هل تظن أن هذه التي في القائمة هي كل متطلبات الإنسان كما تقول؟ وفي العيد يا سالم؟
- لم أقل أنا, لكن ما يكفي حاجات الإنسان إلا الله.
- وهل لا يحتاج الإنسان إلا أن يأكل ويشرب يا سالم؟ وفي العيد يا سالم؟
كان يضغط على كلمة العيد كما تفعل فكّا رحى. 
- سأحاول أن أتحدث معهم.
وهذا مالم يكن يتوقعه أو ينتظره, لقد جاؤوا إليه.
لم يأت سالم إليه بما أراد.
كانوا هم بسحناتهم الدسمة, وطراز متناسق من الألبسة الأريحية اللدنة كبشرة أنثى.
ويجيء سالم ببسطة ذهبية لا شك أنه جلبها من سيارة أحدهم ويمطّها فوق التراب في الصالة, يضع في طرف منها سماعة ضخمة قبل أن يضع جهاز الكاسيت في زاوية من البساط.
دخل ثلاثتهم. لماذا ثلاثة بالتحديد؟! لم يكن عبد الملك مستعدا للوقوف على طرف هذا السؤال أو البحث داخله, تركه كمن يترك شيئا يعود له أو لا يعود.
يمسك سالم بيد عبد الملك ويقتاده إلى صالة الطعام الفارغة في الجانب الآخر: 
- ستبقى هنا, ربما يستدعونك بين لحظة وأخرى إلى سهرتهم, أتمنى أن يكونوا رائقي المزاج ليفعلوا شيئا كهذا معك.
يستطيع عبد الملك أن يرى بعضا من المشهد خلال الكوة التي تفتح في شق على الفناء, وأن يسمع حديثهم بوضوح. 
بضع دقائق وأدخل أحدهم شريط الكاسيت في المسجلة: 
(رفِّهْ على نفسَكْ.. وانْسَى عنَى أمسك.. بَسَّكْ لَبِيْجْ بَسَّكْ.... أنستنا يا عيد) 
وعما قليل يصدح بلفقيه: "يالله مع الليل با نسهر.. بالَهْ وبالشرح وفنونه"
 وصوت أناثيّ مغمورات بالعطر يصل إلى مسمع عبد الملك وسط جوقة الرقص. 
هناك زاوية لا تصل إليها حدقتا عبد الملك, كان هناك برواز من ذات البناء يحيط بشق في الكوة من الداخل إلى غرفة الطعام لا تتيح له رؤية المشهد في شكله التام. عبد الملك يشعر بغربة وسط هذا الحضور الصاخب وكأنهم يقذفون به من علِ, وعلى مرأى من كل البشر في الفراغ وحده هناك. ويحتسون الخمرة, وفيصل علوي يغني للقمندان: 
"ليتني واحبيبي.. بَلْتقي بك ياهَلِيْ.. في السمر ساعة هنية.. لها شان" 
 ويرقصون ويلمسون جسد امرأة لم ينل مثلها لسنوات. لم تكن لتزمجر السماء لو أنه اشترك في رشفة من كأس, أو وضع منطقة منه لصق تلك المناطق في جسد واحدة من هؤلاء النسوة. 
إفتح لكوكب الشرق يا عبد اللطيف, وتغنّي:
 "حبيبي زي القمر.. قبل ظهوره يحسبوا المواعيد". 
 لم يكن عبد الملك ليسمّه عيدا إن فاتته هذه الأغنية ليلة التاسع من ذي الحجة, ويسهر وكأنه يحتفل بسنوات عمره مجتمعة حتى الصباح, ولم يكن ليأتي عاشر ذي الحجة كعيد دونها.
كانوا قد غادروا حين جاءه سالم بمقدار بنان أصبع من الويسكي تخلَّفت داخل القنينة. لقد ذهبوا بالثانية مَلْآ ومختومة, وبالأنثى. وليس غير سالم من تخلّف له هنا. 
عبد الملك لا يمثل رقما. هو واحد من الأرقاء الكثر النكرة في هذا البلد. راح يستعيد ماكتبه أرسطو ذات زمن من الرابع قبل الميلاد: 
"إن الرقيق هم بحكم الطبيعة النوع الأدنى, ومن الخير لهم مثلما هو لكل الفئات الأقل شأنا أن يكونوا تحت حكم الأسياد, والحقيقة أنه ليس هناك فرق كبير بين استخدام الرقيق واستخدام الحيوانات المستأنسة." 
كان عبد الملك يتابع أرسطو, وحتى أنه كاد أن يمد يده إليه ليصافحه ويلقي نحوه بسؤال, إلا أن الفيلسوف كان قد عاد إلى القبر " 
ويظلون يبتكرون كل مايتعلق بالقهر والإيذاء النفسي بحق عبد الملك حتى اللحظة الاخيرة من الاعتقال : لقد تمت تسوية أمره أخيرا , كيف ؟
ترك المؤلف الإجابة كما هي في السطور التي سلفت , لقد تمت تهيئة عبد الملك ليكون ضمن جوقة النظام , وهاهم يختارون اللحظة المناسبة بكل دقة وكفاءة , بل أن اللحظة هي من سقطت عليهم من السماء بل أن الرفاق هم من ساقها إليهم على طبق من الماس من عدن :
" ونفد الماء في الحمّام, وطفح المرحاض, وعمت المكان رائحة عفنة. وظل يعاني طول الليل من عطش شديد, ولم ينم. وكأنهم لا يعلمون من هذا شيئا. واستهلك ورقة وأخرى في المرحاض, ولم يسمع حشرجة على باب, ولعلهم غادروا.
