الاثنين 06 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
رواية زهر الغرام
انكشاف المألوف وصعقة الوعي - أحمد السري
الساعة 21:50 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



تعالج رواية زهر الغرام للروائي أحمد قاسم العريقي، طبيعة العلاقة بين فئة المهمشين (الأخدام) والمجتمع اليمني المحيط بهم، المشار إليه بكلمتي (القبائل أو الأسياد). تتم المعالجة من خلال واقعة زواج متخيل بين سيدِ، هو حبيب الدين وخادمة، هي زهر الغرام (زوجة ثانية) بطلة الرواية وراويتها؛ هذا الزواج غير المتوقع أصلا يُصيره الكاتب محطة ارتطامٍ بين مجتمعين، رغم تجاورهما، يظهران غريبين جدا عن بعضهما، زواج تتكشف من خلاله الخصائص الثقافية الحاكمة للعلاقة بين فئة الأخدام والمجتمع المحيط بهم.
لا جديد في الرواية حول تلك الخصائص، فهي متوارثة ومشهورة، الجديد هو إبراز طبيعة التفاعل والتعارك بين تلك الخصائص في سياقات اجتماعية متنوعة ( القرية، المدينة، العمل)، في عمل إبداعي أدبي، تجَلّى فيه بِعُري كامل المخزون الثقافي الحاكم للعلاقة بين فئة الأخدام ومحيطهم الاجتماعي. هذا العمل الروائي المكثف جعل  المألوف المتداول عن المهمشين ينكشف بحدة أمام الوعي النشط، ويحضر بطعم آخر، لاذع وصاعق، لينهض السؤال حادا  ومُشْوِكاً: إلى متى ستظل هذه الخصائص الثقافية متوارثة دون تبديل؟
ولأن هذا السؤال هو محرك الرواية ومسوغها، فهي تجيب عليه باقتراح حل لإزاحة الحاجز الثقافي العريض القائم بين فئة الأخدام والمجتمع المحيط، وتراه في "الحب"، الذي ربط بين سيد وخادمة، فهو الطَّلْسَم الذي يزيل الحواجز ويذيب الفوارق كما تبشر به هذه الرواية، وبهذا العلاج الذي يبدو بسيطاً ومفهوما، يستعيد المجتمع عافيته ويهجر التشوهات التي لا تليق بمجتمع يدّعي دوما أنه مجتمع تراحم وتضامن، لكن الحب وحده دون وعي لا يشكل حلا ناجعا، فيضيف إليه الكاتب الوعي، والوعي ليس متاحا مجانا بل يشترط العلم ليصير فاعلا. في إطار ثلاثية الحب والعلم والوعي، تدور أحداث الرواية ويكون للسرد الواضح والمباشر مفعول السحر في المتابعة واستشراف النهاية.
تظهر الرواية أن حبيب الدين عانى من شكه بسلوك زهر الغرام لدرجة أنه كان يقفل عليها الباب بقفل أو يعين جواسيسا عليها، لكنه حسم أمره معها في النهاية وتكيف، فاستمر معها وأنجب منها ثلاث بنات وولد، مع استمراره في كتمان السر عن أهله وزوجته الأولى، والعيش بعيدا عنهم، كما أبقى على زواجه من فاطمة في القرية وأنجب منها، لكن الصراع النفسي بين زهر الغرام الجديدة والقديمة ومحيطها الاجتماعي بقي ملتهبا لا يهدأ حتى نهاية الرواية، وقد صُوِّر تصويرا بديعا وواقعيا إلى أبعد الحدود، إذ لا يكفي أن يقع زواج بين (خادمة وسيد) لتنهار الحواجز المجتمعية، المترسخة، فهي تبقى فاعلة في الوعي وفي اللاوعي ولا يمكن تغييبها، وقد وعى الكاتب هذه الحقيقة فجعل نزاع زهر الغرام القديمة مع الجديدة متواصلا حتى النهاية دون حسم، بقيت زهر الغرام في المنتصف الجارح، فلا هي بقيت "خادمة" ولا قبلت من مجتمع الأسياد، فاستمرت المواجهات حادة مؤلمة وخاصة بعد الموت المبكر لزوجها حبيب الدين.
