الثلاثاء 19 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
رياح محمد الشميري في قصاصة عنيدة المضامين ذاهبا بها لمناقشة المختلف - محمد الغربي عمران
الساعة 14:19 (الرأي برس - أدب وثقافة)



الإهداء
"إليكِ.. لا شريك لكِ.. خديجة زوجتي".

 

تلك العتبة هي ثاني ما يقابل المتلقي بعد العنوان "رياح في قصاصة عنيدة".. ولوحة الغلاف التي غلب عليها اللون الوردي الداكن.. يبرز وجه كائن دون ملامح تشكل بخطوط هندسية.. تشترك مع خلفية أفق يحتضن عدة مبان وكأنها قرية متخيلة دون ملامح دالة على طابعها...
بعد تلك العتبات تنسال نصوص المجموعة.. التي أظهرت اشتغال الكاتب بفنيات التكثيف والترميز.. مع مسحة من الغموض.. لتخرج للقارئ بتلك البنى المكثفة تكثيفا عال.. لغة.. وحبكات.. لما يقارب من مائة وأربعين نصا.. توزعت على مائة وستين صفحة.. المجموعة صادرة حديثا عن كوفي بوك.. صنعاء 2020.
يجرد بنا الذكر إلى أن الشميري عرف شاعرا وناشطا ثقافيا.. ليفاجئ القارئ بهذه النصوص السردية.. وليس أي سرد بل أن يمتطي أدق فنونه وأصعبها.. المتمثلة بـ "ق ق ج".
تذكرني هذه النصوص.. بنصوص القاص المغربي حسن برطال.. الذي التقيته قبل سنوات في مهرجان أدبي نظم في مدينة الناظور المغربية على ضفاف المتوسط.. وقد لفت انتباه المشاركين بنصوصه القصيرة جدا.. والمكثفة.. وكـأن برطال ينتج كل نص في معمل كيماوي.. لا يقبل الزيادة أو النقصان. وكان المهرجان مخصص لفنون الـ ق ق ج. حضره أدباء من عدة أقطار عربية .. وفيه سمعنا آخرين لهم تجارب مشهوده في هذا الفن.. يعلنوا توقفهن عن كتابة الق ق ج. بعد اصدارهم لمجموعة أو مجموعتين.. وأن توقفهم ناتج عن صعوبة الإتيان بالجديد.. نتيجة لمساحة الخطاب المحدودة.. وعد إمكان قدرتهم على تقديم الجديد.. في نصوص لا يتجاوز بعضها السطر.. أو بضعة أسطر.. إذ على الكاتب أن يقدم مضمون.. وحبكة فنية.. ورؤى... الخ ذلك.. ولذلك أعلنوا عن اكتفائهم بما أصدروه من نصص حتى لا يكررون أنفسهم. وقد حسب ما أنتجه كل منهم تجربة وكفى.
حديثنا حول هذا الفن.. وصعوبته.. موجه لكثرة من الكتاب ممن يستسهلون كتاباته.. في الوقت الذي لا يفرقون بينه وبين الخاطرة أو النص الشعري.. أو الوجدانيات. ولذلك تأتي كتاباتهم دون لون أو طعم.. فلا هي حمالة مضامين ولا دلالات.. أو أي إيحاء.. ولا تمنح المتلقي دهشة.. إذ أن أي عمل لا يدهش لا يحسب على الفن.. فما بالنا بعدم وجود مضمون.. ولا يعمل كاتبها على التكثيف.. وصيغ لغوية لافتة.
إلى هنا يمكننا أن نتشارك في قراءة عدد من نصوص "رياح في قصاصة عنيدة".. كنماذج لنصوص مدهشة في جوهر ما تتضمنه.. وفي بناها التكثيفي.. هذه النصوص التي تذكرنا بنصوص "برطال" في إتقان لغتها وما تحمله من رؤى.
مسافة
"بين شامتين.. قرأ قصيدة وسؤالين.
تجاوز الأربعين..
