الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قصة قصيرة
الشمس والحفار - محمد السقاف
الساعة 07:32 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

لا يشبهه أحد في المعمورة قدرا ورهبة وجسارة على السخرية من هذا الوجود الدنيء بما فيه .. أبصرته في مقبرة القرية هذا الصباح وعاينته حقيقة تسعى على الأرض .. رغم ثيابه المرقعة وشعره الأشعث الغاطس في الغبار كانت لديه كاريزما الأباطرة والملوك الغازين .. كانت تخصه دون غيره تلك الهيبة المربكة التي يتسم بها القادة والوجهاء الذين تفسح لهم العوام صدور المجالس تعظيما وتبجيلا .. يجلس الناس في حضرته صفا كأعواد الثقاب المرصوص .. لا فرق عنده بين عربي وإفرنجي لا بتقوى ولا ليلى .. لا بعمرو أو بزيد .. هو لا يأبه إطلاقا بمن تنازل عن حقه الشرعي في متابعة العيش تحت أي دعوى أو فتوى. 
لقد التقيت حفار القبور شخصيا وكان يشبه الشمس .. الشمس التي كانت تصهر كل شيء تحتها وتفعل وسعها لإذابة أهل الأرض بلا فرز أو تمييز .. التي لا تعرف التحيز والمحاباة والكيل بمكيالين ؛ ولا تكذب -لأنها عين الحقيقية العملاقة- ولا تجامل أو ترائي .. التي تبزغ كل صباح لتقول لنا إننا كافة تحت ضيائها سواء .. وبأن كل من تغطيه بكسائها الذهبي وتقرصه أشعتها الحارقة سواسية مثل أسنان المشط.
الشمس والحفار منذ الأزل كانا لا يعترفان بعقائد الأعراق ومقامات الأحساب والأنساب ولا يكترثان للأشجار على أشكالها وأحمالها .. هما على دراية أنها كافة انفجرت من جوف التراب وبإنها عن قريب ذائبة فيه .. وأنا أيضا كنت على دراية بأن كل أوراق الأشجار مهما بدت شابة وخضراء ستتساقط سريعا حين تلسعها الشمس بحممها والحياة بأهوالها والشياطين بأحبالها ..كل ورقة ستقبض حصتها التي تكفيها وتبكيها من فناء القريب والغريب .. وتهالك الأبدان وتناقص الأهل والخلان.

اليوم استقبلني الحفار تحت حرارة الشمس بتلك الهيئة البرزخية المروعة وتلك الثياب .. بوجه يغشاه الإنهاك ويغمره التراب .. صافحني بطريقته دون إرسال ذراعه إلي.. ودون أن يصوب بصره ناحية الشجرة التي آويت إلى كنفها جسدي .. وكأنه لا يتذكرني في آخر لقاء بيننا.. يوم دفنا جثمان والدي سويا.
كان يتصرف بتجاهل وكأنه لا ينتبه لوجودي رغم أني كنت دائما في حيز نظره .. كان مستغرقا في إنجاز مهنته الشاقة .. يقوم بها بتفان ويؤديها بحب وإخلاص .. توجهت إليه وكان ساعتها يحضر وجبة لحم طرية ودسمة أعرفها جيدا ليقدمها للحشرات والدود الجائعة في باطن الأرض.

كان السفاح يهيل التراب على جسد صديقي الحبيب.. لكنه وعندما أسكنه كليا في اللحد وجه نحوي كلمات مشتعلات كالجمر دون أن يصدر صوتاً أو ينبس ببنت شفة.. ألقى على مسامعي جملة من التهديد والوعيد وصاح في وجهي رغم أنه كان يكلم شخصا آخر ويغمره بالوحل .. سأل عن حالي وصحتي وتكدر مزاجه وبدا عليه الغيظ والحنق حين شاهدني قد استنفدت من الشباب رحيقه ومن الحياة سكّرها .. وبأني برغم الإنذارات الشديدة التي تلقيتها منه في سالف الأيام مازلت أسير على هذه الأرض سيرة القرود والبهائم.