 قرر أن يصرخ لكن يدا تضغط على فمه.
 لم يكن من أحد.
لم يستطع الصراخ, شعر بأن حنجرته سرقت, كخواء كان حلقه, لا جرس هناك.
 أدرك الآن بأنه يتمدد ولم يتذكر شيئا بعد ذلك, كانوا يحقنونه بمخدر.
 وحين بدأ يفيق شاهد شوكة تنغرز في وريده, وعرف أنه يتناول الغذاء خلال محاليل وريدية.
وكل شيء نظيف ويلمع بشدة, ورائحة زكية من شال شعيب في لباسه المدني ينتصب أمامه. شعر ببعض حلم وبعض حقيقة دون أن يمسك بفاصلة, وكان يتعافى. 
- سنحتفل اليوم بزملائنا الجدد في الحراسة الخارجية, ستحتفل معنا, القات والبارد والدخان كله هناك. كانت الكلمات من فم شعيب ككرنفال.
(هل يعني شعيب ما يقول؟) لم أعد أفرق بين ثلاثتهم: الحقيقة والحلم والكابوس.
وسيطر عليه سؤال: كيف تعلم بأنك مجنون؟ . 
ويستهل الكاتب الفصل 16 بهذا المشهد :
" -16-
- مرحبا بك عبد الملك. كأنه يسمعها من شفاههم جميعا مرة واحدة هؤلاء العسكر.
هو لم ير كل زمنه هنا غير سالم, ومنذ ثلاثة أيام بدأ يشاهد شعيب. 
- هذا مجلسك بجانبي. يقول شعيب لعبد الملك. 
جلس عبد الملك, ولدقائق لم يتناول غصنا واحدا من القات الملفوف في المشمع أمامه.
كان شعيب يراقبه فوضع المشمع بين يديه: 
- هذه تخزينتك . ومد نحوه بقارورة الكندا دراي . 
فتحوا جهاز الراديو, صعق عبد الملك, كان كمن يهوي ويفقد وزنه وهو يستمع إلى المذياع: 
"هنا عدن. جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 
 وقد تم تنفيذ حكم الإعدام في الخونة: 
على أحمد ناصر عنتر
عبدالفتاح إسماعيل
علي سالم البيض 
على شايع هادي 
ولازال المذيع يتلو 
 شعر بدوار, قرر أن يستأذن, كيف؟ من؟ إلى أين؟ أن يمنحوه بندقية ليذهب ويقاتل مع من تبقى من الرفاق, لماذا لم يكن هناك؟ تبّا إنه عاجز وينزف قهرا, الحزب يخون الحزب, الحزب يغتال الحزب.
"هنا لندن هيئة الإذاعة البريطانية: رئيس الجمهورية العربية اليمنية العقيد على عبد الله صالح يدعو الجميع إلى ضبط النفس والتحلي بالحكمة, ويهدد بالتدخل لوقف إراقة الدماء بين الرفاق في عدن.
اللعنة. 
- صلّوا عليه. قال رئيس الحرس. 
نطق جميعهم بصوت واحد: صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
- وأنت يا عبد الملك: صلِّ على النبي.
- صلوات الله عليه. قالها كمن ينفذ أمرا.
- من يعطيني البشارة. قالها رئيس الحرس وهو يبحلق في الجميع, لم يترك عينيه على أحد.
(هل هناك اسوأ مما أسمعه الآن من مذياع علي ناصر محمد؟ هل من بشارة تفوق هذه لديهم؟ 
هل دخلت عكفة صالح إلى عدن؟). تتوالد الأسئلة في ذهن عبد الملك.
- لقد أطلقوا سراحك يا عبد الملك. 
وكمن أدخلوه الأعراف, كمن خلص من الحساب: لا جنّة الرفاق, ولا جحيم الاعتقال " 
ويحتفون به , وحين يعود إلى الداخل ليرتب نفسه للخروج من المعتقل :
" منحوه جهاز راديو, وأتوه بثياب جديدة: فوطة دنقالة, وقميصا صناعة الإنجليز, وحذاءاً إيطاليا, وصابونة كامي, وحزمة نقود خرجت من مكمنها للتو. 
حين عاد من المقيل كانت لاتزال تتكئ على النافذة. "امرأة".
ليس شيئا على العموم, إنه شيء خاص جدا, النساء معروضات كما أتين من عند الله, وهذه ملفوفة في برواز كيانصيب جاء إلى عبد الملك ليفتحه ويفوز. 
- هل تريد الحمّام؟ قالت له. أريد أن أستحم. استأذنته. 
- كيف يوظفونك فرَّاشة وأنت تملكين كل هذا الجمال وهذه الأنوثة.
- أبدا – ردت عليه – لقد نظفت الفرَّاشة كل شيء وذهبتْ, أنا فقط جئت لأستحم هنا, هذه هي مهمتي التي كلفّوني بها فحسب. 
(وهل لا يحتاج المرء غير للأكل والشراب يا سالم؟) تذكّر مقولته هذه مرة أخرى, وحملها فوق زنديه.
يشاهد الآن في طريقه إلى البوابة الرئيسة عالما آخر يفتح أمام عينيه, ونداءًا يضرب في كل ذرة منه: لا تتردد يا عبد الملك, ليس مكانك الأعراف, هل من أحد يرفض الجنة؟ 
حين خرج ترك المذياع هناك على عدن تصدح بالأناشيد, وعلي ناصر محمد ينتصر " 
يطلقون سراح عبد الملك ويقابل الزعيم , ويفتحون له حسابا بالبنك , وفي زمن قليل يعقد زيجات عدة , ويحصل على صالون لاند كرايزر , ويترقى إلى مستشار لمصلحة الجمارك وعضوا في اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام ويزور الخارج لمرات عدة خلال العام في وفود رسمية وفي سياحة خاصة . وترشح وفاز أخيرا كعضو في الكتلة البرلمانية للمؤتمر الشعبي العام بمجلس النواب .