ومن خلال وعيها المكتسب بالتدريج توجه زهر الغرام نقدا لاذعا لا هوادة فيه ولا رحمة لمجتمعها الأصلي ولمجتمع حبيب الدين معا، لينكشف عواره كله، لاسيَّما من خلال الجنس، الجنس الذي استعملته زهر الغرام أداة للظفر بقلب حبيب، فهو الميدان الوحيد المتاح لها لتنتصر على ضرتها البعيدة فاطمة، لكن الجنس يحضر بكثافة بوجوه أخرى كثيرة، وقد استعمله الكاتب كما تظهر الوقائع مادة ليدين به أخلاقيات الجميع وليُظهر أن السلوك الشاذ ليس حكرا على فئة دون أخرى، وقد أبرز الكاتب من خلاله صور الأخلاق المشوهة، وظهر وسيلة مثالية لكشف الزيف الظاهر، ولم تكن زهر الغرام بعيدة عن سطوة الجنس حتى وهي قد تعلمت قيمة الوفاء واستفظاع الخيانة الزوجية، من زوجها المتدين حبيب الدين، يصورها الكاتب مشتاقة لمضاجعة بعض رجال صادفتهم في حياتها فأثاروها هم أو هي أثارتهم، مثل الطبيب الروسي في الحديدة الذي أنقذ ابنها نصر من الغرق في البحر، ومثل الطبيب الوسيم سامح الذي جعل من عيادته مكانا لإجهاض الأجنة غير الشرعيين، ولممارسة علاقات جنسية شاذة، ومع أنها تمنعت عليه وعلى من راودها إكراما لزوجها حبيب الدين الوفي والمتدين، إلا أنها باركت حضورهم في مناماتها ورأت أن الخيانة تتم هناك أيضا حتى مع بعد الأجساد.
رواية زهر الغرام، رواية كاشفة لقاع المجتمع ورأسه، لذهنياته المتوارثة في الفرز المجتمعي بين هؤلاء وهؤلاء، لهشاشة القيم المُدّعاة وتجلّي زيفها في مسالك شاذة عند هؤلاء وهؤلاء. إنها راوية صريحة إلى أبعد الحدود، لا تتخفى خلف أية استعارات أو إلماحات أو أقنعة زائفة، تقدم الواقع المعروف كما هو وتنتقده بوضوح وتنتصر لقيم الحرية والمساواة، وترى ذلك ممكنا عبر الحب والوعي، ومع أن زهر الغرام قد امتلكت وعيا جديدا رأت من خلاله بؤس بيئتها الأصلية، إلا أن الذهنية المتوارثة عن الوعي بالذات بقيت عميقة الجذور، وتعلن عن نفسها في مواقف مختلفة، ومع كل التغيير الذي حصل لها، لم تُقبل زهر الغرام من المجتمع الذي تغيرت لأجله لتكون واحدة من نسائه، وهي نتيجة طبيعية على أية حال، إذ لا يتوقع قط أن يتم التغيير الكامل والقبول التام في جيل واحد، فأصول الذهنيات المتعلقة بالتراتب الاجتماعي المتصلة باللون والعرق، تضرب جذورها بعيدا في أعماق التاريخ، ولا يتوقع اختفاؤها بمجرد التنبيه عليها، يكفي هذه الرواية فخرا أنها أول رواية تناقش العلاقة بين فئة (الأخدام والأسياد) بوضوح كامل وتقرع أجراسا في الوعي والضمائر لعلها تحرك شيئا في اتجاه تغيير بيئة المهمشين على الأقل وتطوير الوعي بالذات على نحو يبدل من قوة العادة وسطوة الإلف إلى مستوى جديد أفضل.
الرواية مليئة بالمشاهد الاجتماعية المؤثرة. قد يراها البعض غَصّت بحكايات الجنس وأغرقت في تصوير حالات الشذوذ المختلفة، وأنها لم تعف في التصوير واللفظ، لكن العذر ينهض للكاتب لكون هذه الجزئية تحديدا تقع في الصدارة من مخزون الوعي المهيمن على المواقف من المهمشين (الأخدام)، ومواجهتها كما هي أنفع لصحوة الوعي والضمير من المدارة والإلماح.
إنها رواية تضمن لنفسها  البقاء والانتشار بحكم بساطة لغتها ومباشرتها ووضوح موضوعها، ونقل الشفوي المتداول بإلف فاتر يوميا إلى المدون، وللمدون سحره من ثم في شغل الوعي بقضية دخلت عالم التوثيق الروائي، هذا التوثيق هو ما سيضمن لها ولما عالجته من قضية حضورا مجتمعيا متناميا له تأثيره في الوعي لاسيما إن تلقفت النص فئة الممثلين والمخرجين الباحثين عن نصوص وقضايا لمسلسلاتهم. أما إن قدر لهذا الرواية أن تترجم، فسيكون لها القبول ولمؤلفها التقدير بحكم ما جرت عليه العادة في الغرب من استقبال ل واحتفاء بكل أدب كاشف لعورات المجتمع الإسلامي، ومبينا لمواقع الوهن فيه، ومساهما من ثم، كما يؤمَل، في التحرر منها.
في الختام أحيي الدكتور أحمد قاسم العريقي على جرأته في هذه الرواية البسيطة في شكلها ولغتها، والعميقة فيما تناولته وعالجته من قضايا.  

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24