الأحد 19 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
تجليات التراث في رواية "الأطلسي التائه"لمصطفى لغتيري - نورة الصديق
الساعة 14:19 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


تمهيد
    تعد الرواية جنسا أدبيا منفتحا على كثير من الحقول والمعارف التي تفاعلت بين أنساق معرفية مختلفة، لتحتضن أجناسا أخرى وتتفاعل معها لتفرز خطابات خصبة متفاعلة، وقد ظهر في الساحة الثقافية المغربية جنس روائي ينهل من التراث أساليب الحكي، اتجه إلى توظيف التراث في الرواية المعاصرة، وقد وجدت ملاذها فيه كمادة يغرف منها الأدباء غرفا لإبداعاتهم مضمونا وشكلا، لإضفاء سحر وجمالية فريدة عليها، وإحياء عناصر الهوية الوطنية لما يحس به الروائي من غرابة في واقعه، وفي هذا المقال سنبحث في التراث من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة:
- ما مدى استلهام التراث في الرواية المغربية؟ وهل استطاعت أن تكوّن الشكل الإبداعي المنشود شكلا ومضمونا؟
- كيف يمكن للروائي تحويل العناصر التراثية إلى معرفة سردية تنبض بالحياة في النص السردي ؟
- وهل الرواية وسيلة الروائي لتطوير أفكاره إلى التغيير وبناء عوالم سردية تؤثث فضاءات رواياته؟ 
   اخترنا رواية مصطفى لغتيري لكون المتلقي يجد في أعماله إحساسا قويا بالتاريخ والتراث، والعثور في عالمه السردي على هواجس واقتباسات تاريخية ولبنات تراثية، مترجما رؤيته للواقع المغربي ضمن سياقات التاريخ الوطني، مما دفعنا لتناول هذا الإنجاز السردي بالدراسة والتحليل، وسبر أغوار استلهام الرؤية التراثية وإبراز تجليات التراث ضمن المتخيل السردي ودور توظيفه في الرواية، من حوارية وتناص وتفاعلاتها الواقعية، وصيغة بناء عوالم الرواية، وطريقة الحكي، والأسلوب، وأشكال تمظهراته داخلها لاستنباط أساليب وآليات توظيفه للتراث...

 

