السبت 27 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
اللغة ومنفعتها الجوهرية - حسن أحمد اللوزي
الساعة 12:45 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

ما قيمة اللغة بالنسبة لأي مجتمع او شعب أو أمة..؟
 

لاشك ان القيمة موضع السؤال لايمكن تحديدها، وان كانت تتيسر الاجابة على السؤال بالحديث عن قيمة الهواء والماء بالنسبة للانسان .. وذلك دون مبالغة .. ودون استطراد في الحديث عن مدى حاجة المجتمعات إلى وسيلة التواصل، وبناء العلاقات وتجويد عيش الحياة!! وتعاطي المعرفة !!
ولكن ماقيمة اللغة بالنسبة لذاتها- ومكانتها وقوة حياتها وفعلها في حياة الناس؟
لاشك ان الاجابة هنا تكمن في مدى المنفعة التي أشارت اليها نظرية النشوء والارتقاء ايضاً بالنسبة للانسان.. ولذلك فان سر قوة هذا الكائن الاجتماعي الحي هي في المنفعة الجوهرية التي يحققها في الوجود الذاتي الذي يتحرك فيه بدون صرف النظر عن مايحمله أو يقدمه كوعاء مختلف عن كل الأوعية، واداة اتصال عميقة الصلة بالسليقة الانسانية وبكل مايعتمل في الفكر والضمير والوجدان بل وفي حركة اللسان بعد تجاوز العهود المندرسة للاشارات والايماءات وبدائية التعبير الجسدي عن المشاعر.
غير أن حالة التطور التي وصلت اليه اليوم اللغات الحية تعطينا الاجابات الدقيقة والشاملة، وتؤكد بما لايدع مجالاً للارتياب في كمون قوة كل لغة حية فيما تقدمه من المنافع الضرورية للانسان والمجتمع، كما بالنسبة للأمم والحضارات.
وان هذه القوة مكتسبة بفعل تطور اللغة ذاتها وقدرتها على استيعاب المستجدات والتفاعل مع المتغيرات والتحديات التي تواجهها، وتستجيب لها بكل البساطة والمرونة اللتين تهيئانها لها العلاقة بالانسان المتطور والحضارة المتحركة في بنية اللغة أولاً قبل تصدرها لمشاهد الحياة وانجازات الانسان اليومية العلمية والتقنية والتربوية والثقافية والفكرية .. وبهذا المعنى لاتكون اللغة حكراً على مجتمع محدد وعلى أمة بعينها .. طالما حققت لها المنفعة التي تنشدها بداية من تحقيق ذاتها وانتهاءً بفرض وجودها .. وتواصلاً بما تحققه من نجاح وانتصارات، كما هو سافر وواضح بالنسبة للغة الانجليزية وعلاقتها بأمة الأمم الامريكية ؟

 

فهل نتصور الأمة الامريكية اليوم، والتي تجسد وحدة العديد من الشعوب والأمم التي جاءت اليها بلغاتها المتعددة، وانصهرت فيها في بوتقة جغرافية قارة كاملة بدون اللغة الانجليزية؟
لانريد ان تذهب بنا التداعيات لمنحى آخر، لان هناك ايضاً تجربة انسانية فذةً تتشكل في بوتقة الوحدة الأوروبية، وتصير نحو الانصهار في كيان حضاري واحد بقوة المتعدد في هامة العالم القديم «القارة الاوروبية رغم تعدد اللغات».
وأعود لموضوعنا الذي أثاره سؤال الاستهلال حول قيمة اللغة بالنسبة للمجتمعات والشعوب والأمم، كركن جوهري من مكوناتها للتأكيد على ماسبق ان بينته بأن اللغة العربية بالنسبة لنا هي أكبر من ان تكون عنوان وجودنا وهويتنا الذاتية ومحتوى صورة وماهية حضارتنا العربية والاسلامية، لانها حتمية قدرية بالنسبة لرسالتنا الثقافية والفكرية والحضارية وللمنزلة الرفيعة التي بلغ بها القرآن الكريم والمكانة التي صارت تحتلها بفضل خاتمة الرسالات السماوية إلى البشرية!!
واذا كانت الرسالات السابقة قد نزلت بلغة الأمة التي وجهت إليها.