بعد تسوية وضعه في المعتقل وإطلاق سراحه يذهب عبد الملك فورا إلى منزل الرفيق الكبير :
" حين دخل عبد الملك المعتقل شاهد صورة الرئيس الجديد شاحبا, كصياد قادم من البحر بعد أيام دون أية سمكة في قاربه, ونفذ عليه الماء قبل يوم من وصوله إلى الشاطئ. حين خرج قابل الرئيس يملأ كل اليمن, وكاد أن يقول في حضرته شعرا للمرة الأولى في حياته, ليس بأقل مما قاله المتنبي في سيف الدولة. حين خرج لم يكن جيبه فارغا, كان ممتلئا, وفائضا بالنقود, وفتحوا له حسابا في البنك وأودعوا فيه كمية جديرة من النقود.
ذهب إلى الرفيق الكبير في منزله بصنعاء واستدعاه إلى جناحه الفاخر بفندق سبأ واستضافه هناك, وعما قليل يصحبه إلى قاعة ابي نواس في احتفالية الليلة الأثيوبية. عبد الملك يعلم بعشق الرفيق الكبير لأثيوبيا وبسلسلة رحلاته إلى أديس أبابا وافتتانه بالبرونز الذي يكسو جسد الأنثى هناك. بحلق في وجهه: سأقترح على إدارة الفندق تسميتها: الليلة البرونزية.
جاء الجرسون ووضع أربع علب من البيرة فوق المنضدة أمامهما. نقر عبد الملك فوق الطاولة نقرتين مولياً وجهه شطر الجرسون ووجّه إليه ما يشبه الأمر: طبقين زِجْنِيْ .
- هل تذكر تلك الليلة وكان هناك من يقرع علينا الباب؟ حين فتحتَ الباب وضعت تلك الفتاة شيئا كان في يدها وأخذتك في شوق إلى صدرها, كانت قادمة للتو من أديس تحمل بين يديها طبقا قدمته إليك وقالت بأن أمها قد صنعته هناك في أديس, زجني من أديس "
منذ الفصل الثامن سنكون بصدد تقنية تشاركية بين السرد الروائي وبعض النصوص التي يمكن اعتبارها كقصص قصيرة , فهي جزئية من السرد الروائي في ذات أنها حكاية بذاتها تم التقاطها هنا كذكريات لأحداث مضت خاصة تلك الحميمية منها لعبد الملك والشخوص الآخرين , وللغوص في تفاصيل وعادات واعراف المجتمع .
وسيوظف عبد الملك رفيقه وزميلة وابن قريته حسام كسائق ويزور قريته هذه التي تحولت خلال الفترة من 1978 حتى 1994 إلى مدينة .
هذه الزيارة يوظفها الكاتب للدفع بالدراما عاليا , لدمج الاحداث والسلوكيات والممارسات المختلفة للسلطة والمجتمع , وللكشف على سمات الثقافة لدى المجتمع اليمني , وتلك السلوكيات التي ترتبت بين المجتمع والسلطة , والطقوس الدينية , والحدود الشرعية في خليط مع العرف القبلي , وفي تواظؤ السلطة والمجتمع على الغش في التعليم , ونهب المسئولين الكبار لاراضي الفلاحين في الريف , وعمليات الاقتراع التي تتم بإلقاء كافة استمارات الاقتراع في الصندوق لمرشح المؤتمر الشعبي العام .
يبدأ المشهد الاول بصخب كبير حول أدارة المديرية وبحشد من الناس : 
" في تلك الليلة باتوا في فندق غمدان بمدينة حجة, وانطلقوا صباحا. عند وصوله القرية عرّج على مبنى إدارة المديرية. كان الناس يتوافدون, يتكتلون, يتحلقون أمام مبنى الإدارة, وأغلب المارة يلتحقون بهم ليكتشفوا ما الذي يجري وسط الحلقة, ويفعلون كما يفعلون. مواطنون, خدم وسادة, ومسئولون, ومشائخ, وأعيان, وطلبة, ومدرّسون, وكاتب المحكمة, كبارا وشبابا وصغارا يشتركون معا في خدمة الله. كانوا قد حفروا قبالة بوابة الإدارة حفرة تشبه القبر وتصل إلى حد الركبة, وبجانبها يضع أحدهم بلباس عسكري جرّة خمر سعة عشرين لترا, وأخرى لازالت نبيذا, وحول الجرتين مجموعة كؤوس فارغة بذات مقاس كأس الفول الصيني.
عدد من العسكر يقودون اثنين يلبس كل منهما مئزرا وقميصا تم تمزيقه فوق جلديهما قُبض عليهما متلبسين يصنعان خمرا, ويدفعوا بهما إلى أسفل الحفرة, ويتبعونهما بثالث قبض عليه وهو يشتري منهما الخمر البلدي. يتحلق حولهم جمع من البشر الذين يتقدمون يملأ كل واحد منهم كأسا أو أكثر من الجرتين ويسكبها على رؤوسهم وسط الحفرة. رائحة الخمرة والنبيذ تزكم الفضاء المحيط. وفي الأثناء يصل المسئول الكبير.
- لا تتحركوا - يقول عبد الملك للسائق حسام وللمرافقين – دعوني هنا لأشاهد ما يجري.
