الخميس 04 يوليو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
د/عبدالله أبو الغيث
عندما تنتصر الجوف على صنعاء
الساعة 14:12
د/عبدالله أبو الغيث



    هذا المقال مستوحى من تحقيق ميداني نشره الصحفي حسام ردمان عن محافظة الجوف، تناول فيه الصراعات التي تشهدها محافظة الجوف والأوضاع الحالية التي تعيشها بعض مديرياتها، وكانت مديرية المتون من ضمن تلك المديريات، ونالت نصيب الأسد في ذلك التحقيق.
   

وما لفت انتباهي في ذلك التحقيق هو طبيعة العلاقات الحزبية التي تربط بين أبناء تلك المديرية، ولا أدري إن كان ذلك يسود في بقية مديريات الجوف، لأن التحقيق لم يتطرق إلى ذلك.

   فقد حدثنا التحقيق عن أسرة مكونة من ثلاثة إخوة (لن نتناول هنا الأسماء فنحن نبحث عن النموذج)، هؤلاء الإخوة يتزعم أحدهم فرع حزب الرشاد (السلفي) في المتون، بينما يعد أحد إخوانه قيادياً  في المؤتمر الشعبي، والآخر قيادياً في تجمع الإصلاح، أما ابن الأخير فهو ناشطاً وعضواً في الحزب الاشتراكي.

   وحدثنا التحقيق أيضاً كيف أنه وجد زعيم الحوثيين في مقيل ذلك القيادي السلفي. وتطرق أيضاً إلى شابين صديقين لا يفترقان وجدهما في ذلك المقيل، وكان مصدر دهشته عندما علم أن أحدهما إصلاحي والآخر حوثي، وأنهما في الحروب التي دارت بين الجانبين كانا يذهبان إلى جبهة القتال بسيارة واحدة، ثم يذهب كل منهما إلى معسكره.

   ذهلت وأنا أتابع هذه المعلومات في ذلك الاستطلاع القادم من محافظة الجوف التي شوهتها سلطات الدولة ووسائل إعلامها، وجعلت الخوف يملأ قلب الواحد منا لمجرد تفكيره بالذهاب لزيارة هذه المحافظة، وهو ما شبهه كاتب التحقيق من واقع تجربته بالخوف والإثارة التي تصيب العروسين في ليلة الدخلة.

   أتصور ذلك عندما أتذكر الرحلات التي نظمها قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة صنعاء منذ كنت طالباً فيه وبعد أن أصبحت أحد أساتذته، وأجد أن محافظة الجوف قد خلت حتى من زيارة واحدة من تلك الزيارات التي امتدت إلى محافظات عدة تبعد عن جامعة صنعاء بأضعاف المسافات التي تفصلها عن محافظة الجوف.

   أقول ذلك رغم معرفتنا بالأهمية التاريخية التي تمثلها محافظة الجوف وكثرة مدنها وآثارها القديمة، حتى أنك تكاد لا تقلب حجراً إلا وتجد تحته آثراً، ومع ذلك تمنعنا رهبة الخوف التي تتملك الطلاب عند الحديث عن رحلة للجوف من إتمام تلك الرحلة؛ وربما يدلنا الهروب من تحمل تلك المسؤولية على أن الخوف يملأ قلوب الأساتذة أيضاً.

   وذلك يجعلنا نناشد سلطات الدولة المركزية ومعها السلطات في محافظة الجوف لبذل جهودهم من أجل كسر تلك الصورة النمطية التي علقت في أذهان الناس عن محافظة الجوف، وهي صورة يجزم كل من يشد الرحال لزيارة هذه المحافظة بعدم صحتها.

   نعود إلى المشهد الحزبي الجميل الذي ذكره صاحب التحقيق عن مديرية المتون في الجوف، ذلك المشهد الذي يقدم لنا نموذجاً راقياً ومتحضراً للحزبية ومفهوم التحزب، وهو فهم قل أن تجده في كثير من بقاع اليمن الأخرى؛ بما فيها المدن الكبيرة وعلى رأسها العاصمة صنعاء.

   صنعاء تحضر هنا للمقارنة بصفتها عاصمة الدولة وأكبر مدنها، وتكاد تمثل صورة مصغرة لليمن، وفيها تقع المقرات المركزية للأحزاب، وفيها تقيم أهم القيادات الحزبية والسياسية من مختلف ألوان الطيف السياسي والحزبي المنتشر في اليمن.

   ومع ذلك نجد أن مفهوم الحزبية فيها يكاد يختلف تماماً عن قرينه في متون الجوف، فالأحزاب لدينا في صنعاء هي مجرد قبائل من طراز جديد، والانتماء الحزبي يمتد بشكل وراثي، فالمرء على (حزب) أبيه.

   وتعتبر قياداتنا الحزبية أن من العار أن ينشأ الأبناء بعيداً عن الانتماء الحزبي لآبائهم، حتى إن كانوا مستقلين، أما إن اختاروا الانتماء لأحزاب غير أحزاب الأباء – بل وربما أسرهم وقبائلهم – فهي الطامة الكبرى التي تعلن لها لطوارئ، وتعد من كوارث الأقدار إن صمم (المتمردون والمنحرفون) على البقاء في خياراتهم الجديدة والمغايرة.

   وفي الحقيقة فالتعايش هي بضاعة جوفية عبر تاريخها، ورثته كابر عن كابر منذ دولة معين القديمة، فدولة معين التي سادت في منطقة الجوف خلال الألف الأول قبل الميلاد قدمت مثالاً للتعايش في اليمن القديم وعموم الجزيرة العربية وما جاورها.

   فقد امتدت القوافل التجارية للمعينيين في كل تلك البقاع، ومعها انتشرت عبادة معبودهم (ود) في كل الحواضر اليمنية القديمة تقريباً، بل وامتدت لتشمل العديد من حواضر الجزيرة العربية؛ وفي مقدمتها مدينة معين مصران التي عرفت قديماً ب ديدان، وتعرف حالياً ب العلاء ( تقع شمال المدينة المنورة في السعودية).

      ذلك يدعونا أن نختتم حديثنا بالقول إنه بدلاً من الدعوة ليمننة الجوف (كما يطالب الكثيرون) أن نذهب صوب متننة اليمن وتجويفها (نسبة إلى مديرية المتون ومحافظة الجوف)، فهي تنتصر على صنعاء في هذا المجال انتصاراً ملموساً وباهراً لا تخطئه العين.

   وهي تجربة تستحق أن تدرسها سلطات دولتنا، وكذلك أحزابنا وقوانا السياسية بكل ألوان طيفها، ومعها كل وسائل إعلامنا المختلفة التي صارت تبحث عن الإثارة بأخبار وصور سخيفة، بينما تعزف عن نشر ما يفيد الناس ويظهر لهم الحقيقة، بما فيها التحقيق المشار إليه الذي لم يُعِد نشره عن الصحيفة الورقية التي نشر فيها إلا موقع إخباري وحيد، بعكس الفضائح التي تتسابق تلك المواقع على نشرها.

   عنوان التحقيق لمن أراد الرجوع إليه (سلطة الحوثي في الجوف.. تحقيق ميداني)، فهو يستحق أن يُقرأ وينتشر.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24