الخميس 28 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
جدل التاريخ والواقع في كتاب اليمن الجمهوري - محمد فائد البكري
الساعة 21:29 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


مدخل: 
      من اللافت أن مؤلفات البردوني الفكرية على أهميتها لم تحظَ بدراسات علمية وقراءات موضوعية. وما تزال تنتظر أن يُعاد الاعتبار لفكر البردوني من خلال دراستها وتحليلها، ومقاربة ترسيماتها الرؤيوية.
      إن جدل التاريخ والواقع في عموم فكر البردوني يختزل رؤيةً خاصةً لعلاقة الماضي بالراهن، ويستظهر  مطارحة خاصة لحركة الوعي في المجتمع. 
    وقد آثرت هذه القراءة استخدام مصطلح جدل، لكثرة دورانه في كتابات البردوني، ولطبيعة العلاقة التفاعلية بين القول والمقول في سطور كتابه (اليمن الجمهوري، محل هذه القراءة) على نحو جعل كل منهما ينتج الآخر، وهو ما يعني أن عودة البردوني للتاريخ بوصفه ماضيا تصدر عن إدراك لجدلية قائمة بين ثقافة الماضي وتطلعات ثقافة مستقبلية.
في حضرة البردوني: 
   الشاعر عبدالله البردوني( 1929 - 1999) من أبرز المثقفين العموميين المنشغلين بهموم مجتمعهم، وقد عبَّر عن ذلك شعراً جعله لسان حال المواطن اليمن. ولعله حين رأى أن الشعر وحده لا يفي بالتعبير عن رؤاه وتطلعاته واستشرافاته. خاض في الكتابة للصحافة والتأليف خارج دائرة الشعر. وكان من أثر ذلك أن نشر كتباً فكرية معروفة. 
    في هذه الكتب توزعت اهتماماته بين توثيق ودراسة الموروث الشعبي، والأدب الشعبي، والنقد الأدبي، وبين قراءة وقائع التاريخ اليمني وأحداثه وحركة المجتمع وعوامل الركود والتطور. 
وتتوفر هذه الكتب على مادة متنوعة من القضايا والرؤى التي ترشحها لتكون من ضمن مراجع ومصادر دراسة التاريخ الثقافي لليمن. 
   في هذه الكتب عموما لا ينسى البردوني دوره كمثقف. ونهوضا بذلك الدور عبَّر قائلا: " إن المثقفين الحقيقيين هم الذين تغيّرهم الثقافة لكي يغيّروا بها"(اليمن الجمهوري: 312).
  ولإسهامه في التنوير وانحيازه للشعب اليمني في سلوكه ومواقفه وكتاباته وشخصيته المتحررة من التحيزات العابرة للاصطفافات والتيارات السياسية، صار رمزا وقائدا ثقافيا لمجتمعه. وحاز محبة جمهور عريض من عموم اليمنيين، وحظي بتمجيدهم إلى درجة الأسطرة. 
 

كتاب اليمن الجمهوري: 
   ناقش البردوني في مؤلفه هذا عددا من المفاهيم الهامة التي ما يزال نقاشها حتى الآن فعلا حيويا، وضرورةً للخروج من مأزق الصراع الذي يعيشه الوطن.
     وفي هذا الكتاب تتداخل القضايا ببعضها بعضا، وبعضها يفضي إلى بعض في جدلية واضحة، سواء تعلق الأمر بالحرية أم بالدولة أم بالثورة أم بالجمهورية أم بالتغيير أم بالتطور...الخ.؛ حتى ليصح القول: إن كتاب اليمن الجمهوري مقاربة فكرية لتاريخ اليمن منذ ثورتي 26سبتمبر1962م و14أكتوبر1963م. وحتى قيام الوحدة اليمنية بين الشطرين في 22مايو1990م. ومعلوم أن ثورتي 26سبتمبر و14أكتوبر شكلتا ذروة صراع العصر مع التاريخ، ومن خلالهما بدأ زمن الجمهورية في جنوب وشمال اليمن. وهي مرحلة فارقة في تاريخ الوطن. بل وفي تاريخ الوعي الجمعي اليمني.
  وهو يشير إلى ذلك قائلا: " فظلت الجمهورية الأولى شبه مرفوضة، فانتقل الجدل من ملكية وجمهورية إلى نوع الجمهورية وتشكيلها، وإلى كيفيتها لا اسمها "(اليمن الجمهوري: 398).
  ومقاربةً لفكر البردوني كما تجلى في هذا الكتاب وبحدود ما تسمح به مساحة النشر، سنعرض لبعض المفاهيم التي يكثر من توظيفها في معالجته للتاريخ وللواقع، وغالبا ما يستخدمها استخداما أداتيا لما بينهما من جدلية تفاعل وتكامل وتنافي.