 يمر المسئول الكبير وكأن لا شيء يعنيه من كل هذا, ويتجه مع مرافقيه الذين يتحلقون حوله إلى داخل مبنى الإدارة ويكادون يحملونه. يتبعهم مدير المديرية والمشائخ والأعيان وخطيب المسجد والقاضي وجمع من المواطنين. لم ينبس أحدهم ببنت شفة, فيما كانوا يلاحظون ترنح المسئول الكبير ويحدقون في بعضهم في الداخل. لم يتمكن هذا المسئول من الجلوس, كان ثملا فتكوّم كما لو أن رأسه مكان قدميه, أخرج حراسه هؤلاء المتحلقين حوله وأغلقوا عليه الحُجرة, عاد جميعهم هؤلاء يسكبون الخمر على ظهور بائعي الخمرة وشاربها.
رائحة النبيذ تعصف بالساحة, واللعنات تملأ المكان. والآن ينتزعونهم من الحفرة, ويقومون بربط طبل على ظهر كل منهم عراة, ويأمرونهم بالسير على الطريق نحو أزقة القرية, ويبدؤون يقرعون. الأطفال في نشوة غامرة يشاركون في الضرب على الطبول, ويكررون اللعنات التي يطلقها الكبار. بعض اللعنات موزونة ومقفّاة وراقت للأطفال الذين لم يكتفوا لاحقا بقرع الطبول على ظهورهم وراحوا يرجمونهم بصغار الحجر وبالحصوات مع كل مقطع يصرخون به. 
تنغلق البوابة على المسئول الكبير في الداخل, ويتولى الآن الحرس إسناده ليصعد إلى سيارته ويغادر من الباب الخلفي نحو مزرعته بمنطقة الجر. لازالت طائفة من المؤمنين في الخارج وإليهم هؤلاء القادمون من الداخل من لدن مسئولهم الكبير يشاركون في ويشهدون التعزير الذي يتعرض له صانعا الخمر وشاربه, وسيعودون لاحقا لحضور الاجتماع عصرا مع المسئول الأول الثمل الكبير " 
 
 سنعلم أخيرا أن غرض عبد الملك الأساس من زيارته لمسقط رأسه هو اقنتاء مساحة من الأرض في منطقة الجر كمزرعة للمانجو كما هم كل المسئولين في الجمهورية اليمنية :
" كان الشيخ عايض قد ترشح لعضوية مجلس الشوري عام 1988 عن حزب الإصلاح, وفاز بالعضوية في ذات الانتخابات التي تمكن فيها عبد الوهاب الآنسي , عن جماعة الإخوان المسلمون والذي صار لاحقا زعيما في حزب الإصلاح, من الفوز على أحمد الرحومي  أحد الضباط الأحرار الذين فجَّروا ثورة 26 سبتمبر 1962.  
في الانتخابات التالية بعد الوحدة التحق الشيخ عايض بالمؤتمر الشعبي العام هو وأسرته وأقرباؤه وقبيلته مرة واحدة, وتم توزيع المراكز الانتخابية بطريقة مختلفة عن وضعها في السابق لتحسم النتيجة ليس لمرشح المؤتمر الشعبي العام بشعار الخيل فحسب, بل وللمرشح عايض بالتحديد.
كان المؤتمر قد اتفق مع الإصلاح على الشيخ عايض كمرشح تشاركي لعضوية مجلس النواب , وفي نهاية يوم التصويت وبعد غلق أبواب لجان الاقتراع أمام الناخبين قامت اللجنة الإشرافية وبحضور كل المراقبين بملء الصناديق بكل قسائم الاقتراع التي لم يقترع بها أحد لصالح خيل المؤتمر ضدا على النجمة الحمراء شعار منافسه الحزب الاشتراكي اليمني. 
في المساء كان عبد الملك في مزرعة الشيخ عايض بمنطقة الجرّ . 
- لم يبق غير الأستاذ عبد الملك دون مزرعة في الجرّ. يوجه الشيخ عايض حديثه إلى عبد الملك ويضيف: 
 - سمّ لي أعضاء الحكومة, أعضاء مجلس النواب, أعضاء مجلس الرئاسة, مجلس القضاء الأعلى, قادة الألوية العسكرية, ضباط القوات المسلحة, المحافظين, كبار قادة وضباط الداخلية, رئيس الجمهورية, رئيس مجلس النواب, لا أحد لا أحد تبقى خارج الجر غيرك يا وجيه. 
- ولأجل هذا جئت إلى هنا يا شيخ عايض, لم أقل لأحد بأني سآتي إلى هنا لهذا الغرض, يقال بأن شجرة المانجو كنز بذاتها.
- احسب معي يا أستاذ: الشجرة تنتج سبع سلات, احسب احسب.
والسلة تباع ب 4000 ريال, احسب يا أستاذ احسب.
 اضرب 4 في 7 كم؟ 28000 ريال.
بكم الدولار اليوم؟ هااااه قالوا طلع بسبعين, هيا احسب يا أستاذ كم دولار تجيب الشجرة؟
 بسيطة بسيطة نقسم 28 على 7, يعني أربعمائة دولار للشجرة الواحدة, سأغرس لك ألفين شجرة ملقّحة.
سنتان وستثمر كنوزك يا أستاذ, اضرب 2000 في 400 واااااااااو 800 ألف دولار, خلاص خليها 2500 شجرة علشان نجيب المليون.
