الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
في ذكرى رحيلة الواحد والعشرين البردوني صانع الدهشة - نـــزار النــَّــدَاوي
الساعة 12:28 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


الجزء الثاني

البردوني وضع الشعر في متناول اللغة البسيطة، واللغة البسيطة في متناول الشعر.

عندما أُسألُ عن رأيي بأسلوب السرد في الشعر، فإنا ـ عادة ما ـ أصفه بأنه لحظة من لحظات التخلي الشعري، لما يُثقل القصيدة بالحوار المباشر، والقوليات المتتالية، واللغة التقريرية، ويوسع المسافة الفاصلة بين الشعر والنثر.
لعل الأمر مختلف هنا مع البردوني، لا سيما في كتاباته التي تلت بداياته الشعرية، فهو ـ على الرغم من كثرة اعتماده ذلك الأسلوب ـ كان قد عمد إلى تحميل نصوصه السردية بسمات ٍفنيةٍ إضافية، أسهمت من رفع قيـمتها الأدبية، وفي المواءمة بين بين ما هو سردي وما هو شعري،  شرط هيمنة التوظيف الجمالي داخل القصيدة، وهو عمل لا يستطيعه سوى من يتعامل مع اللغة تعاملاً حسياً جمالياً استثنائياً،
 وأجدني أذهب هنا إلى ما قاله عن تفاعله من اللغة تفاعلاً سامياً قل وندر أن يتحقق عند سواه، فهو يقول:
"اعتمدت على السماع، لأن السماع أوجد عندي حاسة ثانية، أو أذناً ثانية. أنا مثلاً لا أسمع صوتك كما يسمعه بعض الناس، بل أشعر أن له خضرة، وحمرة شفقية، وبرتقالية".
عمِلَ البردوني على وضع الشعر في متناول اللغة البسيطة، واللغة البسيطة في متناول الشعر، لكن بعد أن دخل القصيدة مُزوّداً بمجموعة من التقنيات الرافعة، مثل تقنية تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة، أو في البيت الواحد حتى، إلى الدراما المشهدية، إلى تقنية القناع، إلى الأسطورة، فالسخرية التي تكتنف كماً كبيراً من شعره، وغير ذلك منها، كما هو الحال في قصيدته الساخرة "سندباد يمني في مقعد التحقيق"، التي أختار منها هذه الأبيات الثلاثة، التي يتحدث بها عن جلوس السندباد اليمني أمام أحد رجال المخابرات الحكومية، ليجيب على أسئلته أثناء التحقيق.

 

💂قرأت ـ كما يـحكون عنك ـ قصـــــائداً
مـهــرّبــة .. 👨 بـل كـنـت أوّل هـــــــاربِ
💂أما كنت يوما طالباً؟ .. 👨كنت يا أخي
وقـــد كــان أســتاذ التلاميـــذ طالبـــي
💂قـــرأتَ كتـابــــاً مـــرةً صـــرتُ بـعــــده
حمـاراً ..  👨حمـاراً لا أرى حـجم راكبـي

 

إنها عملية نسف ناعم، وبناء ترميزي حاذق مارسه البردوني في موقف واضح يفضح من خلاله أساليب السلطة، ويقف به إلى جانب الشعب، الذي بقي أميناً لقضاياه وآماله مدى حياته كلها، رغم أنه يعلم أن قصيدة شاعر وحدها لن تغير واقعاً، ولن تطعم الفقراء خبزاً، لكنها تبث فيهم ذلك الإحساس بالتحدي، الذي يجعل من وجودهم ـ ووجوده معهم ـ وجوداً مبرراً أمام الحياة وقسوتها.
الحياة تلك هي التي ظل يشكو من ظلمها له، وكان يقابل قسوتها بالتندر والفكاهة التي لازمته، وانعكست على مجمل نتاجه.
البردوني المتنبيء، كان أكثر من مراقب سياسي عميق، يجيد قراءة المعطيات، ويقدم نتائجها الحتمية، فتلك عملية يحسن الكثير أدائها، وهي ليست حكر على الشاعر.
لقد كانت نبوءات البردوني أكثر من ما تسمى بـ "نبوءة ذاتية التحقيق"، فتلك من محفزات في أثر التأكيد السلوكي، كما يقول علماء الإجتماع.
أتذكر هنا مقولة توماس كون التي يقول فيها: 
 "إذا عرّف الرجال المواقف على أنها حقيقية، فهي حقيقية في عواقبها"، لكن نبوءات البردوني 
تفردت بتسمية مصائر أشخاص وثورات قام بتحديد تواريخها، قبل حدوثها، ولعلنا لا نجد نبوءة شاعر تحققت، كما هو الحال مع البردوني،  إلا في نصوص الأساطير الأدبية، كما هو الحال في أسطورة "أوديب" اليونانية،  الذي حُذّر والده من أنه سيُقتل على يد ابنه، أو في قصص ألف ليلة وليلة، وغيرها من الأساطير الأدبية.
أكتفي بالإشارة ـ هنا ـ إلى واحدة من النبوءات البردونية، تلك التي تتحدث عن ثورة عام 1962 السبتمبرية
 التي اندلعت ما بين ( المملكة المتوكلية اليمنية وبين المنادين لقيام الجمهوريّة  واستمرت ثمان سنوات (1962 - 1970) وقد سيطرت الفصائل الجمهورية على الحكم في نهاية الحرب وانتهت المملكة وقامت الجمهورية العربية اليمنية)، وفي ذلك يقول في إحدى قصائده التي كتبت في السبعينات. 