 

مفهوم الجدل:  
    الجدل عند البردوني أساسي في فهم حركة التاريخ وقراءة تحولاته. وهذا المفهوم يستدعي تلك الحيطة الزائدة في معالجة كل مفهوم آخر، يدخل منه لقراءة قضية ما؛ فمثلاً يقول:" إن تأثر الشعوب بالشعوب، سنة نضالية، شريطة أن تعرف الجماعة المناضلة حاجة شعبها إلى التغيير وإلى نوع التغيير الذي ينشده، وربما لم يكن(اليمن) في حاجة إلى شكليات الحاكم، بمقدار احتياجه إلى الحكم الذي يتجاوز به الضرورات مهما كان شكله، ولو كان بدون أشكال مسماة "(اليمن الجمهوري: 296).
    في سياقٍ آخر يناقش العلاقة بين الحركات التاريخية، ويرى أن التأثير والتأثر لا يتم على أساس المحاذاة أو التشبه أو حتى الاستلهام، وإنما على أساس تشابه الظروف الموضوعية التي تفرض التشابه لاحقاً، ويقول في ذلك:" صحيح أن هناك وشائج دقيقة بين الحركات، ولكنها نفسية أكثر منها صيرورة تاريخية، لأن كل حركة موسومة بأنامل عصرها وألوان مناخها الفكري والزمني، فلا يقلل من هذه الحركات تزامنها بأوانها، ولا يزيدها ما نخلع عليها من الرؤية المعاصرة أو الموضوعات الجديدة"(  اليمن الجمهوري: 121).
ويعبِّر عن فاعلية الجدل في خلق رؤى ثورية في المقارنة بين موقف الشاعرين أحمد محمد الشامي ومحمد محمود الزبيري من الحرب العالمية الثانية، ويقول "هذه قفزة نوعية في المسيرة الجدلية، التي كانت تتراوح في شارع الماضي نحو عشرة قرون، وهذا التفاعل بأحداث الخارج كان متناغما مع التوق لتغيير الداخل على أساس الخط الجدلي التاريخي." (اليمن الجمهوري:36).

 

مفهوم الواقع: 
   يلمس القارئ في فكر البردوني خصوصية تميزه من غيره، في الطرح والمعالجة، فاهتمامه بالواقع في جدل دائم مع رؤيته للتاريخ ، وقراءته للتاريخ تضع معاييرها من خلال تتبع التحولات التاريخية ورصد أسبابها ودوافعها وتداعياتها. لا من خلال القبول بحيثيات التاريخ. 
ودائما يورد تعليقاته على ما حدث من موقع ما كان يجب أن يحدث، معتبراً " إنَّ ما كان ممكناً بالأمس أو مبرراً بالظروف، يفقد موضوعيته بانتهاء زمنه" (اليمن الجمهوري:432). وهو لذلك لم يسعَ لتبرير التاريخ فكريا بقدر ما سعى إلى نقد التاريخ، وتظهير خباياه؛ ليصبح عارياً من حججه، ومتواليات قراءته السكونية التي تنزع الأحداث من سياقاتها التاريخية والاجتماعية وعواملها السياسية والاجتماعية والثقافية. 
   وقراءاته للتاريخ تهدف لتحرير الواقع من سلطة التاريخ عليه. وفي ذلك يقول:" إن الوضع المتخلف يفرز المفاهيم المتخلفة، وبالأخص في وجود من يموِّل العاملين على التجزئة طمعا في التوسع على حساب واحدية الوطن"(اليمن الجمهوري:139).
وهذا يكشف أن قراءته للتاريخ وظيفية ولايخفى فيها البعد الذاتي، الذي ينهج فيه لتقديم شهادته الخاصة على بعض الأحداث، وإعلان موقفه من بعضها انطلاقا من كونه مثقفاُ عضويا، ومفكراً منتمياً لأوجاع شعبه. 
    وفي سياقاتٍ كثيرة يناقش البردوني تدافع الأحداث وفواعلها وتداعياتها بصيغة تستبطن مفهومه للتاريخ، ورؤيته لما يجب رصده من دوران  عجلة الوقت، فمثلا يقول: إن:" التحرك التغييري وتكرار المتشابه يشكلان: الفرق بين التأريخ كصيرورة، وبين الزمن كتعاقب أوقات". (اليمن الجمهوري:421). 
وفي ضوء ذلك تسقط معيارية المقارنة بين الأمكنة بوصفها مسارح أحداث وحيّز وقائع، وبين الأزمنة بوصفها توقيت وقائع، ويبقى منها استدعاء الشاهد في معنى القضية، وحدود الموضوع المدروس، " لأنَّ تاريخ أي مكانٍ يستدعي الأشباه والنظائر من تاريخ سواه" ( اليمن الجمهوري:6).