كان أمين المحكمة حاضرا, وفي الأثناء تم تحرير وثيقة الملكية " 
في هذه الاثناء " كان الشيخ زاهر قد استقدم لجنة الاختبارات قبل استضافته لعبد الملك وقدّم لهم بعضا من الضيافة على استعجال. أحد عساكر الشيخ زاهر يجرّ رئيس لجنة الاختبارات جانبا وينقده خمسين ألف ريال: 
- هذه لك أنت وحدك.
- عليك أن تخصص دفاتر إجابة الامتحانات فارغة للطالب زاهر سليم. 
- لقد اتفقنا مع أستاذ كل مادة أن يقوم بحل أسئلة الامتحان. 
- ومع أحد المدرسين وهو صاحب خط جميل أن يحرر كل الإجابات لكل المواد في كل الدفاتر كي تكون جميعها بخط واحد.
- ودفعنا لكل واحد منهم أجرته. 
- يريدها الشيخ 99% 
- عليك فقط أن تضع كل يوم في نهاية الاختبار دفتر الإجابة الخاص بزاهر بن سليم ضمن رزمة دفاتر الإجابات. 
- الشيخ زاهر قد قرر إدخاله إلى كلية الشرطة في العام القادم, لقد اتصل بمسئول كبير هناك وأوصاه بالأمر. 
تناول رئيس اللجنة النقود وضرب بيده فوق صدره ورفعها فوق رأسه شاكرا ومُلَبِّياً رغبة الشيخ: 
- سيكون كل شيء على ما يرام. 
أثناء عودة عبد الملك إلى صنعاء يتلقى اتصالا على جهازالبيجر , كان الرقم لمسئول كبير جدا , يوقف سيارته ويتصل من أحد الدكاكين هناك ليتلقى تعليمات بالعودة إلى مسقط رأسه لتجهيز قافلة لقوات الشرعية إبان حرب 1994م .
كان المسئول الكبير قد احتفل في تلك الليلة مع خاصته من بعض المسئولين والوجاهات بمزرعته بمنطقة الجر ولم يعد ليعقد الاجتماع مع الاعيان في مكتب المدريرية , تلك الليلة سكر المسئول الكبير وجمع من المسئولين في قصره بمزرعته بالجر راحوا يقرعون الكؤؤس وصحون الطعام ويرقصون رقصة البرع , فيما لعب المسئول الكبير لأول مرة في حياته رقصة الشرح وغني لفيصل علوي أغنيته الشهيرة : حل لك في الحسيني بين ورده وفله والعنب عندك مدلّى بالاعصان , ويصرخ : لقد دخلت قواتنا حوطة لحج قواتنا الآن في بستان الحسيني , يومان وسنكون في عدن .
عاد عبد الملك وأشرف على تجهيز القافلة وتحرك بأكثر من مائة سيارة وناقلة إلى عدن تحت شعار : الوحدة أو الموت . 
كانت قوات الشرعية قد تجاوزت قاعدة العند , ويتفاجأ السائق حسام بعسكر صالح والاصلاح في دشمهم خلف سور القاعدة وبجنود الشمال يرحبون بهم في النقطة التي نصبوها هناك : 
" أنهى المكالمة, ووضع السماعة وتوجه بالحديث إلى السائق حسام: 
- عد بنا من حيث أتينا, الآن يا حسام. 
راح ثلاثتهم يتلفتون. 
- لا شيء لا شيء – قال لهم عبد الملك - سنشرف على تجهيز قافلة لدعم قواتنا في عدن, ليس أكثر من ثلاثة أيام وستسقط كل عدن بيد الشرعية, هم الآن في حوطة لحج.
- هل سيطروا على العند؟ يتساءل حسام.
 كانت قاعدة العند تمثل المستحيل الذي لا يمكن اختراقه في نظر حسام. 
- ألم أقل لك بأنهم قد دخلوا حوطة لحج؟ أنت تتحدث عن حدث قديم. يرد عبد الملك كتحصيل حاصل.
- وكأن الشرعية في سباق المائة متر, ما إن بدؤوا الزحف حتى وصلوا إلى عدن, ما الذي جرى؟ 
- وأين الاسكود؟ 
- وأين الميج 29؟
- وأين معسكر صلاح الدين؟ 
- وأين الضالع؟ 
يطلق حسام أسئلته وكأنها على غير تدبير واع منه, قادمة من عقله الاشتراكي الباطن. 
- هل سمعت البيض قبل أسبوع من الحرب وهو يصدح عاليا: سنفجرها من داخل صنعاء, سنبدأ المعركة من هناك, سنهزمكم منذ اليوم الأول. 
هل تعلم يا حسام بأن كل الذين استلموا الدعم من سلاح ومال من عدن ليبدؤوا الحرب من جوف صنعاء قد هبّوا وبإخلاص عظيم ليقفوا في صفّ صنعاء, وكانوا هم أوائل المتقدمين نحو عدن؟ من يومها بدؤوا بمعسكر عمران ثم ذمار, لقد حسمت المعركة باكرا بسقوط المعسكرين. هل تدري يا حسام بأنهم لم يتمكنوا في عدن من السيطرة على سرية من الأمن المركزي من قوات الشمال هناك على الساحل في خور مكسر وسط مدينة عدن؟ هل تتابعون التلفاز؟ منذ الساعة الأولى من الحرب تشعر وكأن قوات الشرعية قد أسقطت عدن, لقد حسموا الأمر قبل أن يطلقوا الرصاصة الأولى.
خلال خمسة أيام انتظمت قافلة كبرى بأكثر من مائتي ناقلة وسيارة: كباش – تيوس – مياه معدنية – أكياس دقيق – عصائر – كعك – بسكويت – كولا – بنت الصحن – عسل, وجمع من المشائخ والاعيان ورجال الاعمال, ومختلف الشرائح من المواطنين تحت يافطة كبرى: "الوحدة أو الموت" .