ولـدت صنعاء بسبتـمبـر
كي تلقى الـموت بنوفمـبـر
لكـن كـي تـولـــد ثـانـيـــة
في مايو أو في ديسمبـر
.
ثم كانت الوحدة اليمنية في مايو، كولادة أخرى بصنعاء كما تنبأ شاعرنا، وكانت أعلنت رسميا في 22  مايو  1990، وهو ما يدعو إلى الإيمان بأن ذلك الشاعر الذي فقد حاسة البصر، تملك حاسة ما بعد البصيرة
لم يكن الردوني معزولاً عن ما يدور حوله من أحداث عربية أو عالمية.
الشواهد عديدة على أنه كان يتفاعل مع الأحداث العربية والعالمية، وما يأخذ البعض على منتج البردوني الشعري، على أنه ذو خصوصية يمنية أكثر منها أي خصوصية أخرى، فذلك لأن اليمن يشغل الحيز الأكبر من قصائده، الشيء الذي يعود ـ وفق تصوري ـ إلى أنّ هم البردوني لم يكن هماً شخصياً، بمقدار ما كان هماً مجتمعياً، تنكر فيه لنفسه، وآمن فيه بالتاريخ وبالإنسان اليمني كقيمة حضارية كبرى، عمل على دفعها إلى الواجهة، وتحول إلى أن يصبح شعره ديواناً لليمن، كما هو الشعر ديوان العرب.

 

وهو حين غاص في التاريخ اليمني القديم والحديث، إنما كشف عن قدرة معرفية فائقة، عمل على تكثيف عناصرها، ودفعها باتجاه تركيز الفعل الاستثنائي المحرض لتفجير مفارقة ما في الزمان والمكان السياقي المناسبين داخل القصيدة، ما يجعل المتلقي لشعره في حالة اشتغال فكري، ينشط من أجل تعقب الدلالات الخفية في الظاهر المباشر من اللغة.
اصدقائي الأعزاء
وقبل أن أودع هذا الرجل العظيم هنا، أقدمه لكم من زاوية أخرى:
لقد عاش البردوني بسيطاً، ومات بسيطاً.
- كان يفضل الالتصاق بالشعب، على أن يلتصق بالسلطة.
- كان يسخر ريع الجوائز التي حازها لمصلحة أصدقائه.
- كان يدعم أعماله الشعرية بها لتصل إلى المتلقي بشكل شبه مجاني، فقد كانت أسعار دواوينه لا تساوي سعر بيضة واحدة، 
"صارت البيصة أغلى من كتابي" كما  كان يقول هو عنها بنفسه في محضر صديق له، اعتقد أن للبردوني ثروة كبيرة.
هذه بعض ملامح شعر عبدالله البردوني الكبير، أقدمها لمحبيه ـ وأنا منهم ـ راجياً أن أكون قد وفيته بعض حقه، وما كتبته كان اطلالة مختصرة، كتعبير للحب، والعرفان بالجميل لواحد من أكبر شعراء العرب في القرن العشرين من الزمن.
في الثلاثين من شهر آب اغسطس عام 1999 ترجل البردوني عن صهوة الحياة، ونزل عن منصة الشعر بجسده،لا بروحه، ليبقى علامة فارقة في تاريح اليمن، وتاريخ الشعر الحديث.
أعود ـ مجدداً ـ  إلى حديث الدكتور علي العلاق، لكن وهو يصف نزول البردوني عن منصة المهرجان "مهرجان أبي تمام" هذه المرة، حيث يقول:
لما عاد البردوني (عن المنصة)، أحسسنا جميعاً أنه أطول قامة مما كان.
كان البردوني طويلاً، فقد أضافت له القصيدة طولاً آخر، وأضافت لشخصيته بعداً آخر.
أخذنا نعيد حساباتنا من جديد، ونرتب استجابتنا السابقة، ونعيد ترتيب ذاكرتنا:
إننا أزاء شاعر سيحتل ذاكرتنا لأزمان طويلة، ولن يغادرها أبداً

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24