 

مفهوم التاريخ:  
  يرى البردوني أن " من الجميل الغوص في الماضي لمعرفة صيرورته ولعصرنته، ولكن ليس لجعله عصراً راهنا أو مستقبلا، وإنما نظرية معرفة للمستقبل"(اليمن الجمهوري:120).
     ومن هنا تكشف قراءته للتاريخ اليمني عن طبيعة الحراك الاجتماعي ومآلاته، وينزع في قراءاته للماضي من واقع أنه " لا يقضي على سلطة الماضي شيءٌ كما تقضي عليه كثرة الكتابة عنه، لأنَّ الماضي الذي يعتصم بجلال  القِدَم والصمت، تنتسب إليه من الرهبة والخرافات ما يجعله شديد السيطرة، وبالكتابة عن هذا الماضي تتجلى حقائقه كتاريخ كان حياة، أو حياةٍ آلت إلى تاريخ"(اليمن الجمهوري:117). 
  وفي هذا المعنى يتساءل البردوني: "هل نحلل التاريخ لاكتشاف المحجوب من أغواره وآفاقه، أو لكي نخلع عليه رداءً معاصرا؟ ( اليمن الجمهوري: 118).
  في كثير مما يناقشه البردوني تبدو نبرة التساؤل عالية، وهو تساؤل التفكير النقدي. وقد كان مدركا أن قراءة التاريخ من داخله، لا تعتمد على التفسير الذاتي للفرد، ولا على ما توثقه الحكاية من أحداث، بقدر ما تحتاج إلى تقصِّي  معنى ما للتاريخ. 
 وفي ذلك يقول: " لا شك أن كل حدث مهما كان جزئياً أو آنياً ينتزع أهميته من آنه، ومما يترتب عليه من مغايرات لما قبله، لكي يخلق مستقبلا" (اليمن الجمهوري: 167). 
   بمعنى أنه يدرك أن قراءة التاريخ يشتبك فيها الماضي بالحاضر على رقعة الواقع، وأي قراءة للماضي لا يعنيها منه إلا ما يعينها على استشراف المستقبل في إطار البحث عن منظومة فكرية؛ تجتهد في استخلاص تلك الحقائق من وقائع موضوعية قائمة بذاتها.
   وقد قدَّم البردوني قراءته لتاريخ اليمن من واقع أن" الأخطاء قابلة للتوارث إذا عززتها أعراف وجمود عليها، على حين المزايا كسب شخصي أو كسب اجتماعي على أياد قيادية مبدعة تفجر التحرك من دخائل المزايا من بواطن الركود"(اليمن الجمهوري:421 ). فكانت قراءته لكسر إمكانية توارث الأخطاء. 
   وهو بالعموم لا يقرأ التاريخ كمراقب وإنما ككائن  يعيشه، وينفعل به ويتفاعل مع مجرياته، ويشعر بتداعياته عليه، ولهذا كان حذراً كل الحذر من خلط الحقائق بالتفسيرات الذاتية، وحريصاً كل الحرص على بسط القضية بأبعادها وأطرافها حتى لا ينفي وجود الحقيقة موضوعيا؛ مما قد يؤدي إلى فوضى معرفية. 
   ويقول في ذلك: " من هنا أصبح تاريخ الماضي علاقة صلة بين العصور، لا علاقة جلال تحجب الرؤية عن دقائق التشابه وغوامض الفروق، لأن كل عظيم مهما جسّمته الكتابة، تخفف من جسامته كتاباتٌ أُخر، بانتقال التأريخ من التسجيل إلى التحليل ومن التحليل إلى نظر عقلي، ولعل العقود الثلاثة الأولى من عصرنا كانت أحفل اهتماما بالحركات التاريخية، أو بتاريخية الحركات، سواء كانت حركات فكرية أو حركات دموية، لأن فترة الحركات أدعى إلى تقصي الخلفيات، لاكتناه الثوابت الفكرية، والتيارات التحولية، ولقد أدى الاعتناء بحركات الماضي إلى اقتتال جدلي عن كيفية الكتابة عن هذه الحركات، إذ لا خلاف في الكتابة عن كل الحركات، ولكن الاختلاف المشتجر عن كيفية الكتابة" (اليمن الجمهوري: 117).