1- توظيف التراث في رواية الأطلسي التائه
          يعد التراث كل ما ينتمي إلى الزمن الماضي، وكل ما ورثناه تاريخيا وأنه "كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة " . أي ما تركه السلف للخلف، وأنه "الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلامية: العقيدة، الشريعة، واللغة والأدب والفن، والكلام، والفلسفة، والتصوف" . ومع تطور المجتمعات أصبح لا يدل على الماضي، بل يمتد ليصل إلى الحاضر، ويشكل أحد مكونات الواقع والحاضر، أي ميراث إنساني، ونتاج ثقافي سواء المكتوب أو الشفوي، الرسمي أو الشعبي...ويصنف إلى التراث الديني والتراث الصوفي والتراث الأدبي الشعبي والتراث العمراني والعادات والتقاليد...
      يشعر القارئ لرواية "الأطلسي التائه" أنها تفوح منها رائحة التاريخ قبل التراث، تنبض بمعالم الماضي في ثنايا الحاضر، وهي "مادة متخيلة تحكي فنيا أحداث التاريخ عبر ترتيبها وتأويلها، حكايات تخترق الروايات الرسمية للتاريخ" ، أي أنها تعود للماضي، لتشكيله، عن طريق التخييل بلغة فنية حديثة. وتوظف التاريخ والتراث على مستوى التشخيص واللغة والأحداث والمكان والزمان، إذ أنتجت في زمن محدد عاش فيه أبي يعزى وشهد فيه المغرب مجموعة من الأحداث، يقول سعيد يقطين "يُكتب النص في إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة"  من خلال سرد أحداث تاريخية، لاسترجاع أحداث الماضي وإبراز مظاهر القومية المغربية، عبر الحوار أو التفاعل أو التناص، تتفاعل داخله الأحداث والأصوات والنصوص… 
     تتحدث رواية "الأطلسي التائه" للروائي مصطفى لغتيري عن فترة تاريخية مؤسسة في المرحلة ما بين حكم المرابطين والموحدين، عبر استعراض مسيرة أبي يعزى الهسكوري كأحد أهم أقطاب التصوف في تاريخ المغرب، المشهور باسم "مولاي بوعزة" تحدث عن طفولته الصعبة وقسوة أبيه، وحنان أمه وحب جدته اللتين يتقرب منهما وعند انتقاله إلى منزل الشريف الشرقاوي كراعي الأغنام، يتعرف على إبراهيم، المتيم بالعلوم والذي يعمل سرا مع الثورة ضد الحكم القائم والصراع بين الموحدين والمرابطين، لينضم إلى صفوف علي ابن الشريف الثائر ضد الحكم، إلى أن مات أثناء القتال، والصدمة التي أفقدته صوابه تعلقه بابنة الشريف التي عالجها بأعشابه بعد مرضها الشديد. ويرسل الحاكم فرسانا لإحراق بيت الشرقاوي وينتقم منه، مما أدى إلى موت الجميع، ليتوجه نحو مراكش بين الشيوخ لطلب العلم، ويلتقى بكثير من المتصوفة، ويذيع صيته وكراماته ويصبح بذلك أسطورة، وينتهي به المطاف بالزهد في الدنيا والاعتزال بعيدا عن المدن حيث يتزوج من ميمونة وتنجب ذريته، ويتحول إلى مقصد لطالبي البركة والعلاج. 
وقد استثمرت الرواية التراث باعتباره نواة مولدة للنص، ومنبعا غنيا ينكب عليه بعض الأدباء، ليغترفوا منه غرفات من شتى صور الإبداع والخيال، وهي تجربة روائية استقطبت التراث بأشكاله المختلفة، إذ "يمكن اعتبار الرواية بنصوصها الأساسية من المرويات الكبرى التي تسهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم لما لها من قدرة على تشكيل التصورات العامة للمجتمع، والتحولات الثقافية ..." . 
   
