الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
حماقات الأقدار - أحمد الأسعدي
الساعة 15:28 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

أكتبُ هذا النص وأنا بكامل قوايَ العقلية، لم أُجنّ بعد، أو هكذا أعتقد، اسمي الثلاثي هو أحمد مصلح الأسعدي، كما أن التاريخ اليوم هو الثلاثون من سبتمبر عام 2019م.. هل يكفي هذا لكي تصدقوني؟! 
حسناً، سأخبركم شيئاً. على بُعد ساعة أو ساعة وعشر دقائق من مقر إقامتي يعيش أحد أقاربي، غير أننا لم نلتقِ منذ سبعة أشهر. البارحة تلقيت منه اتصالاً يخبرني أنه يريد رؤيتي، قال إنه سيزور مدينتي، أو بالأصح سيمر منها شمالاً رفقة جنازة.. أحد اليمنيين توفي في المدينة التي يسكنها قريبي وسيدفنونه في مدينة أخرى تقع شمال "نيو اورلينز" حيث اعيش، كونها تحوي المقبرة الوحيدة المخصصة للمسلمين. سرت في جسدي رعشة، وتغشَّاني نوع من الحزن الغريب تجاه هذا اليمني البائس الذي سيدفن في جنوب الولايات المتحدة، بعد ان منعته الحرب من العودة الى بلاده. من يدري، ربما انها رحمة به، قد لا يجد قبرا يليق بعمره المهدور، هذا ان لم يتعفن في مطارات العالم المغلقة في وجهه. سألني قريبي: متى سأكون متاحاً كي نلتقي؟ أجبته أنني أود حضور الجنازة أيضاً، ستكون فرصة لرؤية يمنيين تفرقهم المدن هنا، وها هو الموت يجمعهم كعادته، بالإضافة إلى حزني الغامض تجاه هذا الميت الذي لا أعرفه.
 في اليوم الثاني انهيت عملي الليلي، وغادرت باتجاه نقطة اتفقنا أن نلتقي فيها. بعد انتظار ربع ساعة في السيارة جوار إحدى الطرق السريعة وصلت الجنازة، كانت محمولة على سيارة إسعاف، ويليها خمس سيارات عليها يمنيون وفلسطينيون. 
المقبرة تقع في عمق الغابة، أشجار كثيفة تلف ساحةً كبيرة، ترتصُّ فيها القبور بلا شواهد ظاهرة، الزهور التي تحيط كل قبر تخبرك بوجوده، أحجار مصفحة نُحتت عليها أسماءٌ لكائناتٍ كانت يوماً ما مثلنا.
 كان الميت في جوف صندوق خشبي كبير، كما أن القبور هنا ليست كما هي في تلك البلاد التي جئنا منها، هنا لن ينزل ثلاثة أشخاص إلى القبر لتلقف الجثة المغلفة بالبياض وإيداعها جوف اللحد، هنا تقف آلة على حافة القبر تودعُ الصندوقَ جوفَ الحفرة ثم تهيل الترابَ عليه.. لن نتسابق للأجر كما اعتدنا، سنكتفي بالتفرج وتبادل كلمات العزاء غير المعفَّرة بالتراب، ثم سنغادر كما لو كنا ندفع قيمة فاتورة الكهرباء أو نستعلم عن بريدٍ لم يصل.
 شعوري بالأسى تجاه هذا الميت الذي أنجبته الأرض في أحد أطرافها، ثم التهمته في طرف آخر بعيدٍ جداً اجبرني على حضور الجنازة، كما لا اخفي ان مراسم الدفن هي الأخرى أثارت وجعاً بداخلي لا أعرف مبرراً له. 
عدتُ متأخراً، وقد تملكني التعب والإرهاق، غيرت ثيابي ثم قفزت للفراش، خلدت للنوم سريعاً.. خلال دقائق كنت قد استيقظت على وقع طرقات متلاحقة على الباب، نهضت بتثاقل، فتحت البابَ بعينين حمراوين، استدرتُ بعجلة، دخل رجلٌ ستيني، عدت إلى الغرفة بينما كان الرجل يضطجع على الكنبة في غرفة الجلوس، تناولت الهاتف من على الطاولة جوار السرير، تصفحت الساعة وتنهدت، استلقيت، ثم أصلحت الوسادة.. وقبل أن أضع رأسي مجدداً قفزت كالملدوغ، لحظة! من هذا الرجل؟! 
عدت مسرعاً إلى الصالة، وبعينين أكثر اتساعاً سألته: 
- العفو منك، ولكن من انت؟ 
أطلق ضحكةً خفيفة وقال:
- سأخبرك لاحقاً، عُد للنوم الآن.
تحدث وهو يعدل جلسته وعينه لم تفارق شاشةالتلفاز. بكل برود كان يطلب مني أن أعود إلى النوم وفي بيتي رجل لا أعرفه ولا أعرف سبب وجوده أيضاً.. ولكن تحت إصراري وغضبي الذي بدأ يتفجر، أخبرني- بتردد- أنه الرجل الذي دفناه للتو! 
هذه ليست مزحة، هذا الرجل لم يغادر بيتي منذ شهر، كل يوم بعد أن أعود إلى البيت أجده بانتظاري، أكاد أجن، إن لم أكن قد جننت فعلاً، لقد وعدني أنه سيغادر بيتي وحياتي بعد أن يكمل حكايته اللعينة، حكايته التي عليّ ادونها ولكنه يتحكم في مدى وكمية ما يحكيه كل يوم، حتى أصبحت في حضرته مجردَ سجلٍ لحماقات الأقدار كما يسميها. حياتي لا تطاق.. بت أتأكد من وجود عقلي كلما سنحت لي الفرصة، كما كنت أتفقد أول ساعة يد اشتراها لي أبي في السادسة من عمري. 
حسنا، ربما يريد احدكم جلب كوب من الماء قبل ان ابدأ سرد هذه اللعنة.

----------------------


 سبتمبر  2019  - لويزيانا/نيو اورلينز

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24