كان عبد الملك في المقدمة, وهذه حوطة لحج بلد الفن والحب والجمال والحسيني, والقمندان, وفضل اللحجي, وسبيت, وفيصل علوي, وبن حمدون, وعبد الكريم توفيق. 
قبيل الحرب كان عبد الملك قد ذهب إلى عدن, ولا تنقضي يومان غير أن يذهب إلى الحوطة, يسترخي في بستان الحسيني, يفترش العشب ويفضّ غطاء علبة البيرة صيرة ويفتح لبن حمدون يغنّي:
"يا باهي الجبين.. كم مرّت سنين.. وانا في أنين.. ليلي من بحين" 
 ويشعر وكأن كل البيوت تعزف وتغني وتشترح. في الحوطة لكل حارة شاعر وعازف وراقص, والحب كريم كرائحة الفل اللحجي لا يستطيع أن يحجبه عنك أحد, واللطف كالعشب في باب كل بيت من بيوتها. قبل أن تضع حرب 1994 م أوزارها بيومين كانت القافلة في مدخل مدينة الحوطة بعد أن تخطّت قاعدة العند, لم يكن عبد الملك ليقتنع بكل ما يؤكده ويوثقه الإعلام عن استيلاء قوات الشرعية على قاعدة العند كأقوى وأكبر قاعدة للاتحاد السوفييتي السابق في المنطقة إلا أن يرى ذلك بأم عينيه. قبل شهر كان على سالم البيض قد أطلق تصريحه الشهير حين سألوه عن سير المعارك في الوقت الذي كان جيش الشمال يقتحم قاعدة العند بقوة فأجاب: ها هو العند يثبت لكم بأنه عنيد. 
هذا العناد على لسان البيض كان اعترافا بالهزيمة. قالها وهو غير مستقر, والصحافيون يلاحقونه دائما, ليتركهم أخيرا ويغادر إلى حضرموت حين كان صالح قد بدأ يحاصرها هناك. دخلت القافلة في 6 يوليه 1994 م وقد انقلب كل شيء في الحوطة على رأسه: البيوت مقفلة, المطاعم مغلقة, الشوارع فارغة, وبستان الحسيني مزروع بالدبابات والمصفحات وراجمات الصواريخ ومضاد للطائرات. قيل لهم: قافلتكم ستكون في بستان الحسيني لدى جماعة الميليشيات التي تتبع حزب الإصلاح, هذه الجماعة خصص لها بستان الحسيني. وآخرون من جيش صالح قصر القمندان, وغيره. الحوطة مبسوطة بالعسكر والأسلحة, ونشوة النصر تعبق على أوجه العسكر والميليشيات المسلحة وهم يتحلقون على وجبة الغداء يأكلون من كباش القافلة وعسلها وكعكها والبنادق على الأكتاف. 
كيف بمن سينتشل بستان الحسيني من تحت هذه الترسانة العسكرية يا عبد الملك؟ كيف بحبات الفلّ على صدور العذارى ليلة عرس قد انفرطت هنا وغادرت عطرها بين كومات الرصاص المرصوص على الصدور والظهور من العسكر في ليلة الاستيلاء على وطن؟ كيف له أن يستمع إلى مزمار هادي سبيت وليس إلى طلقات الرصاص هذه التي يتباهى العسكر بانتصارها على الفن؟ وأين هم أصحاب البلد؟ لا أحد. الكل ميليشيا من الشمال, وعسكر من الشمال, وقوافل من الشمال, وكباش من الشمال, وكعك وحلوى وعصائر وعسل من الشمال, للعسكر وللقبائل من الشمال. لحظات انكسار وطنية, وأبناء الحوطة داخل البيوت خلف الجدران. الوحدة أو الموت, ووطن يداس.
في المساء ذهبت الميليشيا تنفذ حدود الله في شارب الخمر, منذ اليوم الأول, منذ الساعة الأولى جاؤوا يحملون أحكامهم جاهزة. الموت وإقامة الحدود. ماالذي يجري؟ يمر السؤال عجافا في خاطر عبد الملك. هل استطاع التخلف أن يحقق كل هذا الانتصار؟ أي ردة إلى الخلف قادمة؟ أي مسخ هذا للوطن؟
"لنحاكم هذا الوطن. إني أتهمه بالخيانة العظمى" 
كاد أن يؤمن بهذه المقولة لكنه كان قد صبأ تماما.
عبد الملك يشعر بكل هذا ويكاد أن يقول شيئا وسط كل القافلة, بل أن يصرخ, لكنه كان قد روّض نفسه على كل شيء, وأنه في منزلة عالية وعليه أن يهيّئ كل شيء ليتقدم إلى الأمام, ويفكر بشيء هناك: أن يرسل أولاده لاحقا إلى ألمانيا للدراسة, وفي عدن سيبني بيته على ساحل أبين.