2- استلهام التراث اللامادي في" الأطلسي التائه": 
     تعرف اليونسكو التراث اللامادي في نص اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي هو" الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات... وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية"  وهو بمثابة خزّان يستقي الروائي عمله منه و ينهل منه حوادث مختلفة، ويستمد وقائع من عوالمه الدفينة، من خلال استحضار المادة التراثية، بتشكيلها من جديد لتتجلى قوة الخلق والإبداع والتخييل في بناء عالم متخيل مستمد من طياته عوالم حية من جديد محكمة البناء تعتمد تكثيف الدلالة والأسلوب وخصوبة المتخيل واستعارة قالب اللغة التاريخية والتراثية... ومن تجليات التراث اللامادي ف الرواية ما يلي:
2-1_  التراث الديني: 
     يشكل التراث الديني جزءا كبيرا من ثقافة المجتمع المغربي، ويشمل جميع المأثورات الحضارية والدينية، وتوظيفها يعد نوعا من التناص باعتباره عملية مزج بين الماضي والحاضر لتخليق زمن جديد في فضاء جديد، متخذا مجموعة من الصور نصيا أو مرئيا ومحكيا أو مرئيا يستحضرها الروائي في بناء بنية النص الروائي لاستخلاص الحكمة من المواقف المعاصرة... 
      وقد أقام الروائي علاقة تناصية من خلال تداخل النص الأصلي للرواية مع نصوص دينية عن طريق الاقتباس أو التضمين وحضور للنص الديني من القرآن الكريم، أو من الحديث الشريف أو الأخبار الدينية، باستخدام العبارات والأساليب الدينية المستوحاة من النصوص الدينية عن طريقة التناص باعتباره "تعالق نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة " ، مثل تناص رحلة أبي يعزى ومقابلته مجموعة من الأقطاب برحلة موسى ومصاحبته الخضر عليه السلام ... بحيث تأتي منسجمة مع السياق الروائي وتؤدي غرضا فكريا أو فنيا ويشكل التناص الأساس الذي أنبنت عليه الرواية ويحضر بأشكال مختلفة :
_الألفاظ القرآنية : أورد النص الديني المقتبس بوصفه شاهدا على موضوع السرد الروائي، حيث تتأسس لغة شخصيتي الراوي وإبراهيم على لغته، ويرجع سبب هذا الحضور إلى طبيعة الشخصيات، ولكون الرؤية التي تتبناها الرواية هي رؤية دينية، حيث تسرد حياة قطب متصوف، لذا نجد عبارات مستوحاة من القرآن الكريم مثل تناص كلام "إبراهيم" مع الآيات الكريمة، يقول: "اذا حرم الله شيئا بسبب معين اعتبروا تحريمه أبديا لا يزول بزوال الأسباب حتى أنهم يحرمون الموسيقي و يعتبرونها رجسا من عمل الشيطان"  حيث اقتبس الجملة الأخيرة من الآية ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأزلام من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)  .. ونجد كذلك تناص عبارة "منّ الله علي بإبراهيم زميلي في الرعي"  ... مع قوله تعالى ( فمنّ الله علينا و وقانا عذاب السموم)   "أعوذ بالله الشيطان الرجيم..."  
     ومن الألفاظ القرآنية التي وظفها الروائي يقول " حيانا بتحية الإسلام فرددنا عليه تحيته"  من أصل الآية ( واذا حييتم بتحية فحيوا فردوها بأحسن منها)   ويوصي إبراهيم أبي يعزى بالإحسان إلى الراعي الجديد "فأحسن إليه ما استطعت إليه سبيلا"  وهي جملة في تناص مع النص السابق في سورة الحج (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)  يقول كذلك "وأنا أحمد الله أنني تخلصت من شر مستطير كاد يحيق بنفسي ويهكلها"  في تناص مع الآية (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا)  كما ينتقي النص الروائي أسلوبه الذي يحمل تناصا مع سورة الأنبياء في الآية 69 (يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم)  يقول" يا نار كوني بردا و سلاما على زهراء" 
_ الحديث النبوي: يستدعى الراوي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام " إنما يعضون بالنواجذ على تقوى الله و الزهد و التقشف"  كتناص مع الحديث "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" . 
_ اقتباس قولة: عمر بن الخطاب في كلام الراوي" ودائما نردد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" 
_ الدعاء في الرواية: فكون الراوي متصوفا زاهدا يلزمه الدعاء يقول " اللهم لا نسألك رد القدر وإنما نسالك اللطف فيه " ، و " الله يرضي عليك" 
_ الخطبة: وتتجلى في الرواية من خلال إلقاء مولاي علي الشريف الخطبة على المدعوين عن الأخذ بثوابت الأربعة " اعلموا معشر الموحدين المؤمنين الصادقين أن الله اختاركم لأمر جلل وخصكم به... " 
_ القصة الدينية: يوظف القصص القرآني كأشكال التناص الديني من خلال حكي إبراهيم قصة يوسف و موسى "حدثني عن يوسف وجماله وافتتان نسوة به وكيف نجاه الله من كيده وحدثني النبي عن موسى الخضر"   من خلال أحداثها نجد الراوي يعيد كتابة قصة موسى والخضر من جديد في سورة الكهف، كنص جديد بروح جديدة وشخصيات جديدة ، وتبدو آلية اشتغال النص اللاحق على النص السابق، من خلال الاستبدال، حيث يتم استبدال موسى بأبي يعزى الذي يبحث عن ملاذ وحقيقة، والخضر بالشيوخ القاضي ومولاي بوشعيب ومولاي عبد الله أمغار الذين يوجهونه إلى طريق الهدى ويستزيد من علمهم ويقتدي بتقواهم... 
     فالرواية  تتأسس على النص القرآني كنص جديد ببنيات جديدة، لتصوير حياة الأطلسي وما حدث له في الواقع ، وتأسيس رواية مغربية خالصة، في المعنى والمبنى، " تبغـي جماليـة النص وزيادة شــــحنة لذة النص فيــه مرتبطة بالواقع الاجتماعي أو التاريخي أو التخييلي الذي تطرحه الرواية" ، لذا سعى إلى توظيف اللغة القرآنية، مفردات وخصائص فنية وجمالية، فجاءت لغة السرد سلسة ذات إيقاع موسيقي، خلقته الجمل المتوازنة والتعابير الخلاقة .

