الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مصر التي علمتني؟؟؟؟ - أحمد السري
الساعة 15:54 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

في شارع طلعت حرب بقلب القاهرة استوقفني إعلان مطبوع وملصق بزحاج المحل فيه: (مطلوب أنسات للعمل ذو مظهر حسن).. ( هكذا) توقفت وكلي حسرة وألم، وتذكرت أستاذي المصري الذي علمني اللغة العربية في الابتدائية والإعدادية وحبب إلي البلاغة والشعر وكل جميل، وعقد بيننا منافسات (التعبير الجميل). مصر التي علمت جيلي كله كل شيء تقريبا، وبين ذلك اللغة وأسرارها، كناياتها واستعاراتها، مجازاتها وصورها البلاغية والتفريق بين الهاء والتاء المربوطة.
كل ذلك دار بخلدي في ثوان، وأنا أقلب فكرة الدخول الى المحل محتجا على أخطاء الإعلان التي لا تليق بمصر.
هل ستُقبل غيرتي على اللغة والإملاء الصحيح، أم سأبدو ساذجا، متطفلا؟ بل ربما متخلفا أمام ما تراه العين في جمهرة عريضة من أسماء المحلات وقد كتبت بحروف انجليزية فقط، وإن كانت الكلمة عربية، وأخرى مكتوبة بحروف عربية لكلمات أعجمية.. على الأقل كُتب هذا الإعلان بالعربية وبنية الفصحى وإن تعثر رسمه، والشكر أولى من العتاب.
ثمة ما يثير السؤال.. لماذا يتم السكوت على خدش وجه مصرالعربي، هل هذه من آثار السياحة الأجنبية التي كانت يوما مزدهرة والأجانب في كل شارع؟ فيكون مسوغ الرزق وطرق أسبابه مفهوما؟ هل ما تزال هذه من علامات الحنين الى التطور ، وأضعفه التعلق بلغة المتفوق والمنتصر؟ هل هذه الظاهرة التي لم تعد تندرا (تريقة)، بل صارت تنافسا على حشر الكلمات الإنجليزية في كل حديث صغر أو كبر على سبيل المباهاة والتأنق اللفظي بالغريب واللافت؟
تدخل محلا فتسأل عن بضاعة ما؟ هل هي أصلية، فيجيبك البائع ، نعم (أورجنال). فتكرر الكلمة ( أصلية)متغابيا، فيأتيك التأكيد ثانية مُفرنجا (أورجنال). تمسك بحذاء اعجبك شكله ولا يظهر أنه (اورجنال)، وتقول هذا تقليد أليس كذلك، فيرد البائع ( آه، ده شوز كوبي بيست) فأستغرب الجواب، وأقول في نفسي وما علاقة ( كوبي بيست بالتقليد، وهل حلت شوز محل حذاء. أو جزمة)، هل نسخ الأصل وصار مزيفا، ربما، لكن ما علاقة بيست ( لصق) أو كوبي بيست، وهي من مفردات الحاسوب وأنظمته، ( أقصد لغة الكمبيوتر).. أغادر المحل مستغربا لاسيما وأن البائع شاب لا يتجاوز العشرين عاما، وهو يرد علي بهذه الكلمات الغريبة ببداهة أنه يتحدث لغة مفهومة..
تغادر المحل وتدخل آخر واسعا وكبيرا يبيع أشياء متنوعة فتجد اللافتات حمراء الرأس، مكتوب عليها بحروف انجليزية Promotion ، وفي محل آخر Sale، وفي محلات أيضا بالحرف العربي الأنيق والصحيح ( تخفيضات).
وفي مقهى أنيق بمول العرب الذي لا حضور للغة العرب في مسميات محلاته، تأتيك النادلة الجميلة باسمة وتقول: أهلا ياحضرات، عايزين إيه ؟ فود والا درنكات؟ فقلنا درنكات...بألم وحسرة.
تذهب الى دوائر بيع بطاقات الهاتف، فترى أن لغة التواصل بينك وبين الشركة هي العامية المصرية، ومع أنها مفهومة بحكم الشيوع في العالم العربي، إلا ان تفصيح الخطاب أولى كما أظن.
تقلب صفحات إعلانات بيع العقار فتصادفك كلمات أغرب، مثل الرووف بدلا عن السطح، والريسبشن بدلا عن الاستقبال، والتراس بدلا عن الشرفة، والفيو بدلا عن الاطلالة، الخ..
وفي لغة الوسائط الاجتماعية، لا تسمع الا سوشيال ميديا، وللتغريدة تسمع تويتة، وللمشاركة في لغة الفيس تقرأ شير. الكلمات العربية حاضرة وجميلة، لكن يتم تفضيل الأصل الأجنبي عليها.
لا يتعلق الأمر بانعدام المقابل العربي، فالمقابل العربي حاضر وبدهي وهو عندي أجمل وأوقع، من هذا الميل الى حداثة متوهمة عبر حشو العربية بكلمات غريبة.. وهذا مجرد اجتهاد لتفسير الظاهرة.
تصعد سيارة الأجرة ( التاكسي)، فيسمعك السائق كلاما عن ( الديستنيشن = الوجهة)، وعن الابليكشن = التطبيق)، وعن (الاستيكر = الملصق).

أسوأ شيء في صفات الإنسان هي التعود، فبعد دهشة البدايات واستفراغ شحنة الغيرة والاستنكار مع انعدام الأثر للغيرة والاستنكار، نعتاد تلك الكلمات والصور فتثبت وتستقر وتصير كأنّ الأمر عاديا، ولابد من استعمال حرف( كأنّ) لأن الأمر ليس عاديا، إنه تمكين لعوائد غريبة بمآلات غير محمودة.
وجه مصر العربي في واجهات المحلات مخدوش بقوة، وفي ألسنة كثير من الناس تشوش واستعجام، ولم تعد المسألة تندرا ( تريقة) على فئات اجتماعية تريد الاستظهار على غيرها بفن الكلام ولي اللسان، صار ظاهرة متأصلة تستحق التوقف..
مصر التي علمتنا، وبلد الأزهر وشوقي وحافظ والعقاد، وطه حسين وتوفيق الحكيم؟ وقائمة طويلة من الأدباء والكتاب، ودور النشر والصحف والمكتبات والأدباء المعاصرين المرموقين والمرموقات، الذين لا عد لهم ولا حصر، كيف تنشأ هذه الظاهرة؟ ولا تناقش بما تستحق؟ أو تكون محلا لدراسات اجتماعية..

اللغة مقياس دقيق على مستوى الوعي بأشكاله المختلفة، فهل يراد للوعي أن يشوه أو يبنى بناء مختلفا. الظواهر المسكوت عنها تثير الريبة وتحتاج إلى تأمل وتفكر ومراقبة المصير النهائي لهذه الظواهر..

لم أدخل المحل الذي قرأت في واجهته ذلك الإعلان للاحتجاج على الأخطاء الإملائية، قدرت أن أصحابه مشغولون بالبيع والشراء في أواخر رمضان وهو موسم بيع وكسب، وسيكون تصويب الإعلان أو فهم غيرتي على اللغة آخر ما يشغلهم..
هل تعيش مصر كلها ومنذ زمن زحمة ماقبل العيد، ألن نجد أذنا مصغية تتفهم الغيرة على اللغة، أم ستبقى مصر مصر كما وصفها يوما العالم الأديب ابراهيم السامرائي في مطلع قصيدة له ( هي مصرُ وإن تغير دهرُ) نرجوا ذلك. فمصر تبقى أعمق حضارة وأسبق خبرة، ويبقى شعبها بخبراته الحضارية أعرق وأوعى.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24