    في سياق تالٍ يستدرك البردوني على اتجاهين في قراءة الماضي، أو كما سمّاهما منحيين، إذْ يقول: "إن الجدلية القائمة حول كيفية  الكتابة عن حركات الماضي من أنضج ثمرات ثقافاتنا المعاصرة، لأن الذين كتبوا عن الماضي من مطلع النهضة إلى بدء الثمانينات نحوا منحيين: الأول تقديس الماضي كما لو كان ملكوت ملائكة أو كما لو كان أقصى غايات الكمال، ومن يلاحظ الكتابات عن أعلام الماضي يجدها نوعاً من  الدعايات للعلم الذي هو محور الكتابة. 
   أما المنحى الثاني من مناحي الكتابة عن الماضي فقد اهتم بالحركات الفكرية والدموية وأعلامها، وهنا يتساءل: "هل يمكن أدلجة الحركات القديمة ولا وشيجة لها إلى الأيدولوجيات؟ وهل الحركة التقدمية في الماضي تلحق بالحركات التقدمية في العصر عن طريق الصيرورة؟ "(اليمن الجمهوري: 117).
 ويلح في التساؤل "  فما نوع تقدميتها: وما مقدار اختلافها عن تقدمية اليوم؟" (اليمن الجمهوري: 119).
خلاصة: 
    اتضح لهذه القراءة أن جدلية التأريخ والواقع في فكر البردوني تعمل على نحو من التفاعل والتأمل؛ لتبرز إلى العلن ما لم يُقل من الأحداث والوقائع، وما تخبئه المرويات من حقائق مواربة يمكن استنتاجها، كما أن سرد الوقائع لا ينبغي تلقيه أفقيا، فلكل واقعة سجل ممارسات تترسب في العمق.
وهكذا لا يلعب البردوني دور المؤرخ للأحداث،  ً ولا  يكتفي بذكر ما حدث كما قيل إنه حدث. لأن ما يعنيه هو تأريخ الأفكار ورصد تقادحها، وصراعها وامتدادتها في سيرورة الحياة.
   وتطلعا لإعادة بناء مسرح الحقيقة بين المروي والمرئي، يقوم بإعادة النظر فيما هو مسكوتٌ عنه من أسباب ودوافع. والبحث عن الجانب المطمور من الحكاية. وإشهاره وموضعته في سياقه الثقافي. 
وهذا الجهد يتخطى وظيفة المؤرخ، ويوجب عليه أن يستنهض في نفسه مُفكرا ينفض الغبار عن كل التفسيرات المُسَلّم بها، ويعيد تحليل الحادثة وتركيبها كما يفترض أنها كانت بحسب القرائن بحثاً عن أبعاد العلاقة بين البنية والفعل، خارج السردية التاريخية الذائعة وقيود السياق.
   كما يفرض عليه أن يقبض على الأنساق المضمرة الضاربة بجذورها في اللاشعور الجمعي؛ ليعمل على مساعدة الوعي الجمعي في التعرف على مكبوتاته،ويشرع في استعادة فاعليته وحيويته. وتجاوز حالة الاستلاب، والخروج من دائرة التغني بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24