قيل لهم بأن عدن لمّا تزل بعض جيوب منها بيد الانفصاليين وفي كريتر بوجه خاص, لكن بعضهم ذهبوا وكان عبد الملك في المقدمة إلى المعلّا, وقبل أي شيء آخر كانوا جميعا يذهبون إلى ذلك الحريق الذي لم ينطفئ منذ ثلاثة أيام ويزيدونه حريقا كل حين, كل المجاهدين يذهبون إلى هناك ويلقون قنابلهم الحارقة على مصنع صيرة بيرة. في المعلّا وفي الطريق, البيوت على طرفي الشارع مغلقة, جميعها مغلقة, ماذا يصنع الساكنون بالداخل؟ وجثتان مرميتان على طرف جبل حديد. بعض الأسر تستقل سياراتها هربا من عدن, ويقفون يطلبون شربة ماء من عبد الملك ورفقته. منذ أيام قبل دخول عدن كان قد تم قطع الماء عنها من المصدر, والناس بصورة أو بأخرى يحاولون تشذيب ماء البحر, ويشربون البحر أخيرا. والفاتحون يتفيدون الغنائم من المؤسسات والشركات والمتاجر والمحلات ويحملونها معهم إلى الشمال. ويذبحون الكباش على رصيف الشارع في الشيخ عثمان ويأكلونها شواءا على لهب طازج, لم تكن من مطاعم مفتوحة هناك. والقبائل والعسكر والميليشيات والمشائخ يطلقون الرصاص وقذائف المدافع المضادة للطائرات في ذات المكان الذي صرخ البيض فيه مغتاظا في اجتماع للحزب الاشتراكي اليمني ذات يوم قائلا: 
"لقد سمعنا بالأمس طلقة رصاص بالمعلا, هذه ليست عدن يا رفاق, لابد أن نضع حدا لعدوى الشمال هذه التي حلّت بنا." 
 " بعد عودة عبد الملك إلى صنعاء ذهب ليقابل وزير الإدارة المحلية, واستخرج أمرا بتعيين السائق حسام مديرا عاما للمديرية. في الحقيقة حسام أيضا ومنذ الآن مديرا لمزرعة الأستاذ عبد الملك عضو مجلس النواب - المستشار في مصلحة الجمارك وعضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام " .
.....................
وهانحن الآن في الفصل الأخير : يعود المؤلف إلى المشهد الأول في الفصل الأول من الرواية  ليبني فصل الرواية الأخير , هذا الفصل الأخير امتداد للفصل الأول , حامل لكل فصول الرواية ويكاد أن يكون فصل عبد الستار ذاته , فصل المستقبل هذا الذي يكاد أنه اندثر من التاريخ . لغير مرة يشاهد  الكاتب عبد الستار الغائب الحاضر أبدا لكنه لا يلتقيه , وفي صنعاء بالذات .
يغادر الكاتب صنعاء في تلك اللحظة ذاتها التي كان يغادرها في الفصل الأول : متى صاغ الكاتب روايته ؟ هل في صنعاء ؟ هل سابقا في مسقط رأسه ؟ هل في مكان ما غير هذا وذاك ؟ هل صاغها في كل هذه الأزمنة ؟ في كل هذه الأمكنة ؟
 وفي الطريق وفي جوف سيارة البيجو وخلال ساعات السفر من صنعاء إلى مسقط رأس الكاتب يتناقل الركاب أخبارا عن عبد الستار غير متسقة ولايؤيد بعضها بعضا , وينزل الركاب من السيارة هنا وهناك وعلى طول الطريق , ويبفى الكاتب وكانه ا لزمان كله وكأنه المكان كله هذا الذي يحط في مدينة عبس :
" سأنزل هنا. قال أحد الركاب.
وهنا تهامة, هنا ليالي الدفء والقمر, نخرج في بيوتنا, ننام في عراء الدفء. لا سقف فوق "عبس"  يطفئ القمر, ولا جدار يحجب الأفق. الليل مفتوح على مصراعيه.
ها أنذا أبني شيئا في السماء, السحاب مغمور بالقمر. تتمشى عيناي هناك فاغرا دهشتي في إرم ذات العماد, التي لم أر مثلها في البلاد, مأخوذا من رأسي حتى قدمي كهذه القطرة التي أتت معها بلألأة البرق ودندنة الرعد وقرعت صدري حين دقّ أذني قرع على بابي. 
من هذا الذي جاء مع المطر؟ 
فتحت الباب, كان هو عبد الستار بشحمه ولحمة وناظريه, أدار الباب خلفه وكأنه ترك شيئا هناك, ونظر نحوي. قطرات الماء متأنيّة, شفافة, حنونة. أشرت عليه بالدخول حتى تنتهي الهتنة, لكنه أمسك بيدي – وكأن أحدًا ينتظره خارج الباب - وقال: 
لا يا عبد الرحمن, هنا أفضل. تلك الليلة عدت, كنت أنت نائما, ما أيقظتك, تركتك تنام, كنت سأقول كل شيئ, تركتك تنام. أنا يا عبدالرحمن لم أسرق شيئا من القصر, وصاحب كحلان عفار هذا لا يعرفني ولا أعرفه, وحين ارتطمت بك كان ذلك وأنت نائم عندي, وذلك الذي كنت أحمله في يدي لم يكن غير فرافر الخبز الذي تعشّيناه معا وفي طريقي بها إلى سلة المهملات, وتلك الطفلة البكر التي هوت من رأس الخذالي ليست ابنتي, وليست من فاطمة. 
- لم يقل أحد أنها ابنتك.
- بل في نفسك شيء من هذا, وأنّي أقبض الرشوة. ولازلتَ إلى الآن لم تكوّن صورة واضحة عنّي, وتشتغل على ما يشبه التلفيق.
- بل هو سمسار الفرزة من قال بأنك اعترفت وتقبض الرشوة, وأنا نقلت ذلك فحسب. 