 

ولاشك بأن هذه الحقيقة هي التي تجعل التحديات المحدقة باللغة العربية أكبر وأخطر مع تقدم الحياة وتطورها واستمرار الإهمال المطرد لها.. وسهولة الانخراط بالنسبة لمن هي لسانهم في نطاق لغة أخرى من اللغات السائدة بل والمتسيدة لأجزاء واسعة من العالم.. لأنها تحقق المنفعة، وتستجيب لتلبية كافة الاحتياجات الاساسية في الحياة، وفي مقدمتها الاحتياجات الاقتصادية والمعيشية برغم ما قد تسببه من انفصام العرى التي تربط الانسان بهويته وثقافته عرضاً وطولاً للأسف الشديد، ومع التأثر المستمر بالثقافات الأخرى والاندماج في المجتمعات الجديدة والحرص على التقليد لها والإرتباط المصلحي بها.. واكتساب القدرة العالية من المهارة ومن المعرفة والاتصال ربما لتحقيق ذاته في حياة يرى انها الأفضل بالنسبة له طالما، وهو لايتجرد عن انتمائه الوطني ويظل محتفظاً بعقيدته وطقوسها حسب فهمه لها، وعدم ادراكه لمهاوي الإستلاب وفقدانه الصلة بروح اللغة التي ينتمي اليها في أصل وجوده وقسمات شخصيته وبصمات هويته!!

 

هل للغة روح وإن كانت لا تعمل؟! وطالما ولها منفعة جوهرية حية، ومتنامية؟! برغم أن ليس لكل ما تتوفر فيه المنفعة، أوتكون له منافع عديدة في الحياة المعيشة روح!!.
غير أن في اللغة شيء من ذلك برغم انها لا تعمل لذاتها كما يقول الاولون!! ويذهب البعض وأنا منهم بل وكل شاعر وقاص وكاتب الى أن للغة روحاً كامنة ومتحركة، كما بالنسبة للموسيقى.. وللضوء!!
وتتجلى روح اللغة التي هي من أمر الانسان في نسيج العلاقة الحية التي تبنيها وتشكلها بين المرسل والمستقبل.. المتكلم والمستمع.. الكاتب والقارئ!!

 

كما في نبض الحروف المتشابكة، وبنية الكلمة، والجملة، والعبارة الكاملة على حدٍ سواء وفي المعاني والدلالات كما في الرابطة السحرية التي يكونها الاتصال في المنطوق والمكتوب والمبثوث والمتلقى.. وفي الواضح كما في المبهم وليس في المعتم والمظلم!!
ومع ذلك كله شتان بين روح اللغة وانعدام عملها وفلسفة اللغة وجمود علومها!!
وتكون اللغة اكثر وضوحاً ودقة وصرامة في المتعارف عليه كما بالنسبة للمصطلحات وما تمليه السليقة السوية!! وعند تناول المعارف العلمية وفي المجال الواسع للبيان والبلاغة وتكون موحية وغير مباشرة كما في الموضوعات الرمزية..

 

ففي اللغة كوامن عديدة تكشفها العلوم اللغوية وفي صميم ما تمتلكه اللغة وما تحفل به من ثراء وغنى وأسرار تولدت العديد من العلوم اللغوية وما يسمى بعلوم اللسان ولم تتوقف عند حدود النحو والصرف وبنية الحرف العربي وعلوم الترجمة والمعاجم!!
ومع ذلك فاننا نعتقد بأن أعظم تجليات روح اللغة العربية كامنة في لغة القرآن الكريم والمعمار اللغوي القرآني الذي تحدث عنه المغفور له باذن الله مصطفى محمود وهو يحاول أن يقدم رؤية جديدة للاعجاز القرآني والذي الفت فيه العديد من الكتب والاسفار ولذلك حديث شيق نتطلع أن نأتي اليه في كتابة قادمة باذن الله.
كما لا نريد ان تسوقنا الخواطر الى الحديث عن أفضلية اللغة العربية بالنسبة للغات الاخرى غير أن من المفيد ان نشير إلى ما كتبه الأستاذ قصي الحسين في مقال نشره في صحيفة «الحياة» اليومية بتاريخ 3 نوفمبر عام 2012م بعنوان «فلسفة اللغة من الطرح العربي إلى الطرح الغربي» مستشهداً بما قاله ابن حزم الاندلسي في هذه المسألة، حيث قال:
«وقد توهم قوم في لغتهم انها افضل اللغات، وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة، وهي بعمل او باختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم)، فأخبر بأنه لم ينزل القرآن بلغة العرب الا ليفهمه قومه «عليه الصلاة والسلام» لا لغير ذلك.