سحبت منه ورقة الإجابة! "
رقصة
" وضعت أمام عينيه صورة لعاشقين يقصان.
تظاهرت بالقراءة.. وخلف نظارتها مايسترو منهك
بترتيب المساء وضوء القمر
امتدت يده للصورة.. أحاطت يمناه بخصرها..
لم تقرأ حرفا واحدا..!"
اتفاق
"بعد عقدين ونصف من المهترات السياسية على شاشت التلفزة.. قررا أن يعتزل كل منهما وظيفة المتحدث الرسمي ليخلدا للراحة ومتابعة أحفاد..
كإجراء نهائي لضمان التنفيذ اتفقا على كل شيء
وتم الطلاق!"
شكر وتقدير
"لا تنس نفسك..!
حاول اجترار الكرة من ذكرة كهولته.
ارتعشت أطراف ماضيه...
انتفخت سيرته الذاتية.. غادر جدار صورته المعلقة!"
نقاش عام
"تفتح أزرار يديها.. تفردهما.. أبعد  من لغة الجسد
بكل شفافية تطرح القضية.. الرأي والرأي ذاته
تحت الطاولة.. تلتصق ساقاه بشده
ارتباك حاد...
بدون تصفيق
الرجاء من وسائل الإعلام.. مغادرة القاعة! "
تلك النصوص وغيرها.. نجد أن الكاتب أتقن اختيار العنوان.. فالعنون قي النص القصير جدا.. يجب أن يأتي مكملا للنص.. أو يمثل مفتاحا لمضمونه.. وهو جزء بدونه يتوه القارئ. اضافة إلى تركيز الكاتب على الإتيان بجملة في آخر كل نص.. كقفلة تنير للمتلقي كثيرا مما غمض.. كما أنها تأتي دوما في شكل مفارقة.. وتلك من سمات الطرفة.. تلك المفارقة التي تبعث على الدهشة لما تحمله من تضاد في المعنى لما قبلها.. إذ الإتيان بالنقيض هو ما يصدم المتلقي وقد توقع لنهاية النص نهاية عادية ليأتي النقيض يمنحه نوع من الرضى وسعة التأمل.. وقد أستعار الكاتب هذه السمة من فن الطرفة في العديد من نصوص مجموعته.
ونأتي على نصوص أخرى لمزيد من فهم قدرات الكاتب وفنياته.
بر
"قرر الطبيب استئصال ثدييها.
وحيدها الآن مع زوجاته الأربع
لم تفطمه بعد"
أجيال
"كان بخورها يصل قبلها.. عطرها يعبد لها الطريق ويزيل عنها أحجار العثرة
أخبرها حفيدها العائد من نجد بأن عطر المرأة زنى.
اعتزلت الناس ماتت بذات الرئة!"
حكيمة أسنان
"كان شرطها.. كرسيا لعيادتها.. وأن اكون اول من تفتح فمه.
ولأن فمي من ورق وقصيدة فقد وافقت دون خوف.
انتزعت ضرس العقل مباشرة
وحين حاولت ان ...
كانت اصالة تغني: يامجنون مش انا ليلى"
تحري
"بين هلالين كتبت
ربما تتعذر رؤيتي الليلة
كان تطبيق الإيمو بحاجة لتحديث.. ولا مساحة في ذاكرتها تكفي...
لن أصوم اذن
قالها وانصرف يستفتي دولة جارة!"
من هذه النصوص.. يلاحظ أن السرد بضمير المتكلم رجل.. وأن الشخص الثاني أنثى.. ودوما تلك المشاعر المشبوبة.. وبلغة الرغبات يقدمها الكاتب.. لتدغدغ العاطفة. فالرجل هنا ليس جلاد.. ولا المرأة ضحية.. لكنها الغرائز هي من تجلد الجميع وتسيرهم.. وهكذا في جل نصوص المجموعة.. نجد الأنثى والذكر متساويان في رغباتهم .. عاطفتهم.. دوافعهم ..في لغة تماست مع الشعر في صورها.. مع شفيف المشاعر.. فال ق ق ج إذا أخذت من الطرفة مفارقتها.. تأخذ من الشعر لغته.. وتراكيب صورة.. كما يصنع الشميري في نصوصه.