- تَعْلَمْ يا عبد الرحمن بأنا كنا قد فتحنا حسابا بين حسابات المؤسسة أسميناه حساب الرشوة نودع فيه كل الرشوات التي يدفعها إلينا الرشاة, وكنا نعيدهم خائبين, وفي نهاية الشهر نقوم بصرف هذه المبالغ على الموظفين والعمال الشرفاء. وتدري أن الأمر لم يكن في هذا فحسب, بل ونتقاضى نصف راتب إضافي كحافز شرف. وتدري بأنّا كنا نبيع بقسم الجملة آلاف الطرود خلال الشهر لكل المحافظات بالوطن, وحوّلنا ما كان يسمى "بحق البوابة" مقابل ريالين يتم تحصيلها على كل طرد يتم بيعه من المؤسسة وهو ما كان يستولى عليه النهابون والفاسدون قبل أن نأتي إلى المؤسسة ونقوم بتوزيعها على الموظفين والمستخدمين نهاية كل شهر. وأن هؤلاء الموظفين والعاملين في مؤسستنا كانت هاماتهم إلى السماء, وارتفع سلم الرغبات والطموحات لديهم إلى مستوى لم يعهده أحد في بلادي وكانوا أرغد حياة من كل كادر البنك المركزي. لقد اعتقلتهم السلطة جميعا, كان عليهم في نظرها أن يسرقوا أو يموتوا, فلا أحد يستطيع هنا أن يعيش شريفا. 
- هاااااااه عبد الرحمن! لماذا لم تسطّر ما كتبه عبد الملك قبل خروجه من المعتقل؟ وأنه قد تخلّى عن تلك الورقتين اللتين ظلتا معه كل فترة الاعتقال وطلب من الحارس لوحة ورق حائطية وقلم ماركر, وأنه قد خط عليها عريضا ولاءه الوطني, ووقع اسمه أسفل هذا الولاء, وعلّقها على جدار المعتقل. 
- أبدا أبدا, ففي رواية أخرى بأنه تلك الليلة كتب قصيدة, ولم أستطع التأكد من صحة أي من الروايتين وخشيت أن أتورط فلم أشر إلى أي منهما. 
-  وتلك الليلة كنتُ ثملاً ولا شك بعد عودتنا من احتفالية الشعراء العرب بفندق شيراتون, هذه خططتها وكأنت تنحت الحكاية من ذات صخرها, ألا زلت تذكر النشيد العظيم: 
              "مهما كان عمرنا.. ولدنا جميعا عام 1917".
هكذا كان يردد البلاشفة في موسكو نشيدهم العظيم ونكرّره وراءهم. كم عمرك يا عبد الرحمن؟ 
مهما كان عمرك ولدت عام 1917, تدمير لكل التاريخ, لتقول الأيديولوجيا والعقيدة بكل شيء لها, وبأنها التاريخ, وبأن لا شيء آخر, وكل الآخرين في واحد, مولود واحد هم كل هؤلاء البشر, عقل واحد هم كل هؤلاء البشر, نظام واحد هو نظام كل هؤلاء البشر: "مهما كان عمرنا. ولدنا جميعا في عام 1917" أنا وأنت ولدنا عام 1917م. 
حين كنا نرددها هل ولدنا في صنعاء أم في موسكو يا عبد الرحمن؟
وهكذا تقول جماعاتنا الدينية: كلنا ولدنا يوم البعثة, لا شيء قبل ذلك, وليس غير جاهلية, اكتفوا بتسمية كل ذلك التاريخ بالجاهلية. لم تسمّ أية أمة تاريخا من تاريخها بالجاهلية غيرنا من سمينا كل تاريخنا قبل الاسلام حتى القرن السادس بالجاهلية ودون أن نحكي شيئا عنه غير الشعر, والشعر "جاهلي" وشعراء "الجاهلية". وأيّا كان زماننا مكاننا (فكلّنا قريش). نحن مجتمع يؤمن بما تأكد فشله في الحياة ويصر عليه ويقدسه. وكثير جدا من الأشياء التي كنا نصدقها طيلة حياتنا إن لم تكن كلها ها نحن نكتشف زيفها, كم نحن مغدورون أن نكتشف ذلك ونحن نموت, هل ترى جديدا في الأحفاد؟ لا شيء, بل كنا أفضل, العالم ينمو حثيثا, ونحن نتخلف أحثث. ذاكرتي تحترق يا عبد الرحمن, عبثٌ أن أقرأ بعض رماد أسود هذا المحفوظ في كتبنا الصدئة, سأغسل كفّي وأموت.
كيف ستناقش من يأتي بالحقيقة بين يديه؟ 
عليك أن تعقف لسانك إلى الداخل.
 استمر في الشخير, نم إلى الأبد, وبدون أحلام 
دعك من كل هذا. غنّ يا عبد الرحمن غنّ.
وبدأت سأغنّي: "يابلادي.. يا نداءا هادرا يعصف بي".
- لا لا يا عبد الرحمن, دع لنا بعض مساحة للذات, غنّ هذه لبن سعد: 
"وسط باجل شفت ذيّاك الغزال.. من جماله طار عقلي وارتبش 
ما رأت عيني كغنجه والدلال.. لا بأرض الهند أو ارض الحبش" 
ودسّ في كفّي قصاصة. 
لا أذكر كيف فلت منّي, فتح الباب إلى الخارج وأغلقه وراءه بالمزلاج, ضربت على الباب وكدت أكسره, وجاء الجيران وفتحوه. وكمن يصحو من حلم فركت عينيّ وفتحت قصاصة عبد الستار هذه التي دسّها في يدي وقرأت: 
(توقف عن هذا الذي تكتبه يا عبد الرحمن, ومزّق ما كتبت, أُشفق عليك في مجتمع "لا يقرأ اليوم" وأشك أنه "سيكتب غدا") " 
 
 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24