 
2-2_ التراث الصوفي: 
     يتجلى التراث الصوفي في الانصراف عن اللذات وشهوات النفس والزهد في الحياة الدنيا، والمراتب التي يرتقيها الإنسان المتصوف للفناء في الله، وإدراك الحقيقة المطلقة، ووظفه الراوي عن طريق التنصيص والتناص بديلا للواقع المعيش، والاستعانة به لتصوير شخصيات الرواية، والفضاء الروائي.
     وفي هذه الرواية ذات لغة شعرية تزخر بالوصف الروحي على لسان الراوي بشكل طفيف، دون سبر أغوار فكر المتصوفة من الذكر والشطحات الصوفية، إلا من رقصات المجاذيب على حد قوله كمظهر من المظاهر التراثية التي تسجل حضورا كبيرا على أشكال متعددة نشير إلى بعضها، ووظف الخطاب الصوفي لتمديد السرد، واستمراره في اتجاه التصوف، يقول "وجدت نفسي قربا إلى فرق التصوف بشتى أنواعها بدت لي فرقا تهتم بالوجدان والقلب" 


2-2-1= الشخصية الصوفية:
_ سيرة الحلاج يروي لنا الروائي لغتيري على لسان شخصيته بعض التفاصيل عن حياة "الحلاج" التي ترمز للقدرة على مقاومة شهوات النفس أيضا يقول" وصل حبه لله لا يفرق بينه و بين نفسه وبين الله كيف كان يعشق ذات الإلهية عشقا لا مثيل له." 
    _ شخصية "إبراهيم": وهو في مرتبة المتصوف كراعي البقر والخيل ويملك كتبا كثيرة، وهو يسعى إلى الله، متصفا بمجموعة من الصفات، طرح الراوي الصوفي" حلا للتخلص من الظلم والشر،" تمنيت من أعماق قلبي لو كنت أحد أتباعه كي أصد عنه أذية الناس"   
_   الأولياء: ومن ذكروا في المتن الروائي: أبي يعزى الهسكوري وهو ولي شهير باسم مولاي بوعزة عرف بالزهد في الدنيا، يتنقل بين الشيوخ لطلب العلم ويتحول إلى واحد من أصحاب الكرامات، انتهت رحلاته بوصوله مراتب العارفين وعلاقته بكل من مولاي أبو شعيب ومولاي عبد الله أمغار. 
_  كرامات أبي يعزى: وهي كرامات " لم ينكرها العارفون بدين الله، واعتبروه مؤشرا يدل على المعجزات التي خص بها الله الرسل"  وكرامات هذا الولي حسب الرواية الشفوية، حتى أصبحت أسطورة متداولة في زمنه، وما ذكره الراوي في الرواية" إن الله حباني بكرامات منه لأنني إنسان طيب، ولا يعرف الشر أو الغل إلى قلبي طريقا" ، صلاته عيد الأضحى في مدينة أغمات "وما كاد الناس ينصرفون من صلاتهم في أزمور حتى خرج معهم قصد بيته وطلب من أهل بيته التضحية بكبش واحد دون غيره"   
عندما اختبره الشريف "عن مدى مكانته في ميدان التصوف ،وإلى أي مدى بلغت مراقيه ،فقرأ أوراده، ثم خاض في البحر، وخلفني وراءه ،فإذا بي أخرج نأيي وأتلحف حصيري، فأمشي فوق الماء وأصل عند الشريف بل أتجاوزه، وأصل اليابسة قبله"   حيث يرصد الكاتب المراحل التي يمر فيها الصوفي حتى يصل إلى مرتبة الصفاء الروحي بعيدا عن شهوات النفس.