نصوص أخرى.. يمكن أن ندرك اختلافها عن سابقاتها.
شاعر
"كلما أثث بيتا.. شعر بالنسمة تداعب مخيلته..
اكمل ديوانه.. تكاثر (الموالعة).. احتاجوا مزيدا من المتافل!"
أدب
"تناول زرقاءه الأخيرة.. والمساء لم يبدأ بعد...
بياض أوراقها ينبئ عن عذرية مخملية وتجربة عمياء
سألته دون ان تلتفت إليه: كل تلك الزرقة التي فقدها البحر الم تمنحك بعض ادب؟!
لم يجد ملاذا لذكورته الوارمة غير قلم من رصاص!"
بذخ
"عاد متزرا ذهب الرمل.. صنارة الصيد في يده أطول من نداء صغاره..
قطط الحارة ما زالت تغني انتظارا منذ عام!"
شوكولا
"أخبرته أنها وثقت طفولتها على أغلفةالـ (ما كنتوش) و(كيدبيري) وكيك (السارتيا)
بصماتها خالدة لشفاة العمر وشقاوتها تجاوزت صخب الصداع لمدمن القهوة التركية
الصمت وحده يقرأ المشهد الداكن.. وخيوط البندق المسال..
أنت معي؟!
أنت...
كان على الجهة الأخرى من الهاتف منشغلا بذكريات أصابعها..!"
وكما هي اللغة في جميع نصوص المجموعة مقتصدة.. وكما ذكرنا استخدام الكاتب للغة شاعرية.. فأنه أيضا في نصوص كثيرة ومنها السابقة.. يتكئ على عمق الحكمة في مضمونها.. فالقاص المتمكن يمكنه أن يتنقل في تنوع نصوصه.. مستعيرا من فنون أخرى خصائص لتنوع نصوصه فمن أدوات الطرفة.. إلى لغة الشعر.. وعمق الحكمة.. إلى لقطات فلاشية.. ولوحات سردية تحاكي اللوحات التشكيلية.. في قوالب سردية شيقة.. مختزل لا يقبل فائض الكلمة الواحدة.. أو إسقاط مفردة.. إذ أن في الحالتين يختل النص ويفقد معناة ودهشة بناة. هذه هي صعوبة الق ق ج. أن تقدم نص لا ينسى في فكرته.. مدهش في بناه المختزل غير المخل.
ويمكننا أن نختم كلماتنا القليلة بنص وحيد.
زهايمر
"اخبرها الطبيب انها مصابة بالخرف...
ابتسمت دمعتها
أخرجت لهم قميصا دافئا من شغل يديها.. وصورة حفيدها الذي استبقت عمره قذيفة مقدسة!"
هذا النص الخاتمة الذي يختزل بشاعة ما يدور في اليمن من احتراب باسم المقدس.. عذاباتنا في اليمن والكل يرفع نصرة دين الله.. بل أن هذا النص من خلال الجدة والحفيدالقتيل بقذيفة مقدسة.. تذهب نا إلى مشارف القهر.. إلى تساؤلات حول مراجعة وعينا حول الغيبيات.. وحقيقة استمرارا قبح تجاوزته شعوب كثيرة.. ونحن لا زالنا نقدم دمائنا فداء للأمس.. ونعيش الأمس.. ولا نلتفت لا لحاضرنا أو نفكر قط بغدنا. مكبلين إلى ماضي لا يعنينا في شيء.. فقط حوله الطغاة إلى أدوات لمص دمائنا باسم المقدس. عذاباتنا هي نفسها عذابات شعوب ومجتمعات تعيش الحرب باثر رجعي.. وسفالة أمراء الحرب في أصقاع الأرض.. تلخص بذاءة القتل وقبحه على أسس مقدسة.. مع أن لا مقدس غير السلام والحرية والعدالة.. والإنسانية...

منقولة من الحوار المتمدن...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24