الحق أن علاقتي بالحفار لم تكن على خير ما يرام وخصوصا في الأعوام العشرة المنصرمة .. أنا أتصرف باستهتار وكأني لا أعرفه.. وهو بين الفينة والأخرى يحضر لاختطاف أحد أهلي أو أحد خلاني في وتيرة تصاعدية حتى يلفت انتباهي إلى نطاق صلاحياته التي لا يعطلها الحراس والحصون أو الأسوار العالية والأبواب السميكة.. وكأنه يقول لي ساخرا : "إني على غرار أولئك تماما مجرد موعد عادي ينتظر رقمه الشخصي في زحمة الطابور".
هذا اليوم في مقبرة القرية تعمدت ولأول مرة إلقاء القبض على الحفار .. قلت علّي أوثقه بالنظرات فأحظى على موعد ودي معه خارج جدول أعماله المزدحم .. كنت ألاحقه في الأرجاء وهو ينط على الأضرحة التي أمامي بإهمال وكأني شيء غير موجود .. المريب في الأمر أني في هذه المناسبة كلما أنأى بناظري هنيهة عنه أشعر أنه يبصرني ويتربص بي مثل ضبع جائع .. أحاول جاهدا الإيقاع بعينيه في مصيدتي لكنني أرجع بشبكة خاوية لسرعة نظراته المحترفة وعينيه اللماحتين.

سيرته لهذا السبب ظلت لأعوام موضع قلقي وعدم ارتياحي بل وهلعي الشديد من تجربة التواصل والتطبيع مع هذا الرجل المخيف.

اليوم على غير المعتاد قررت الاقتراب منه أكثر لمعالجة مخاوفي من غدره .. ارتأيت أن استأذنه كي نجلس بمفردنا على منضدة الحوار .. لما في ذلك من مصالح مشتركة قد تخدم الطرفين.. أو بالأصح لتيسير عقبات خاتمتي المفترضة (بعد عمر مديد أقصد) .. وعلى ذات السياق تعيين تاريخ مجيد لائق باللقاء المصيري المرتقب.. وذلك لتفادي أي تعارض قد يطرأ لا سمح الله على انشغالات أحدنا وارتباطاته المزدحمة.. وحتى نتشاور معا على مضمون النص الختامي الذي سألقيه أمام أهلي وعشيرتي في حفل استقالتي من الحياة .. بالإضافة إلى مناقشة بعض الحيثيات والتفاصيل منها على سبيل المثال: لوني المفضل الذي أفضل أن يغلف به جثماني.. وأن نتفق على وسيلة للتواصل.. كأن يبعث لي الحفار رسالة على بريدي يقول فيها: "قادم إليك هذا الأربعاء كن مستعدا؟" .. فأرد عليه :" الأربعاء ! كلا غير مناسب لدي موعد مع طبيب الأسنان أقترح أن نؤجل ذلك إلى الخميس هل هذا مناسب؟".. فيرد "عندي شغل كثير ولكن لا بأس لأجلك ليكن الخميس .. " فأكتب " ممتن لتعاونك ولكن كما اتفقنا الحادية عشرة وتسعة وخمسون دقيقة سأكون في غرفتي بانتظارك" مذيلا رسالتي بأيقونة مناسبة.
قلت في قرار نفسي ربما يكون الحفار متفهما لشعوري بالقلق تجاه مستقبلي بكل هذا القدر فيدعم طموحي وعشقي للحياة ونرتقي بعلاقتنا درجات مرتفعات نحو الطمأنينة والسلام والعمر المديد. 
الحق أني قلت في نفسي أشياء عدة ورسمت العديد من الخطط لكن للأسف خاب مسعاي .. مقابلاتنا كما تجري العادة لا تتم على الهيئة التي أشتهي.. فكلما سنحت لي الفرصة للقائه وأسعى للانفراد به أجد من حوله الجلبة والغوغاء فلا أجرؤ على مقاطعته وهو يخطب بين الحشود في مواضيع عامة.. ولا مباغتته بالاستفسار عن خطته بموضوعي الخاص ..أقصد بأي حال وكيف تحديدا ينوي الحفار أن يجيء لكي يختطف روحي.. والأهم من هذا كله "متى" و"أين"؟

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24