2-2-2 لغة الخطاب الصوفي: 
     يسجل في الرواية التجلي الواضح للثقافة الدينية، التي بنى الكاتب بها معمار روايته على مستوى الأحداث، وعلى مستوى السرد، وعلى مستوى الشخصيات لتوليد سرد روائي من السرد الديني والتاريخي، للتعبير عن استمرار الماضي في الحاضر، وقراءة الحاضر في ضوء الماضي. 
    يمكن أن نلاحظ ثلاث سمات من سمات اللغة الصوفية فيها، فلغة إبراهيم تميل إلى الرمز والغموض، وتتميز بعدم الوضوح، مما يقتضي التأويل الذي يحدده محيي الدين بن عربي بأنه الاجتهاد الذي يبذله المتلقي لمعرفة معنى الكلام، وفهم قصد المتكلم ، شأنه في ذلك شأن الصوفيين الذين يميلون إلى استخدام لغة رمزية، تعتمد التلميح والإشارة، لا التصريح، يقول" كيف كان يعشق ذات الإلهية عشقا لا مثيل له حتى أنه تعرض لأصناف من التعذيب عبر يد الحكام وعلى يد العامة "   حيث طرح الخطاب الصوفي بديلا للواقع المعيش القاتم فولد سردا جديدا واستبدله بملف حكاية جديدة وقصة جديدة فيها سرد دروسا تلقاه المتصوف الأطلسي في سفره العلمي بتفان ومجاهدة النفس بعيدا عن النزوات والأهواء.
        ويمكن أن نسجل في الرواية طريقتان في توظيف الشخصية الروائية هما: تحويل الشخصية الصوفية إلى شخصية روائية، وإسقاط شخصية بطل الكرامات والزهد على شخصية بطل الرواية، وقد وظف الروائي شخصية الولي والصوفي بوصفه رمزاً للإنسان المغربي المقهور الفقير والمهزوم والعاجز من خلال تصوير الواقع، والتعبير عن الراهن..
حيث قدم الكاتب في روايته الصوفي بديلاً للواقعي المعيش، ووظف مجمل خصائص الخطاب الصوفي، والاستعانة به لتصوير شخصيات الرواية والفضاء الروائي، بالإضافة إلى إدخاله في الرواية عن طريق التنصيص والتناص.
   لقد تم تقديم النص الصوفي عن طريق الشخصيات الصوفية في الرواية، كشخصية بعض الأولياء الصالحين مثل أبي يعزى وصديقه إبراهيم والشيخ القاضي ومولاي بوشعيب وعبد الله أمغار..، وقد بنى الروائي معمار روايته ببنيات النص الديني التي تشربت منه على مستوى الأحداث والسرد والشخصيات، حيث وظف أشكال كثيرة للتناص الديني كالاستشهاد والاستبدال، حيث تكون العلاقة بين النص الحاضر والنص الديني علاقة مشابهة.


2-3 _ بعض عناصر التراث الشعبي الواردة في الرواية: 
 رصد الروائي في رواياته المجالات والمعالم الجغرافية، والحياة الاجتماعية، والروحية في المناطق الأطلسية، اذ هم بالعودة إلى الماضي، وكشف عن أساطيرها ورموزها، وجبالها التي دون عليها الأسلاف تعاويذهم، ورقاهم، وتمائمهم ووصفاتهم السحرية. واستمد عوالمه الروائية من البيئة المحلية من عادات القبائل وتقاليدهم، وأساطيرهم ومعتقداتهم الدينية، وتضم رواية "الأطلسي التائه" كثيرا من سمات التراث الشعبي أو الأدب الشعبي، التي تتحكم في بناء الأحداث التي تتوزع في الرواية، وانتقاء منها ما يخدم روايته، وقد ضمن روايته بعض عناصره، منها: 
 