 

واما الدكتور عبدالسلام المسدى، فانه يشرح ما ذهب اليه ابن حزم فيقول «لا مهرب لأحد من القول ان الحضارة العربية تأسست على النص، وان النص صيغ بلسان عربي، وان اللغة العربية اكتسبت بذلك الصوغ فضلاً خاصاً، فلغة العرب ليست افضل اللغات بالاصل والمنشأ بقدر ما هي افضل اللغات بالاكتساب».
وفي نظر البعض عقيديا يحفظون صفة الافضلية هذه للغة العربية لاختصاصها بتنزيل القرآن الكريم وايصال بلاغ الدين الحنيف للناس كافة وحفظها له الى يوم الدين فضلاً عن القول بانها لغة اهل الجنة!!.
والسؤال المكرر هنا: ماذا فعل لها اهل الدنيا ممن هي لسانهم!! ومن المليارات الذين يتعبدون بها؟! وحتى لا يكون السؤال انكاراً فهناك جهود كبيرة تم ويتم بذلها عبر المراحل التاريخية السابقة، غير ان تلك الجهود مازالت قاصرة في مرحلة هيمنة ثورة المعلومات والتقنية وما يسمى ب«اللغة العربية والفجوة التقنية» وهو الموضوع الاساسي اليوم وغداً بالنسبة لحاضر ومستقبل لغتنا العربية والحركة الانمائية والحضارية الشاملة؟!.
وهو يتصدر اهتمامات المختصين والعديد من المؤسسات الثقافية والفكرية والتربوية ومجامع اللغة العربية المتفتحة ومؤسسة الفكر العربي -والتي تعمل على اصدار اعلان جديد في هذه الايام يقول... لننهض بلغتنا العربية- وقد جاء في تقريرها السنوي (1) عن التنمية الثقافية في الوطن العربي والذي يشير «بأن من القضايا التي اعاقت استثمار التقنية في التعامل مع اللغة العربية التلكؤ في اعتماد رموز موحدة للحروف العربية والالتزام الدقيق بحركاتها، فلم يتسن للدول العربية منذ ستينيات القرن الماضي تبني رموز موحدة لحروف العربية وحركاتها تمهد لتعامل تقنية المعلومات على اللغة العربية ونصوصها بصورة مجدية وتغلب الاصرار على طرق موروثة لكتابة حروف اللغة العربية على الاهتمام بجوهر اللغة ذاتها، فمنحت اشكال الحروف وتغيرها من موقع الى آخر في كتابة كلمات العربية، من الاهمية ما فاق العناية بقضايا من شأنها تيسير تعامل الحاسوب مع اللغة»..

 

وما دمنا مع الحروف دعوني اختم عمود اليوم بخبر أثلج صدري عن صدور كتاب بعنوان: «كونية الحرف» صدر عن دائرة الثقافة والاعلام في دولة الامارات العربية المتحدة إمارة الشارقة يرصد تجليات الحروفية العربية في الشرق والغرب نشرت الخبر صحيفة الاتحاد في عددها الصادر 21 اكتوبر، ومما جاء فيه:
«أن الحرف العربي استطاع بهيبته الراسخة وتحرره اللانمطي ان يجد السبل للولوج الى حيز التشكيل انطلاقاً من اللوحة المسندية ووصولاً الى فنون الصورة الضوئية والمتحركة ببعديها الثنائي والثلاثي وهو ما خلق علاقات متلاحقة فيما بين الحرف والتشكيل».
«قدم العرب المسلمون في عصور نهضتهم روائع فنية ظلت مثار اعجاب الى عصرنا الراهن وكان من هذه الروائع البديعة الحرف العربي الذي كان له تأثير واضح على الفنون الغربية، حيث استخدم الفنانون الغربيون الحرف العربي في معظم اساليب العمارة والزخرفة».
فاذا كان مثل هذا التتبع والتناول الفكري يتصل بالحروف العربية.. فكيف الامر بالنسبة لفلسفة اللغة ذاتها والرؤية اللسانية لها.. والتي تؤكد «بأن خصبها لا ينحصر في محتواها الذاتي، بقدر ما نتبينه في الاعتبارات المبدئية لخصائص الظاهرة اللغوية عموماً والتي تتمثل في تأصيل مبدأ التطور الحيوي للغة ومجالها الحياتي المعيش في الصيرورة الحضارية لدى العرب».«2»

 

(1) التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية مؤسسة الفكر العربي.
(2) الخبر المشار إليه حول فلسفة اللغة.

 

منقولة من صحيفة 26سبتمبر ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24