_ فن السيرة :
      يتجلى توظيف الرواية للسيرة في سرد لقطات من حياة القطب أبي يعزى وحكايات بعض العارفين، الذين التقاهم كل من صديقه إبراهيم والشيخ القاضي ومولاي بوشعيب وعبد الله أمغار، رغبة في استرجاع الماضي المجيد، وإحياء القيم الاجتماعية والسياسية، يقول عن عبد الله أمغار أنه "من أهل التقوى، وقد بلغ في الأمر شأوا كبيرا جعل الأمير علي بن يوسف يستشيره في امر تسوير مراكش... وكانت تربطه علاقة طيبة مع ملوك المرابطين..."    إذ تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة بطل السيرة، من خلال تعاقب سلسلة من الأفعال التي يقوم بها بطل السيرة لتحقيق مبتغاه وإشباع حاجاته، مادية أو معنوية أو روحية، وتستدعي رحيله عن المكان الذي يقيم فيه، والذهاب إلى مكان آخر في رحلات تتخللها المتاعب والانهماك جراء السفر من أجل العلم والعبادة، ليكون بذلك مركز اهتمام السرد، منذ مغادرته منزل الشريف الشرقاوي الذي صور فيه الصراع الطبقي بين الفقراء والأعيان، إلى أن تزوج واستقر، حيث يستحضر على أنه رمز البطل (الفتوة والشهامة) الذي وقف إلى ساعد الضعفاء من الناس ومن هم في حاجة إلى المساعدة، كما أنه المثل الأعلى لطلب العلم ورمز للخير والعدل في عالم يصطرع فيه الخير والشر، والعدل والظلم، ويعم فيه الصراع الطبقي.  
_ المثل الشعبي:
    ورد في الرواية مثل قديم على لسان الراوي يقول"إذا أردت أن تشيع خبرا أو تفضح سرا اخبر به امرأة"  كما ذكر حكمة استمدها من أمه التي توصيه دائما بالصمت تقول " أن لزمت الصمت لن تخطئ أبدا وإن تحدثت لن تأمن أبدا"  
_ المعتقدات الشعبية:
     من بين بعض المعتقدات الشعبية الموظفة في الرواية نجد الأسطورة والخرافة الشائعة عن أبي يعزى وتواترها بين الناس، ليكون بذلك يكشف عن وعي جمعي، يجعل الناس يروون ما يبدو لهم ويصدقونه كحقائق موثوقة ،وهي في المقابل تعبر عن تخلف فكري وتقدم صورة الجهل المتجذر في المجتمع بعيدا عن المعرفة...يقول مثلا عن بغلته التي أهداها له الفلاح " حتى زعموا أنها في لحظات من الليل تظهر لها أجنحة وتطير في الهواء، وتنقلني إلى أماكن لا تخطر للمرء على بال" 
_ العادات والتقاليد:
     وثق الراوي العادات الاجتماعية الشعبية والأنشطة المختلفة التي تزاولها الشخصيات في معيشها اليومي، بطريقة فنية وأسلوب بديع يأسر قلب المتلقي إمتاعا وإقناعا من أبرزها: 
_ بناء خيمة لتقبل العزاء من طرف المعزين المواسين، وما يصاحب ذلك من طقوس في المجتمع المغربي يقول "بعد تقديم العزاء وإلقاء الكلمات وترتيل آيات من الذكر الحكيم، قدم الطعام للفرسان، فانهمكوا في التهامه..." 
_ حمل الهدايا من السفر من العادات التي يقوم بها المغاربة في تنقلاتهم كذكرى من المنطقة يقول: "ناولني صرة مملوءة بأشياء لا علم لي بها ،وقال محتفيا :هذه بعض الهدايا من مراكش، تناولتها بحرج." 
     كما ذكر الراوي بعض الوصفات الشعبية، لكون هواية أبي يعزى هي جمع الأعشاب والنباتات الطبية وخبرات تعلمها وصقلها من جدته يقول "... فكرت أن أمزج في وصفتي ثلاث أو أربع أعشاب حتى يكون تأثيرها أكبر فكرت في الحبة السوداء التي يسميها أهلنا السانوج وفي نبتة تشبه الزعتر... علمتني جدتي أن أسمها الزعيترة قلت في نفسي إن خلط هاتين الاثنتين وإضافة العسل إليهما فمن المؤكد أن تكون نتائج مبهرة" 
   ومن العناصر التراثية التي تحفل بها الرواية هي الرقص الشعبي ، أو ما يسمى عند المتصوفة ب "الجذيب" أو "الجذبة" اذ بمجرد سماع موسيقى بعض المجاذيب الذين يطربون بالطبول والدفوف كأدوات تقليدية حتى تملكت العفاريت والجن الروائي ويأخذنا إلى الأجواء التي اكتشف فيها صدفة نفسه وعرف حالة تميزّه عن الآخرين بعد أن تحّول إلى ما هو عليه اليوم، يصف لنا وهو يسترجع بعض الذكريات وبعض الصّور العالقة في ذهنه الحفلات الموسيقية التي عاش ألقها وانتشاءها، يقول "رأيت عددا من الرجال يتقدمون في موكب صغير أحدهم يعزف على القصبة، وآخران يحملان دفوفا يضربان بعصي صغيرة لم أتمالك نفسي فتقدمت نحوهم هائجا مائجا لا ادري ما يحدث لي انخرطت في الرقص بشكل هستيري..."   وهي أجواء سعيدة تضفي عليه الحركة والنشاط والحيوية . 
     وقد أشار الراوي أيضا الى بعض أدوات الزينة التي تستعملها النساء في التقاليد المغربية ويوثق لمرحلة تعتمد فيها المرأة على المواد المحلية لصنع زينتها يقول" من الآمور التي تستهويني كذلك الطريقة التي تزين بها أمي وجهها قد كنت مأخوذا بالطريقتها التي تمسك به المرود وتغمسه في المكحلة ثم تخرجه بعد أن يعلق به الكحل... بعد ذلك تعمد إلى قطعة من السواك تضعها في فمها" .
      ومن الأكلات الشعبية التي ذكرها الراوي في الرواية نجد "الكسكس واللبن"  كأكلة شعبية، و"خبيزة " يقول " أعددت كانونا ضخما و طنجرة تصدق بها علي أحد الصناع كنت املأها من نبات "الخبازي" "  ومن عادات المغاربة إن زارهم الضيوف يستقبلونهم بذبح كبش ترحيبا بهم، وهذا ما قام به الشريف الشرقاوي الذي "ذبح كبشا على شرفهم فأمطروه بوابل من الدعاء"  .
   و في اطار الطب الشعبي تحدث الكاتب عن بعض الأعشاب وأهميتها في جل فصول الرواية كاهتمام له بها منذ طفولته ورثها من جدته يقول "وأسيح في الخلاء بحثا عن الأعشاب... بل أصبحت اقتات"  من الوصفات العلاجية الشعبية "الصعتر لعلاج الأمراض التي يتسبب فيها البرد "الشيح" لجميع أوجاع المعدة والأمعاء و"الخزامى" لأوجاع و مداواة الشعر..." ، وعندما يمرض أحد الأفراد يتم أخذه إلى الفقيه، عندما مرضت ابنة شريف الشرقاوي "متحسرا رد الشريف "للأسف حالتها لا تتحسن رغم وعود الفقيه و تمائمه".  
3-  حضور التراث المادي في الرواية : 
    توظف الرواية بعض مواد التراث المادي لإعادة بناء الفترات التاريخية الغابرة وإحياءها ورسمها من جديد كشواهد على أنشطة الإنسان وفكره، ولإبراز الهوية الوطنية والقومية والكشف عن ملامحها في حلة جديدة ومن عناصره الشعبية. 

 

_ اللباس التقليدي:
       يعد اللباس التقليدي من أهم عناصر التراث الثقافي الذي يجسد ثقافة مجتمع ما ونسجل في هذه الرواية إبراز خصوصية الزي التقليدي بمنطقة هسكورة، حيث يصف ملابس مولاي علي الشريف يقول:" كان في أبهى حلة  يرتدي برنسا أسودا يتدلى منه خنجرا يبدو غشاؤه موشى بنقوش مختلفة الأشكال يضع على رأسه عمامة سوداء عرفت فيما بعد أنها تميز الشرفاء، ولا يضعها غيرهم وعلامة على النسب النبوي الشريف"  ويشير الروائي إلى نوع الملابس التي تستعمل في تلك الفترة حيث يصف ما لبسه "يتمسكوا ببرنسي ويسخروا من شاشيتي و قلنسوتي " 
_ أدوات تقليدية: ذكر الراوي مجموعة من أدوات تقليدية منها الفرن الطيني ، القصعة، الحصية من الدوم " أملأ الجرار والخوابي "     

 

_ حرف تقليدية: 
      اشتغلت الرواية على ذكر بعض الحرف التي في الرواية مثل حرفة النسيج يقول الراوي" كانت جدتي تمسك مغزلا وتبرم الصوف بحركاتها المتقنة الجميلة"  كمنتجات تمارس في البيوت توارثتها النساء من القدم ضمن أشغالها اليومية، وذلك بغزل الصوف ونسجه بواسطة المغازل والمناسج لإنتاج كل ما تحتاجه الأسرة من السلهام و الأغطية و الزرابي، البرانس، والجلابيب.. وأشار كذلك الى حرفة العطار " الذي يتنقل بحماره من مكان الى آخر حاملا معه كل ما يستهوي النساء ويتملك لبهن من كحل وسواك وحناء وغيرها.."      
     تحتوي الرواية كذلك على سمات التراث العمراني، من خلال إبراز ما تتميز به المنطقة التي تدور فيه أحداثها من معمار وعمران يجسد حضارتها العريقة من أسوار المدينة والكوخ، والنوالة "التي كانت في شكلها تشبه خيمة ترتفع نحو اعلى على شكل مخروطي تتلقى أعمدتها في الأعلى" و يقول "حين وصلنا إلى المسجد دخلناه بسرعة تجنبا للاعين المترصدة انبهرت بالزينة التي يتوافر عليها المسجد فقلت في نفسي " هل يحتاج الإيمان إلى كل هذه الزخرفة" 
    لا يقوم الراوي بنسخ ووصف واقع المساجد قديما، بل يسعى إلى كتابة نص جديد، يرتكز إلى ما يؤثث فضاء تلك الفترة التاريخية، يوظفه باعتباره عنصرا أساسيا، يتداخل مع العناصر الأخرى، ويشارك في إنتاج المعنى.. وعلى هذا الأساس حقق لغتيري هذا المسعى عن طريقة إعادة سرد حكاية "أبي يعزى" من جديد على مستوى الأحداث والشخصيات ووصف الفضاء أو المكان الذي تدور فيه الأحداث ورصد أعماقه وحيثياته، 

 

خاتمة:
       توجه بعض ين في العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى 
وظف الروائي التراث لتأصيلها في الموروث السردي عن طريق الشكل والمحكي ، وإعادة قراءة التراث من جديد من خلال إسقاط أحداث التاريخ على الحاضر، وقراءة الحاضر في ضوء الماضي. وقد سعى في روايته إلى مساءلة تاريخ المغرب في حقبة زمنية في عهد المرابطين، وصب فيها ما له علاقة بالدين وبالثقافة الشعبية المغربية، بما فيه التراث المادي واللامادي، عكس من خلال إبداعاته ثقافة المجتمع المغربي الشعبية، التي تتميز بالتنوع والتعدد، حيث وجد في التراث رافدا ثريا لإبداعاته، ومنبعا لانتقاء أحداث وعناصر من الثقافة الشعبية، لرصد الواقع وولادة نص سردي شهي لأكثر من قراءة ومحيلا لأكثر من معنى.

 

الهوامش:
_ القرآن الكريم.
_  مصطفى لغتيري، الأطلسي التائه، دار الآداب، بيروت، 2015 
_ تعريف  اليونسكو من نص اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي، المادة 4  
_ رفيف رضا صيداوي، الرواية العربية بين الواقع والتخيل، دار الفارابي، بيروت، ط 4،2008، 
_ حسن حنفي  التراث والتجديد ط1، دار التنوير، بيروت 1981 .
_علي عفيفي علي غازي، جريدة الحياة ، عدد 17 أبريل 2015.
_ سعيد يقطين ،انفتاح النص الروائي المركز الثقافي العربي بيروت الدار البيضاء ط2001.
_ سعيد علوش، عنف المتخيل الروائي في أعمال إميل حبيبي،  مركز الإنماء القومي، بيروت
_ عبد الله إبراهيم، السردية العربية الحديثة (تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة النشأة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 2003.
_ لسان العرب، ابن منظور، مادة ورث .
_ محمد عابد الجابري، التراث والحداثة ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991. 
 _ محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية النص)، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1992.
 _ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، "التراث الثقافي المادي "، مكتب اليونسكو بالقاهرة.
_ منصف عبد الحق، اللغة وإشكالية التأويل عند محيي الدين بن عربي، مجلة الوحدة،  الرباط العدد 60، 1989.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24